لم ينس مشاهد الحروب التي صورها، وكيف شاهد آلاف الأبرياء يدفعون ثمن حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ورصد بكاميراه أناس يتظاهرون من أجل عقيدتهم أو بحثهم عن لقمة العيش من وسط تلك الحياة الصاخبة ورائحة الموت، ومن يحاولون رسم بهجة الحياة من جديد. هو المخرج الشاب إبراهيم البطوط"الأب"الروحي للسينما المستقلة في مصر - والذي وعى تماماً أن الكاميرا هي ما يقربه من البشر، يرى من خلالها انفعالاتهم وحقيقتهم التي كثيراً ما يحاولون إخفائها. وعلى رغم أن البطوط حاصل على بكالوريس في علم الفيزياء من الجامعة الأميركية، كانت الصدفة وراء عمله في المجال الإعلامي مصوراًَ حربياً لفترات طويلة... وهو ما كشف له عن موهبة لم يكن ملتفتاً إليها. ومن منطقة سينما الحياة خرج البطوط وأمسك بكاميراه ليصور فيلمه الروائي الثاني"عين شمس"منطقة سكنية شرق القاهرة ويهديه إلى أهل تلك المنطقة الذين قاموا بخدمته وأنقذوه بعد أن أصيب بطلق ناري أثناء قيامه بتصوير تظاهرة للإسلاميين عام 1988 وقت كان المد الاسلامي على أشده بكاميراه يومها ورصد البطوط لحظات انهالت الشرطة بالعصي والقنابل المسيلة للدموع على المتظاهرين. ومن تلك اللحظة قرر أن تكون سينماه عن هؤلاء الناس الذين يعيشون بيننا ويملكون هموماً حقيقية بعيداً من الصورة الوردية التي تروجها السينما التجارية. وشاركه المنتج والمخرج شريف مندور في تكلفة الفيلم الذي قدمه بمجموعة من الوجوه الجديدة عملوا معاً من دون الحصول على أجر. وبعدها قام المركز السينمائي المغربي بدعم الفيلم متحملاً 80 في المئة من تكلفة تحويله من ديجتال الى 35 ملم. ونال الفيلم إعجاب النقاد الذين شاهدوه في عروض خاصة، ما رشحه للعرض في السوق الرسمية لمهرجان كان السينمائي الدولي في دورته المقبلة. ولكن المخرج إبراهيم بطوط فوجئ أن الرقابة المصرية تمنع دخول نسخة الفيلم إلى مصر بدعوى أن الفيلم لم يعرض كسيناريو على الرقابة، ولم يحصل على ترخيص بالتصوير، وعلى تصاريح التصوير في شوارع القاهرة. لم يفهم البطوط المنطق الرقابي لذا يعلق قائلاً:"صورت فيلمي بتقنية الديجتال وفي شكل حر لتتاح لي فرصة التحرر من الشكل التجاري. ووفقت بعد عناء في تحويله إلى نسخة 35 ملي". ويتساءل:"لماذا يتم التعامل مع التجربة بمنطق الأفلام التجارية؟ وأعتقد بأنه لو فكر مسؤولو الرقابة في مصر بهدوء سيجدون أن فيلم"عين شمس"يعتبر خطوة الى الأمام في السينما المصرية ليس لأنه فيلم عظيم ولكن لسبب يتعلق بكيفية صناعة الفيلم وهي الطريقة التي ستكون دافعة لعشرات المخرجين ليقوموا بعمل أفلامهم الخاصة وهو ما سيضيف الكثير الى صناعة السينما في مصر". وأضاف:"من المدهش في ظل هذا التطور ان نظل نتعاطى مع الفن بنفس منطق ثلاثين عاماً مضت، وللأسف يصبح طموح المبدع مرهوناً بتصاريح وأوراق رسمية". البحث عن حلول حاول البطوط مع بعض أصدقائه البحث عن حلول مع الرقابة على المصنفات الفنية في مصر، فطُلب منه التقدم بنسخة من سيناريو الفيلم الى الرقابة على أساس أنه ما زال قيد التصوير - وبمنطق استكمال الشكليات من أجل استخراج الأوراق الرسمية ليدخل الفيلم إلى مصر. رفض البطوط هذا المنطق مؤكداً أن الكل يعرف أنه انتهى من تصوير فيلمه، ونشرت أخبار عن ذلك وعن تحويله إلى نسخة 35 مللي، وعن فرصه في المشاركة بالعديد من المهرجانات الدولية وتساءل:"لماذا عليّ أن أتخذ هذا المنهج وأتحايل لتحل مشكلتي؟ في حين أن على القائمين على الرقابة ووزارة الثقافة ان يضعوا الفيلم في إطار أنه تجربة مختلفة". من جانبه، علق رئيس الرقابة على المصنفات الفنية في مصر الناقد علي أبو شادي قائلاً:"فعل ابراهيم البطوط ما يريد والآن يطالب بإلغاء الرقابة. أنا حاولت احتواء المشكلة بعد محادثة هاتفية بيني وبين صديقه المخرج تامر السعيد، ولكنني أؤكد انني قانونياً لا أستطيع عرض الفيلم أو إدخاله مصر. ولا حتى وزير الثقافة يستطيع تخطي القوانين. الحل الوحيد هو أن يتقدم الفيلم الى الرقابة بصفته مصنفاً أجنبياً!.. مغربياً مثلاً - مثلما حدث في حال"باب الشمس"للمخرج يسري نصر الله والذي قدمه على أنه انتاج فرنسي". قد يكون منطقياً ان علي أبو شادي لا يملك حلولاً ولا حتى وزير الثقافة يملك مثل هذه الحلول، ولكن حال ابراهيم البطوط وفيلمه"عين شمس"تطرح تساؤلاً مهماً: في حال مشاركته في المهرجانات وحصوله على جوائز بالتأكيد سنهلل على اعتبار أنه فيلم مصري وليس مغربياً. خصوصاً أن الفيلم صور في مصر بممثلين مصريين والمخرج مصري والإنتاج مصري - مغربي، فهل سنترك البطوط يذهب الى المهرجانات ويحصد الجوائز باسم دول أخرى؟ والمدهش حقاً أن الأساس في مصر هو الاستثناء من القوانين، فلماذا لا يتم البحث عن حل يرضي طموح شباب المبدعين في السينما المصرية من خلال لجنة السينما؟ والى متى سيظل حال السينما في مصر مرهوناً بقوانين وضعت منذ الخمسينات، تستحق تجربة البطوط وغيره من المبدعين التعامل معها بآلية مختلفة، بعيداً من تعسف القوانين، وبنود اللوائح، خصوصاً أن الإبداع ليس له أفق أو حدود.