أولاً: في ضبط المصطلحات: إن تعريف أي مصطلح هو بمثابة عقد فكري بين الكاتب أو المرسل من ناحية، والقارئ أو المتلقي من ناحية أخرى. لذلك فإنه توفيراً للوقت والطاقة وتجنباً للجدل العقيم، فإنني أرجو من يتلقى أفكار هذه الورقة أن يحاسبني في ما يرد فيها على أساس التعريفات التي أقدمها أنا لمصطلحاتها ومفاهيمها الرئيسية، والتي قد تتفق وهذا ما أرجوه مع تعريفات أخرى في الصدد نفسه، أي أنني لا أرغب جدلاً حول التعريفات، ولا حواراً حول المصطلحات. ولكني اتطلع الى الجدل والحوار حول "المقولات" والمقولة في هذه الورقة وفي كتاباتي الأخرى هي تأكيد أو نفي علاقات أدعي أنها قائمة أو يمكن أن تقوم بين ثوابت أو متغيرات. 1-1- ما هي العولمة؟ العولمة Globalization هي العملية التي بمقتضاها يزداد الاعتماد والتأثر والتأثير المتبادل بين أرجاء المعمورة- بأقاليمها، وأقطارها، ومجتمعاتها، واقتصادياتها، ومعلوماتها، ومعارفها، وثقافاتها. وكلمة "عملية" في التعريف، تشير إلى أننا بصدد سيرورة وحركة دائمة متدفقة. ولأنها كذلك، فالعولمة ليست وليدة التسعينات. وإنما هي بدأت منذ أواخر القرن الخامس عشر، بالكشوف الجغرافية، التي جعلت ارجاء المعمورة معروفة، ومتصلة، ومتواصلة، تتاجر، وتتبادل السلع والأقطار والمعارف. ومع كل تقدم تقني في وسائل الانتاج والاتصال والتواصل، كان هذا الاعتماد يتزايد. وشهد هذا الاعتماد المتبادل طفرات عدة في القرن السادس عشر، والقرن التاسع عشر، ثم في القرن العشرين: بخاصة في الربع الأخير منه. والجديد في "العولمة" هو، أولاً، اسمها وليس مضمونها أو محتواها أو آلياتها. وهو ثانياً، سرعتها المتناهية في السنوات الأخيرة من هذا القرن، وهو ثالثاً، شمولها لمزيد من جوانب الحياة الجماعية والفردية. وهو رابعاً، مركزية الغرب في قيادة حركتها طوال القرون الأربعة الأخيرة. وهو، خامساً، مركزية الولاياتالمتحدة الأميركية في قيادة الغرب، الذي يقود عملية العولمة طوال العقود الأربعة الأخيرة. وكما أنه لا أحد يملك أو يحتكر التاريخ، فإنه لا أحد يملك عملية "العولمة". كل ما هنالك أنه يمكن لأطراف دولية بعينها ان تقود حركتها في لحظة تاريخية معينة. ولكنها أبداً لا تحتكر هذه القيادة الى الأبد، ولا تستطيع أن تمنع أطرافاً أخرى من المشاركة في حركتها، أو تحدي قيادتها، أو الظفر بهذه القيادة في لحظة تاريخية تالية. 1-2- أسواق المال وشبكة المعلومات: إذا كان التبادل التجاري والتبادل المعلوماتي هما من أهم أركان وآليات عملية العولمة، فإنهما تعطيانا دليلاً ساطعاً وحاكماً لمصداق ما ذكرناه أعلاه، فأسواق المال العالمية مفتوحة لكل من لديه المال لشراء أسهمها وسنداتها في دقائق معدودات، وسواء كان الشراء من بورصة طوكيو، أو هونغ كونغ، أو كوالالمبور أو القاهرة أو لندن أو باريس أو نيويورك. وتضاعف حجم البيع والشراء عبر الحدود القطرية لما يزيد على تريليون ألف بليون، ألف ألف مليون دولار يومياً، أي حجم الاقتصاديات العربية مجتمعة حوالي 400 