بشاعرية مرهفة وشفافية أنثوية، تأسر ماغي مرجان المشاهد في فيلمها الروائي الطويل الاول «عشم»، وتمدّه بشحنة عاطفية تخترق الأعماق. ست شخصيات تلاحقها عين الكاميرا بنبض سريع يعكس نبض القاهرة بزخمها وضوضائها. أبطال مأزومون تتقاطع حيواتهم حيناً وتبتعد أحياناً. حكايات يعصرها الألم ووجوه غارقة في وحشتها، تتصارع على مسرح الأحداث المفتوح على كل الاحتمالات. لا ادعاءات كبيرة في فيلم «عشم»، بل قضايا كبيرة تدنو منها المخرجة ببساطة تلامس المرء في العمق، اتكاءً على لعبة «الأنا» و «الآخر»، فتضيع معها الحدود وتتسع الآفاق في انتصار للإنسان قبل أي شيء آخر. انتصار كان له أثر كبير في تجوال الفيلم في المهرجانات السينمائية، وآخرها هذا الأسبوع في مهرجاني وهران الجزائري وسلا المغربي بعدما خطف جائزتي أفضل إخراج ومونتاج في مهرجان مالمو في السويد. «الحياة» التقت المخرجة المصرية في المدينةالسويدية وحاورتها عن تجربتها الاولى في السينما الروائية الطويلة. يشبه إيقاع فيلمك القاهرة بزخمها وضوضائها وتشابك الوجوه والأحداث. هل حرصت على ان يكون نبض الفيلم من نبض المدينة؟ - القاهرة مدينة كبيرة جداً تضم عدداً ضخماً من السكان الذين يتلاطمون يومياً بسبب الزحمة. شعرت أن من الصعب عليّ أن أصوّر هذه المدينة من دون صخب ناسها. أولئك الذين تصادفينهم كل يوم، من دون أن تتنبهي إليهم أحياناً كثيرة، مثل عامل الأمن أو عاملة التنظيف. أناس تتقاطع يومياتك معهم من دون أن تعرفي ماذا وراء وجوههم. وبصراحة، عندما بدأت الفيلم، شرعت بالكتابة عن قصة أو اثنتين، لكنني سرعان ما وجدت نفسي أمام 6 شخصيات متوازية. كان الأمر أشبه بمن يحاول التقاط صورة جماعية، وكل مرة يتوقف لانضمام فرد جديد الى الكادر. وهكذا وجدت نفسي في الفيلم أضيف قصصاً أكثر داخل الصورة. ينتمي فيلمك الى موجة سينمائية تسير على نمط أفلام أليخاندرو إنياريتو (خصوصاً «بابل») لناحية اعتماد اسلوب القصص المتوازية. كيف تفسّرين هذا التوجه عند عدد لا بأس به من السينمائيين؟ - كنت أطرح على نفسي هذا السؤال. وبالفعل يبدو أن هناك موجة تأخذ هذا المنحى. وأعتقد بأن السبب يعود الى وعي عند كثيرين من الكتاب والمخرجين بأن الدنيا أرحب مما نظن. هناك صحوة حصلت في العالم العربي. وهناك أفراد تنبهوا الى أن هناك أشخاصاً مختلفين عنهم موجودون أمامهم. مشكلتنا هي أننا لا نعير انتباهاً للآخر المختلف على رغم اننا قد نكون نتشارك وإياه البيئة ذاتها. في مصر مثلاً، هناك أفلام كثيرة تُحقق حول المهمشين، لكنني لم أشأ أن أصنع فيلماً عن هؤلاء، بل أردت تسليط الضوء على التشابه بيننا جميعاً، وأن كل واحد منا قد يكون مهمشاً بطريقة او أخرى حتى ولو لم يكن من سكان العشوائيات. سينما الانسان يستند الفيلم الى «سينما الإنسان» التي تحاكي هموم الفرد في المجتمع. - صحيح، أحب سينما الإنسانية التي لا تكون مبنية على أحداث كبيرة. ولو تأملنا قليلاً في يومياتنا، سنجد أن هناك أحداثاً قد لا نلاحظها يكون لها أثر كبير في مجرى حياتنا. هذه اللحظات هي التي شغلتني في الفيلم وشكّلت عموده الفقري. لم تغب ثورة 25 يناير عن الفيلم رغم أنها موجودة في مشهد يتيم حين يلتقي اثنان من أبطال «عشم» في مصعد، فتسأل الفتاة الشاب إن كان سيشارك في التظاهرات فيجيبها ولمَ أنزل... صار لدي وظيفة؟ - كل ما في الفيلم له علاقة بالسياسة وإن لم يبد ذلك في شكل مباشر. فعندما اتحدث عن سيدة مرتعبة من فكرة مرض زوجها بالسرطان، خصوصاً انهما من دون تأمين صحي، فهذا كلام بالسياسة. وحين أصوّر أزمة فتاة تعمل من دون حقوق، فهذا حديث بالسياسة... قصص كثيرة في الفيلم لا يمكن إبعادها عن السياسة، لكنّ ما شغلني هو تصوير انعكاسها على الحياة اليومية للشخصيات. باختصار أردت في هذا الفيلم أن أترجم قضايا كبيرة، ولكن من دون ادعاءات كبيرة. ماذا عن الصعوبات التي واجهتها خلال مراحل إنجاز الفيلم؟ - لم يكن الامر سهلاً على الإطلاق، ولولا عملي مع المنتج محمد حفظي والمخرج أحمد عبدالله لما أبصر «عشم» النور. ولا اتحدث هنا عن ضآلة الإنتاج فحسب. فالمشكلة ليست هنا، بل في كوننا نعيش في بلد فاسد، قوانينه غير واضحة، وسوقه محدودة نتيجة الاحتكار الكبير في توزيع الأفلام. من هنا، إن لم يكن أي وافد جديد الى هذا العالم على اتصال بالشركات الكبيرة، فلن يتمكن من توزيع فيلمه. ولو لم أشتغل مع أشخاص أصحاب خبرة لما تمكنت من عرض الفيلم على الجمهور. ما هي حظوظ فيلم لا نجوم فيه بالوصول الى الجمهور؟ - بصراحة، حظوظه قليلة جداً. ولا أخفي عليك حادثة تكررت أكثر من مرة أثناء عرض الفيلم في الصالات في مصر. فعندما كان أصدقاء لي يتوجهون الى شباك التذاكر لشراء بطاقات دخول، كانوا يفاجأون بعامل السينما يقول لهم، ولماذا تختارون هذا الفيلم... لا نجوم فيه؟ ومع هذا أعتقد بأن هناك وعياً أكبر اليوم في التعاطي مع الأفلام المستقلة منه قبل 10 سنوات تقريباً حين عرض فيلم «عين الشمس» لابراهيم بطوط الذي يعد أول فيلم مستقل يعرض في الصالات. حينها دام الفيلم أسبوعاً واحداً ثم كرّت السبحة مع محاولات لسينمائيين آخرين وصولاً الى «عشم» الذي بقي 6 أسابيع في الصالات. هذا لا يعني أن «عشم» أفضل من «عين شمس»، بل إن الناس بدأت تعتاد على أفلام من هذه النوعية. ولو عرض «عين الشمس» اليوم، لكان حقق أرقاماً مختلفة. هل تجدين أن دور صناع السينما المستقلة أن يأخذوا الجمهور الى عالمهم لا الذهاب الى حيث يريد الجمهور؟ - يجب أن نلتقي في منطقة وسط. هذا ما فعلته مثلاً نادين لبكي في لبنان. عرفت كيف تمزج بين صنع فيلم جيد واستقطاب الجمهور... ويا حبذا لو يجد أحدنا في مصر هذه المعادلة. ما اخشاه هو أن يضطر الواحد منا لتحقيق أفلام من دون قناعاته من أجل الجمهور فقط. هذا إغراء كبير، خصوصاً أنك تجدين دعماً مادياً بسهولة أكبر. لكنّ ما أريده هو أن أصحو صباحاً خلال إنجاز فيلم وأنا متلهفة لتصوير السينما التي أحبها، لا السينما التي أحققها على مقياس من أمّن التمويل. هل ترين أن شروط السوق ستساهم في تراجع السينما المستقلة؟ - لا اعتقد ذلك، والدليل ان عدد الأفلام خلال السنوات الأخيرة الى تزايد لا العكس. ثم لا أدري ما هو المعيار لتصنيف فيلم مستقل وآخر غير مستقل. قبل جيل ابراهيم البطوط وأحمد عبدالله وهالة لطفي وأنا، حقق يسري نصرالله فيلم «المدينة»، ومحمد خان فيلم «كليفتي». إذاً، كانت هناك محاولات، والمهم ان صالات السينما بدأت تفتح أبوابها لهذا النوع من السينما. النجوم والسينما المستقلة لماذا غاب النجوم عن فيلمك؟ - التقيت أمس الفنانة درة، وفوجئت بها تقول انه لو عرض عليها مخرج مستقل فكرة فيلم جيدة، ستقبل ولو من دون «فلوس»، لكنّ المشكلة تكمن في السينمائيين الذين يُبعدون النجوم عن حساباتهم. وهذا صحيح. فعندما بدأت الفيلم لا يمكن القول انني فكرت بأحد النجوم ثم خفت وتراجعت، بل إنني لم أفكر حتى بأي منهم بما انني أعرف انهم يتقاضون الملايين في مقابل مسلسل واحد، فكيف سيوافقون على العمل لشهرين من دون بدل أتعاب يذكر؟ حققت الفيلم بموازنة ضئيلة جداً (مليون ونصف مليون جنيه مصري) واعتمدت على الصداقات للتصوير في أماكن معينة على رغم ان التصوير يرهق المكان، أما الممثلون فلم يتقاضوا الكثير. جميعنا صنعنا الفيلم بدافع الحب لا بدافع مادي. ماذا عن تجربة العمل مع ممثلين غير محترفين؟ - لم أشعر بأنني أمام ممثلين غير محترفين. صحيح أن بعضهم يقف أمام الكاميرا للمرة الأولى، وبعضهم يعيش من هذه المهنة، لكنّ الاكيد أن كثيرين منهم سيصبحون نجوماً يوماً ما... وقد بدأ بعضهم بسلك هذه الدرب. فيلمك قائم على المونتاج. حدثينا عن تجربة العمل مع أحمد عبدالله؟ - تعرفين أن احمد عبدالله قبل ان يتوجه الى الإخراج كان مونتيراً، لكنني لم أجرؤ أبداً على التفكير به لتوليف الفيلم. من هنا عندما اقترح المنتج محمد حفظي اسمه عليّ، كانت فرحتي كبيرة. ولقد سعدت بالعمل معه الى جانب هشام صقر، إذ عملنا نحو 8 الى 9 شهور، وكان همنا أن نبين زحمة المدينة وإيقاع مصر السريع. ماذا يعني لك فوزك في مهرجان مالمو بجائزتي الإخراج والمونتاج؟ - هذا الفوز يعني لي الكثير. فمن منا لا يفرح بالتكريم سواء كنا في أول الطريق أو كانت لنا خبرات طويلة؟ الفرق ان الجائزة حين تمنح لمخرج مبتدئ تمنحه دفعاً قوياً، فيما تتحول عند المخضرم الى مجرد رقم بين الجوائز الكثيرة المركونة على الرّف. كيف تصفين ما واجهه الوفد المصري من مضايقات في مهرجان مالمو على يد شبان ينتمون لجماعات إسلامية متشددة؟ - ما حدث لا يبتعد عن السيناريو الكلاسيكي. هناك فئة تريد إسكات الآخر وإلغاءه، وكأن العالم لا يتسع للجميع. هل تؤمنين بقدرة الفنون على لعب دور أساسي في مقاومة سياسة إلغاء الآخر؟ - للفن دور محوري في هذا المجال. فمن خلال عالمه الرحب يمكن المرء أن يصل الى قناعة بأن الآخر المختلف عني هو إنسان قبل أي شيء آخر. ولهذا لا بد من محاربة الكليشيهات والأفكار المسبقة. وليس جديداً عداء المتشددين للفنون. نجيب محفوظ مثلاً تعرض لمحاولة قتل، فرج فودة قُتل فعلاً، يوسف شاهين هُدد مرات ومرات، تيو فان غوخ قُتل في أمستردام... لكنّ أعمالهم بقيت صامدة.