دأبت العقلية العربية على التعامل مع الأحداث الكبرى والتحولات العظمى من خلال التفسير التآمري للتاريخ من دون اللجوء إلى الأساليب العلمية في التحليل والغوص في أعماق المشكلات، ونحن من جانبنا لا ننكر وجود المؤامرة على امتداد التاريخ البشري كله ولكننا نرفض التفسير العفوي الذي يتعامل بتلقائية شديدة مع الأحداث من خلال الاسترخاء الكامل والتسليم بأن وراء كل موقف تكمن مؤامرة خفية تستهدف فقط الأمة العربية أو الشعوب الإسلامية. وهذا الأمر في مجمله جرّ علينا الكثير من المصائب والنكبات نتيجة استسلامنا المريح لسوء التأويل وغموض التفسير والتمادي في تحميل الآخر تبعات كل ما يحدث، وأنا أتصور هنا أننا لو خرجنا من عباءة الأحلام والأوهام ودخلنا في بوابة العصر بكل مفرداته وكامل معطياته، فإننا نستطيع أن نقدم للعالم صورة مختلفة، بل نعطي لأنفسنا قيمة نشعر نحن بافتقادها وغياب وجودها، ولعلي أشير هنا وبوضوح إلى أن قضية الحريات الفردية والعامة هي مفتاح الخلاص من هذا الفقه العنكبوتي المضلل، وأطرح رؤيتي من خلال المحاور التالية: 1- لا يختلف اثنان على وجود المؤامرة في التاريخ البشري منذ طفولة الإنسان الأول، ولو أخذنا النماذج القريبة فإنني ممن يظنون أن سقوط الخلافة الإسلامية وانهيار حكم آل عثمان كان نتيجة مؤامرة كبرى قادها مصطفى كمال أتاتورك ابن اليهودية القادم من سالونيك، كما إنني أظن أن سقوط الاتحاد السوفياتي السابق كان هو الآخر نتيجة مؤامرة شارك فيها البابا الراحل يوحنا بولس الثاني عندما أيد حركة"تضامن"في بولندا موطنه الأصلي ودق بذلك أول مسمار في نعش الستار الحديدي، كما أن دور غورباتشوف آخر رئيس للاتحاد السوفياتي لا يزال هو الآخر محل غموض وتساؤل. كذلك لا يختلف اثنان على أن مصرع الرئيس الأميركي جون كينيدي كان هو الآخر نتيجة مؤامرة محكمة ممن كانوا يرفضون التغيير الذي كان يبشر به ذلك الرئيس الأميركي الراحل، فقد لقي قاتله حتفه في سلسلة متوالية أنهت إلى الأبد معالم المؤامرة. كذلك فإن موت الأميرة ديانا يعبر هو الآخر عن مؤامرة من نوع خاص تبدأ من دسائس القصور وكواليس العروش وتنتهي في نفق ملتو في العاصمة الفرنسية، فنحن لا ننكر إذاً وجود المؤامرة في التاريخ ولكننا نرفض تفسير كل شيء في الوجود بها ومن خلالها. 2- إن مؤامرة السويس سنة 1956 والتي نجم عنها العدوان الثلاثي على مصر تمثل هي الأخرى نموذجاً لمؤامرة دولية تكشفت أبعادها واتضحت معالمها، ولقد أتاحت لي الظروف أن أشارك عام 2006 في ندوة في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن في الذكرى الخمسين لتلك الحرب الحمقاء، وطالبت في محاضرتي بضرورة اعتذار بريطانيا وفرنسا عن مشاركتهما في تلك الجريمة على اعتبار أن إسرائيل- الفاعل الأصلي والشريك الأساسي- لا تعتذر لأحد ولا تقبل الإدانة فهي خارج إطار القانون الدولي والأعراف السياسية. ولقد قوبل طلبي ذلك بالدهشة لأن ثقافة الاعتذار التي