كتب أحدهم مرة عن كينو ريفز، بطل ثلاثية "ذي ماتريكس" وهي من أفلام ما يُعرف بالخيال العلمي، فأشار إلى أنه من مواليد بيروت، من أب ذي أصول ملتبسة تعود إلى الصين وإلى هاواي، ومن أم إنكليزية، وأنه إلى ذلك كندي الجنسية، وأنه أخيرا ممثل أميركي، واستخلص الكاتب المذكور، ربما بشيء من الحماس الموغل في التفاؤل، من هذه السيرة"الكوزموبوليتية"أننا دخلنا عصر الهجنة، هجنة الجينات ناهيك عن هجنة الثقافات والأفكار، وأن الخلاسي هو، بلا منازع، رمز عصرنا هذا، وهو بالمناسبة عصر كثير التسميات صاخب التعريفات، فهو"ما بعد حداثي"لمن ادعى في العلم فلسفةً، وهو"ما بعد صناعي"أو"عصر معلومات"لمن آثر توصيفا تقنويا باردا، وهو أخيرا، وليس آخرا،"عصر العولمة"لمن توخى المصطلحات السيّارة. ما أعاد إلى الذاكرة ذلك النص، مغامرة باراك أوباما، التي بدأت تأخذ، مدى وتأثيرا، هيئة الملحمة. فهذا رجل كان نكرة أو غفلا قبل فترة وجيزة، طارئ على الحياة السياسية الأميركية، وفد من هوامشها المتواضعة أو القصية، لكنه سرعان ما احتل منها موقع القلب. قام منافسا في وجه سيدة، هيلاري كلينتون، كانت تلوح المرشحة الطبيعية، مرشحة تحصيل الحاصل، للحزب الديموقراطي، فضايقها ثم أحرجها ثم أضحى على أهبة إطاحتها. جاءه الدعم من حيث لم يكن متوقعا، من أسرة كينيدي ومن شباب يُفترض أنه ضاق ذرعا بالسياسة ونبذها إلى الترفيه وإلى ألعاب الفيديو، ومن نساء كان يُعتقد أن ولاءهنّ لهيلاري كلنتون مفروغ منه لا تشوبه شائبة. مرشح غير نمطي في بلد كان يُعتقد أن حياته السياسية منمّطة إلى أبعد الحدود، تتحكم في مآلها وجاهات استقرت واستتبت لها الأمور،"أسَرٌ حاكمة"، تسيطر على المال والميديا، وتنظمها"قوانين"غير مكتوبة، ولكنها صلدة لا تُخرق، تضع كل فئة، في مجتمع قوامه التعدد والانقسام، في منزلة لها لا تبرحها وتقنع بها، فإذا المتطلع إلى الرئاسة حتما ذكَر واسبي أبيض انكلوساكسوني بروتستانتي، فلم تُخرق تلك القاعدة إلا مرة واحدة انتهت على نحو مأسوي، بفوز جون كينيدي، الإيرلندي الكاثوليكي، ومقتله. في"بيئة"كهذه، يبدو بروز باراك أوباما والحظوة التي نالها أمرا غير مرجح، يغالب حتميات قائمة، سُكّتْ قوانين مكتوبة أو استقرت في الأذهان أشد سطوة، ويكاد يجبّها. فهو، شأنه في ذلك شأن بطل ثلاثية"ذي ماتريكس"، يستوي على تخوم انتماءات شتى، أو عند نقطة التئامها أو افتراقها، لا فارق، لا يستوفيه أي منها. قد يكون مثل ذلك آية طرافة، لا تستفز ولا تستثير، عندما يتعلق الأمر برجل من عالم الترفيه، وهذا يستقي شرعيته، بمعنى من المعاني، من مفارقته للعالم الواقعي ومن منافاته له، ولكنه يتخذ مدى ثوريا عندما يتعلق الأمر برجل، مثل أوباما، يخوض معترك الشأن العام ويطلب السلطة، في مجتمع درج على إعادة الأفراد إلى أصولهم، علما بأن السلطة تلك هي الذروة الدرامية لكل اجتماع بشري، ضالعة في الدنس إلى حد الإجرام وفي التسامي إلى حد القداسة، مجال ما وراء الخير والشر. بهذا المعنى، يلوح أوباما أميركيا غير"طبيعي"، أميركيا بالإرادة أو أميركيا"وضعيا"أو أميركيا بالترجيح، طالما أن أصوله كانت تشرع في وجهه احتمالات انتماءات شتى. صحيح أن والدته أميركية بيضاء، تتحدر من أسرة توماس جفرسون، ثالث رؤساء الولاياتالمتحدة وأحد آبائها المؤسسين، ولكن ذلك ما كان يمكنه أن يشفع له في بلد أقام على تمييز عنصري مديد بعيد الغور. لذلك، كان بإمكانه أن يكون كينيا، أسوة بوالده، أو إندونيسيّا، حيث عاش جزءا من طفولته، بعد زواج أمه الثاني من رجل من تلك البلاد، وحيث ارتاد مدرسة إسلامية. حتى سواد بشرته النسبي وتاريخه الشخصي الذي لا يندرج في تاريخ الرق والعبودية الأميركيين، يحولان