بليون دولار سنوياً مرتين ونصف. فالعالم يتبادل ويدير يومياً ما يزيد على ضعف الاقتصاديات العربية. ويشارك آلاف المستثمرين الافراد والمؤسسات من شتى الأقطار والأجناس والثقافات. وأغلبيتهم العظمى 99 في المئة لا تعرف بعضها البعض، ولا يتفاعلون مباشرة مع أحدهم الآخر، رغم أنهم جزء من عملية كونية يومية واحدة. إنها ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ البشرية، كماً وكيفاً، ولم يعد أي فرد، أو مؤسسة أو دولة بمفردها في مقدوره أن يتحكم في هذه الدورة الكونية، كما ليس في مقدور أحد أن يتحكم في الدورة الأرضية. يمكن التأثير "نعم" ولكن لا يمكن التحكم. وبالمنطق نفسه وعلى المقياس نفسه تقريباً، أصبحت شبكة المعلومات الدولية المعروفة اختصاراً باسم "الانترنت" Internet والتي يشارك فيها ملايين البشر، ويلتحق بها شهرياً منذ منتصف التسعينات حوالي مليون مشترك، بصفتهم الفردية أو المؤسسية، ويتواصل الملايين منهم مع بعضهم البعض من دون معرفة سابقة، بالبريد الالكتروني، وهذه الملايين، التي تربو الان على الثلاثمئة يزيدون ويستفيدون من شبكة "الانترنت" بالمعلومات في كل لحظة، والاشتراك في هذه الشبكة لا يتطلب غير حاسب آلي وخط هاتفي ومعرفة استخدامهما. ويظل الفرد أو المؤسسة جزءاً من هذه الشبكة طالما استمر توافر هذه المطلوبات الثلاثة، ولم يعد في وسع فرد واحد أو مؤسسة أو دولة واحدة أن تسير أو تتحكم في "الانترنت". فلا أحد يملكها أو يحتكر استخدامها. وكثير مما ينطوي عليه حجم ونوع المعلومات التي تتدفق عبرها في كل لحظة هما مما يصعب أن يستوعبه أو يلم بأطرافه أي عقل بشري منفرد، رغم أننا جميعاً من خلق وتدوير بعض هؤلاء البشر. واجتمع دوران المعلومات والأموال في السنوات الأخيرة في رموز فردية إنسانية درامية مثل بيل جيتس، الذي أصبح أغنى أغنياء العالم، إذ وصلت ثروته الى بضعة بلايين وهو في اوائل الثلاثينات من عمره، والى عشرات البلايين وهو في اوائل الاربعينات من عمره حالياً. إن الكونية او العولمة أصبحت مثل النهر المتدفق، الذي تغذيه ملايين الينابيع من مختلف الاحجام، ويتفرع منه ملايين الروافد من مختلف الأحجام، وتتزايد المنابع والروافد يومياً من دون أن يتحكم فيها أحد بمفرده - سواء كان شخصاً أو مؤسسة أو دولة. وإذا أخذنا التشبيه المجازي هذا للعولمة كنهر متدفق، فإن كل من يريد ان ينزل إليه أو يقفز منه، فإنه قادر على ذلك، وبقدر ما تتوفر له متطلبات وشروط التعامل مع النهر، تكون النتيجة، فالبعض قد يكتفي بالنظر الى النهر من دون أن يبل أياً من أجزاء جسمه بمياهه - إما زهداً، أو خوفاً، أو عجزاً، والبعض قد ينزل الى النهر للبلل. والبعض الآخر قد يحرص على سرعة السباحة للريادة أو التقدم على السابحين الآخرين. ولكن أحداً بمفرده لا يستطيع منع الآخرين من النظر الى النهر، أو النزول الى مياهه أو السباحة فيه. ولا أحد أيضاً بمفرده لا يستطيع منع الآخرين من قذف النفايات والملوثات في مجرى النهر، ولا أحد يستطيع منع الآخرين من لعن النهر ألف لعنة. أو من إخافة الناس من سرعة تدفق النهر، وأخطار السباحة فيه، ولكن أحداً لا يستطيع وقف المجرى الرئيسي للنهر أو التحكم فيه أو السيطرة عليه. إن العولمة هي نهر بدأ جريانه منذ أربعة قرون، وتضاعفت سرعته في العقد الأخير منها. وهذا عن العولمة، كما أفهمها، وربما يكون فهمي لها قاصراً أو خاطئاً، ولكن هذا هو المعنى الذي استخدمها به في هذه الورقة. 