بدأها اليابانيون لم تصل بعد إلى الضمير الغربي، فقد اعتذر ابناء ذلك البلد الآسيوي الناهض عن بيرل هاربور بينما لم يعتذر الأميركيون عن جريمتي هيروشيما وناغازاكي، فالمؤامرة ليست فقط ذات طابع فردي ولكنها تعبير عن حدث ضخم يتأثر به مسار الإنسانية ويصعب تفسيره في حينه. ولكننا نعود مرة أخرى ونقول إن ذلك التسليم بوجود المؤامرة الفردية والجماعية، المحلية والإقليمية والدولية، لا ينهض دليلاً كافياً يدعونا إلى الإيمان بفقه التآمر والارتماء في أحضان التفسير السهل الذي يرى أن كل انتصار علينا أو انجاز لأعدائنا إنما هو مؤامرة ضد العروبة والإسلام. 3- إننا نبدو أحياناً وكأننا خارج دائرة الزمن لا ندرك طبيعة ما يجري حولنا ولا نتفاعل مع ثقافة العصر وروحه وأنا ممن يظنون أن الحريات هي مدخل طبيعي للخلاص من قيد التفسير التآمري والاستسلام المطلق له. ولعلنا نتذكر جميعاً أن نكبات الأمة ونكسات شعوبها ارتبطت بالحكم الفردي وغياب الديموقراطية واختفاء الحريات. ولعلنا نتابع في السنوات الأخيرة ما جرته الدكتاتورية الفردية الحاكمة على بلد عظيم مثل العراق الذي يعتبر الركيزة الكبرى في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، فما من عالم أو فيلسوف أو شاعر إلا وخرج من العراق أو مرّ به ومع ذلك كله فإن الحكم الفردي كان مصدر بلائه وسبب شقائه، كما أن الذي حدث عام 1967 هو أيضاً نتيجة الانفراد بالرأي وغياب الديموقراطية رغم وجود الزعامة الباهرة وكاريزما القيادة الفاعلة، لذلك فإن الخروج من عباءة المؤامرة يستدعي بالضرورة الدخول في رداء الحرية. 4- عندما يحار الأطباء في تفسير مرض معين فإنهم يقولون إن لدى المريض حساسية، والأمر نفسه عندما يحار الساسة فإنهم يلجأون أيضاً إلى القول إن ما حدث مؤامرة، وكلا الموقفين إنما يعبر عن أسلوب متخلف في التعامل مع الأمور ويشير إلى اسطوانة مشروخة في التفكير لأن لكل ظاهرة أسبابها ولا يمكن أبداً الوقوف أمام الأشياء بسذاجة مريحة تستسهل تناول ما حدث باعتباره أمراً لا يمكن تغييره أو موقفاً يستحيل الخروج عنه. 5- إن فقه المؤامرة في العقل العربي هو جزء من طريقة التفكير التي درجنا عليها وتشكلت منها ثقافتنا عبر العصور فأصبحنا لا نفكر بأخطائنا قبل أن نفكر بما فعله غيرنا، لذلك فإنني اعتقد أن عملية الإصلاح الشامل ستحتوي في إطارها العقل العربي بأبعاده المختلفة والتراكمات التاريخية فيه. إننا أمام عصر مختلف تسوده ثقافة لم تكن معروفة من قبل، وآن الأوان لكي نتعامل مع الأشياء - أحداثاً أو مواقف - بعقل متفتح وروح عصرية وفكر يؤمن بأن الحرية حق طبيعي للبشر وليست منحة موقتة أو عطاء من أحد، فلقد خُلق الإنسان حراً ويجب أن يعيش كذلك حتى لحظة الرحيل. 