عام 1895 كتب الألماني فرانك ويدكند مسرحية أثار عرضها ضجة كبيرة في ذلك الحين. يومها، وعلى رغم ان دخول وسط أوروبا - لا سيما فيينا - العصور الحديثة كان قد حرر الأخلاق وجعل كثراً من الناس يقبلون أعمالاً تنسف الكثير من المحظورات القائمة، لم يتمكن جمهور كبير من استساغة كل الحرية التي سمح بها ويدكند لنفسه في تلك المسرحية التي أعطاها عنواناً دالاً هو"روح الأرض". غير أن الاحتجاجات التي جابهت عرض المسرحية ونشرها في كتاب لم تؤثر كثيراً في تقديمها. بل يمكننا القول إن هذا أوجد لها حملة دعائية ساهمت في نجاحها. وهذا ما دفع ويدكند نفسه الى ان يكتب ويصدر عام 1904، مسرحية ثانية تكاد تكمل الأولى وتتمحور حول الموضوع نفسه. حملت الثانية عنوان"علبة باندورا". ومنذ ذلك الحين جرى التعامل مع العملين باعتبارهما معاً حكاية"لولو"الشخصية الرئيسة فيهما. ومن هنا حين حقق المخرج الألماني بابست فيلماً منطلقاً من المسرحيتين أعطاه عنواناً موحداً هو"لولو"، وكذلك فعل الموسيقي آلبان برغ، حين شرع عام 1929 يلحن واحدة من آخر أوبراته:"لولو". وكان برغ قد قرأ"علبة باندورا"باكراً، ثم شاهدها على الخشبة بانتاج كارل كراوس عام 1905. وهو قرر يومها أن يلحن الأوبرا. لكنه ظل يؤجل المشروع حتى سنواته الأخيرة. ولم يكن هذا من حظ"لولو". ذلك أن آلبان برغ، فيما كان ينجز الفصل الثاني من الأوبرا ويبدأ الاشتغال على الفصل الثالث، حدث أن توفيت ابنة المهندس لوس، وكان صديقاً مقرباً منه. فترك العمل على الأوبرا ليكتب"كونشرتو للكمان"تحية للراحلة. بعد ذلك حاول مراراً العودة الى"لولو"ولم يفلح، حتى مات عام 1935، ما أبقى الأوبرا غير مكتملة، حتى وإن كان وضع بيده الكثير من ملاحظات التوزيع، وتخطيطاً للفصل الثالث والأخير. على رغم هذا كله. وعلى رغم عدم اكتمال أوبرا"لولو"، باتت منذ ذلك الحين أحد أشهر الأعمال في ميدانها، كما صارت، الى جانب أوبرا"فويتزيك"الملحنة عن مسرحية جورج بوخنر، أشهر أعمال آلبان برغ."لولو"ظلت مذاك تقدم ناقصة... بسبب عناد أرملة الموسيقي الراحل. ولهذا العناد حكاية جديرة بأن تروى: عندما مات آلبان برغ، كان من المتوقع أن يقوم صديقه وأستاذه الموسيقي شوينبرغ الذي كان آلبان برغ أخذ عنه مبادئ الموسيقى الاثني عشرية ودمجها في الكثير من ألحان هذه الأوبرا، بإكمال العمل لا سيما بتلحين ما تبقى من الفصل الثالث. وبالفعل طلب شوينبرغ من أرملة صديقه أن ترسل اليه مخطوطات ألحان الفصلين الأولين ففعلت. لكنه بعد أيام أرسل اعتذاراً مفاده أن العمل الباقي يتطلب من الوقت ما يزيد عن امكاناته لأنه مشغول في أعمال أخرى. ثم مات شوينبرغ، وظلت الأرملة مصرة على ألا يدنو أحد من عمل زوجها، طالما أن شوينبرغ لم يقم بالمهمة. وأخيراً حين ماتت الأرملة سنة 1976، صار في وسع الموسيقي فردريش تشرها، أن ينجز الأوبرا، لتقدم مكتملة للمرة الأولى عام 1979، بإدارة المايسترو الفرنسي بوليز. وهنا لا بد من أن نشير الى أن اكتمال الأوبرا لم يضف إليها جديداً... خصوصاً ان تشرها اشتغل انطلاقاً من ملاحظات آلبان برغ، وجعل ألحان الفصل الثالث، مستعارة الى حد كبير، من ألحان الفصلين الأولين ومن بعض أعمال برغ الأخرى. أحداث أوبرا"لولو"لا تختلف كثيراً عن أحداث المسرحيتين اللتين اقتبست عنهما، ولا طبعاً عن أحداث فيلم بابست الذي يعتبر من كلاسيكيات السينما العالمية. فهنا لدينا دائماً حكاية تلك المرأة التي تقدم الينا، في البداية وكأنها أفعى من أفاعي السيرك، ثم نجدها لاحقاً ضائعة متنقلة بين عشاقها وأزواجها، من مدينة الى أخرى، ومن مغامرة الى أخرى، زارعة في طريقها الموت والخراب والقتل والسجن، والفقر والانتحار للرجال الذين يغامرون بالدنو منها. ولولو يظل هذا دأبها حتى ينتهي بها الأمر أخيراً في لندن حيث تكون واحدة من ضحايا جاك السفاح. هذا هو، في اختصار، موضوع هذه الأوبرا التي ? على رغم وضوح الموضوع ووضوح دلالته التي تنظر الى المرأة على انها مصدر الشر والخراب ? تحاول أن تعقلن الأمور في شكل يتماشى مع نظرة جديدة الى المرأة، كانت بدأت تحل في القرن العشرين محل النظرة الشيطانية التي كانت تنظر اليها في العصور السابقة. فهنا في هذا العمل وبعد كل شيء، قد يكون في إمكاننا أن نتوقف لحظة لنتساءل: هل لولو جلادة فتاكة... أم هي أيضاً ضحية؟ وضحية مَنْ؟ ان من الصعب على المرء أن يخرج من هذا العمل وهو على يقين تام من انه وصل الى جواب قاطع. لكنه يخرج بالتأكيد وفي ذهنه أكثر من علامة استفهام وقدر كبير من القلق. ليس على مصير لولو نفسها - فهي في نهاية الأمر بطلة ميلودرامية من نوع جرت العادة أن يملأ الروايات وخشبات المسرح - بل على مصير مجتمع تحاول الأوبرا - كما المسرحيتان - تصوير انهياره من خلال تلك الحياة التي تعيشها لولو... وضحاياها. في هذا الإطار قد يكون ممكناً هنا مقاربة"لولو"من"الملاك الأزرق"? رواية هاينريش مان الشهيرة التي حولت بدورها فيلماً كبيراً مصورة انهيار المجتمع من خلال صورة المرأة الفتاكة، التي تستخدم الرجال قرباناً لذلك الانهيار -. وبالتالي قد يكون ممكناً النظر الى العملين معاً، بصفتهما جزءاً أساسياً من تيار التعبيرية الألمانية، الذي كانت ولادته مرتبطة بذلك القلق العنيف الذي راح يستبد بالنفوس والأذهان أمام أوضاع تمهد لظهور شتى أنواع الفاشيات وضروب التطرف، كرد على كوزموبوليتية إنسانية كانت نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين تعد بها. كل هذا أُشبع درساً وبحثاً، خلال النصف الأول من القرن العشرين. ومن المؤكد أن آلبان برغ، لم يحول مسرحيتي ويدكند الى أوبرا، قصد إعادة السجال من حوله. بل تحديداً، لأنه وجد أن في إمكان مثل هذه الحبكة المتحلقة من حول شخصية لولو، أن تعطيه إمكانية واسعة لتجارب موسيقية جديدة، تخلط الكلاسيكية بالحداثة، والنمط الغنائي التقليدي المستمد من أعمال ماهلر الذي يمثل مصدراً آخر - أكثر كلاسيكية - من مصادر ولادة موسيقى وسط أوروبا عند بدايات القرن العشرين، الى جانب المصدر الذي كان يمثله شوينبرغ وابتكاراته الاثني عشرية، مع نمط غناء الكاباريه وموسيقى الجاز الآتية من العالم الجديد والألحان الاثني عشرية. إذاً، بالنسبة الى آلبان برغ، لم تكن الغاية من تلحين"لولو"سياسية أو سوسيولوجية، بل فنية ? تجريبية في المقام الأول. ولأن لولو فنانة وراقصة، وقدمت إلينا أول الأمر كعاملة في سيرك. ولأن الجو المحيط بها، جو رسامين وبهلوانات وعالم ليلي ورقص ومجون... كان من الطبيعي لهذا كله، ان يعطي آلبان برغ، في عمل تدور أحداثه في الأزمان الجديدة، فرصة كبيرة لذلك التجريب الذي كان يحلم به منذ زمن بعيد، بالتناقض مع الموسيقى الانطباعية التي كان ألفها لأوبراه السابقة"فويتزيك". ومن هنا، إذ جرب ونجح، كان من الطبيعي بالتالي أن ينظر النقاد وهواة الموسيقى الى أوبرا"لولو"على أنها العمل الموسيقي الأكثر تعبيراً عن روح الأزمنة الجديدة. وهي كانت كذلك بالفعل. ولربما يصح هنا اعتبار عدم اكتمالها دلالة على القطيعة التي أصابت الأزمنة الجديدة نفسها، من جراء أحداث الربع الثاني من القرن العشرين وصولاً الى مذابح الحرب العالمية الثانية التي نتجت من صعود النازية وهتلر. عاش الموسيقي آلبان برغ بين 1885 و1935، وخصوصاً في فيينا عاصمة وطنه النمسا. وهو انتمى باكراً الى ما كان يسمى مدرسة فيينا الموسيقية الثانية، ومن أركانها في ذلك الحين آرنولد شوينبرغ وأنطون فيبرن، علماً أن برغ يبقى الأكثر كلاسيكية بين أعضاء ذلك التيار والأكثر اعترافاً بأبوية ماهلر، حتى وإن كان أقر في الوقت نفسه بأبوية شوينبرغ أيضاً. وعلى رغم ان آلبان برغ عاش حياة قصيرة 50 سنة، فإن هذه الحياة كانت حافلة بكل أنواع الأحداث الفنية والعائلية. وهو بدأ دراسة الموسيقى عام 1904 لا سيما مع شوينبرغ الذي علّمه نظريات الموسيقى والتأليف والهارمونيا. وقد دنت الشهرة من آلبان برغ حين لحن واحداً من أعماله الأولى المهمة:"7 أغان مبكرة"، علماً ان برغ قدم بنفسه ثلاثة من ألحان هذه الأغاني في حفل أقيم لطلاب شوينبرغ في فيينا عام 1907. وهو بعد ذلك واصل التلحين، في مجالات الأغاني والكونشرتو والأوبرا وسوناتا البيانو، ما جعله واحداً من أشهر أبناء ذلك الجيل. [email protected]