دونه والانتماء الناجز إلى سود الولاياتالمتحدة. أما اسمه، فيبدو، لفرط غرابته في البلد الذي يطمح إلى رئاسته، كأنه من اختراعه. ليس من شخص لا تنم سيرته عن هويته ولا تفيد بها، أكثر من أوباما. لعل ذلك ما أدى إلى اختراع خانة"تحتويه"لم يكن لها وجود، أقله عندما يتعلق الأمر باختلاط الأبيض والأسود، هي خانة"الخلاسي"، بحيث ربما كان أوباما أول خلاسي تنجبه الولايات. قبله، كان الخلاسي متعذر الوجود، وهو تعذر ليس بالبيولوجي بطبيعة الحال، ولكنه من طبيعة ثقافية، بل قانونية، ما قد يجعله التعذر الأشدّ. كان كل من خالط دمه قدر من الدم الأسود، يسير أو كثير، لا تتسع له خريطة الأعراق، يعدّ زنجيا. كان الخلاسي ذلك الشاهد الحي على اختلاط ما كان يجب أن يحصل، ويعتبر حصوله خطأ وخطيئة، فينكر ويُبطل ويلغى بأن يصار إلى نسبته إلى العرق الأسود، إصرارا على الفصل العنصري وتبرؤا من كل آصرة"قرابة". ومن هنا فرادة تجربة أوباما، وهذه بطبيعة الحال تتخطى شخصه وكفاءته وأحقيته في تولي الرئاسة من عدمها. فهو لم يكتف ببعث الخلاسي إلى الوجود، كائنا يحظى بالاعتراف، بالمعنى الذي سبقت الإشارة إليه، بل أسبغ عليه قيمة وإيجابية، واقترحه وجها مستقبليا للولايات المتحدة. هذا هو إسهامه الأكبر وليس سعيه إلى نيل الترشح في الانتخابات الرئاسية، فهو ليس أول"ملوّن"يخوض هذا المسعى، على ما نوّه مرة بيل كلينتون على نحو لا يخلو من خبث وفي معرض دعمه لزوجته. فقد سبقه إلى ذلك القس جيسي جاكسون، أحد كبار دعاة الحقوق المدنية والأمين على إرث مارتن لوثر كينغ، لكن جاكسون خاض حملته، التي باءت بالفشل، تحت شعار"قوس قزح"، أي مصالحة الأعراق مع الإقرار بتمايزها وانقسامها، أي في نهاية المطاف مع الإقرار بها أفقا أو واقعا لا يُتجاوز، في حين أن دعوة أوباما تنشد أميركا"خلاسية"بالمعنى الإيجابي، أي ما بعد عرقية أو ما بعد"طائفية"إن جازت العبارة، وهي تجوز على الأرجح ولا"يحول"دون جوازها إلا اعتيادنا على اعتماد ذلك اللفظ في توصيف حالة المشرق العربي، حتى حسبناه لا ينطبق إلا عليها. غير أن ما هو أهم وأبعد دلالة من وجود شخص مثل أوباما، يرفع مثل تلك الدعوة ويصدح بها، هو وجود استجابة واسعة والتفاف كبير كذينك اللذين تبديا وما انفكا يتبديان تصاعدا خلال الأشهر الأخيرة، حتى أضحيا في وارد تمكين أوباما من الفوز بترشيح الحزب الديموقراطي على حساب شخصية من وزن هيلاري كلينتون. ما يفيد بأن الدعوة تلك تلاقي هوى من أوساط واسعة في الولاياتالمتحدة، أقلة بين ناخبي الحزب الديموقراطي، وبأنها لا تنحصر في فئة دون سواها، وذلك هو التحوّل الأكبر الذي يبدو أن الحياة العامة الأميركية بصدد اختباره على نحو غير مسبوق. صحيح أن أوباما يحظى بتعاطف كبير، نكاد نصفه بالتلقائي، بين الأفارقة الأميركيين، يتعرفون على أنفسهم فيه ويتماهون مع نجاحاته، ولكن ما يبدو مؤكدا أن جمهوره"أميركي"، أي غير فئوي، يستقطب الشرائح المتعلمة والمنفتحة من البيض، والنساء اللواتي يبدو أن هيلاري لا تحتكر تمثيلهن ولا تستأثر بدعمهنّ، ناهيك عن الشباب. هناك إذاً ما يشبه نسمة من تحرر بدأت تهب من الولاياتالمتحدة، تيارا بات ماثلا مهما كان المآل الانتخابي لباراك أوباما، فوزا أو إخفاقا في ترشيح حزبه أو في الرئاسيات. المهم أن التيار ذاك تبلور حول أوباما، سواء كان هذا الأخير باعثه أو أداته التي توسلها، وأن التيار ذاك يمثل أول محاولة لتجاوز الخصوصيات والهويات الصغرى، الضيقة والمتناحرة، والتي كانت نصيبنا من العولمة حتى الآن-تلك العولمة التي فتحت مجال المعمورة سوقا واحدة ولكن على حساب القيم الكونية التي كانت الحداثة، في أطوارها الأولى والسابقة، قد بشرت بها.