6- إن الدولة العبرية التي انتقل بها الرئيس الأميركي جورج بوش في زيارته الأخيرة للشرق الأوسط إلى مرحلة"الدولة اليهودية"هي الخبيرة الأولى في حياكة المؤامرات وصوغ الاضطرابات والخروج عن الأعراف وانتهاك الحرمات، لذلك كان طبيعياً أن يعشش في العقل العربي فكر المؤامرة على هذا النحو. ولا يمكن أن نظلم العقل العربي على طول الخط، فالظروف المحيطة به والأحداث التي جرت على أرضه أدت إلى تراكمات هي التي صنعت تلك العقدة التي نشعر بها ونعاني منها وتدفعنا دائماً إلى الشك في كل شيء وتخوين كل فرد والتوجس خيفة أمام كل جديد. 7- إننا إذا كنا أفرطنا في تأكيد هذه الدراسة النقدية للعقلية العربية إلا إننا لا ننكر وجود الغيوم في سمائنا والعواصف القادمة إلينا والاضطرابات المحيطة بنا، ومع ذلك فإن التفسير بالإصلاح المطلوب والتطور المنتظر هو الأمل الوحيد أمامنا للخلاص مما نحن فيه بل للفكاك من أسر الماضي. إنه انتقال حقيقي من ارتعاشة جزئية تخشى المؤامرة إلى رؤية شاملة تصنع المستقبل. 8- لعلنا لا نجادل كثيراً في أن تأخر الإصلاح السياسي في البلاد العربية وتقدم الديموقراطية بخطوات بطيئة ووجود خروقات لحقوق الإنسان هي في مجملها عوائق عطلت التقدم وأهدرت حماس الأجيال الجديدة، وعطّلت خطواتها الثابتة نحو المستقبل، وهو أمر أصبح يستدعي منا السعي إلى التحرك في الاتجاهات كافة والمضي في التفتيش عن نقاط ضعفنا وأساليب إصلاح عيوبنا والتركيز على العوار الذي ألم بنا لأن"اللّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّىَ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ". وأسعدني كثيراً أن أمين عام جامعة الدول العربية السيد عمرو موسى جعل تلك الآية الكريمة شعاراً يتصدر قاعة الاجتماعات الكبرى في مبنى الجامعة في القاهرة. 9- من الطبيعي أن يحيك الأعداء المؤامرات ضدنا، فالحياة صراع ولن تتوقف عجلة التاريخ يوماً ما، كما أن السياسة لا تعرف الأخلاق، لذلك وجب علينا أن نتآمر على عدونا مثلما يتآمر هو وألا نكون سذجاً أو حَسني النية في كل ما نراه أو نسمعه أو يحدث لنا، فالصحوة العقلية والخروج من الغيبوبة الفكرية أمران لازمان للدخول في عصر جديد، ولا يمكن أبداً أن نرى العالم من منظور الماضي أو نفكر بطريقة مهتزة أو نستسلم لأوهام عفا عليها الزمان. 10- إنني لا أنكر أننا حققنا بعض التقدم على طريق الإصلاح وفي مجال الحريات وميدان حقوق الإنسان ولكن يظل الأمر محتاجاً إلى خطوات أسرع ونظرة أعمق ورؤية أشمل، لأن الإنسان هو ابن حاضره يربط بين ماضيه ومستقبله ولا يمكن أن يكون أبداً منفصلاً عن تراثه، ولكنه في الوقت ذاته مرتبط بالعالم حوله، مشتبك مع الأفكار الكبرى فيه، فالعزلة لا وجود لها ولا بد من اقتحام العصر بروح الاعتدال وفكر المشاركة مع مزيد من الوعي بالأمور والاعتراف بالحقائق. من خلال المحاور العشرة السابقة نقول إنه من المتعين علينا أن نتجه نحو توسيع مساحة الحريات ودائرة المشاركة السياسية واحترام الحقوق الفردية والسعي الجاد على طريق المصلحة القومية، إذ لا تعيش الشعوب بالاستغراق في فكر المؤامرة قدر حياتها وهي تتطلع نحو فكر الحريات. * كاتب مصري