1-2- ما هي الهوية العربية؟ في رأي ساطع الحصري وقسطنطين زريق وعبدالعزيز الدوري، أن ما يعطي الأمة العربية خصوصيتها وهويتها المتفردة هو لغتها وثقافتها وتاريخها المشترك، واضاف قسطنطين زريق منذ ستين عاماً "أن رسالة الأمة المميزة هي هضم المدنيات المختلفة، والتأليف في ما بينها، وإثراؤها، ومن ثم تقديمها الى العالم من جديد في وحدة منسجمة لتصبح اطاراً للحياة المقبلة" قسطنطين زريق، "الوعي القومي"، دار العلم للملايين - بيروت. والى جانب الشخصية والرسالة، يخلص زريق الى أن حضارة الأمة العربية قامت وازدهرت وأينعت وسادت بفعل اساسيات أربعة مميزة، تُعد نفسها عبراً ودروساً للعرب وغيرهم، لأنها تفسر ايضاً لماذا ذبلت واضمحلت وتهشمت وتقهقرت وماتت. هذه الاساسيات الاربعة هي: 1- ان الامة تعيش وتحيا بالرؤى الروحية. 2- ان الابداع مرتبط بنظرة عالمية. - ان الايمان بوحدانية الحق يلغي التجزؤ الفكري والخلقي. - ان الانفتاح علي والتعاون مع الثقافات الاخرى يغني الحياة ويجملها. قسطنطين زريق، "الوعي القومي" ويتحدث زريق عن العقيدة الدينية، وكذلك التاريخ "كحافز" أو "كعبء"، فالدين واحد من أهم مظاهر الحضارة العربية، وهو يشكل بروحه وعقائده ونظمه مدخلاً رئيسياً لفهم أي حضارة أو إدراك خصائصها وميزاتها. والدين هو ما يؤمن به المجتمع ويعتبر أنه الحقيقة. والعقيدة الدينية يمكن أن تكون حافزاً للافراد والجماعات على الابداع الحضاري، طالما دعت الى حرية الانسان وقدرته على الاختيار المسؤول. وتتحول العقيدة الى عائق لهذا الإبداع، وعبء على الحاضر، ومانع من التقدم الى المستقبل حين يضعف الايمان بحرية الانسان، وتدخل في روعه أن السلامة في التقليد، وان الأمان في الاتباع. قسطنطين زريق، "في معركة الحضارة"، دار العلم للملايين - بيروت. ثانياً: إطلالة على لغة الخطاب العربي المعاصر: ما زال الخطاب العربي المعاصر في معظمه يقترب من "العولمة" في أواخر التسعينات، كما اقترب من تعبير "النظام العالمي الجديد" في اوائل التسعينات، وهو اقتراب يتسم في معظمه بخصائص سلبية عدة، نذكر هنا بعضها فقط: 2-1- الرفض او التشكيك الوجودي: فأولئك الذين رفضوا الاعتراف بانبثاق "نظام عالمي جديد" بعد انتهاء الحرب الباردة 1990، هم في أغلب الظن أنفسهم الذين يرفضون الاعتراف بانبثاق أو وجود ظاهرة "العولمة"، والرفض والتشكيك في كل ما يبدو أنه جديد قد يكون رفضاً للشكل والمسميات، أو رفضاً للمضمون والمحتويات. ورفض الجديد على هذه الشاكلة له جذور تراثية ينسب بعضها ل"الدين" وبعضها للمعتقد الشعبي الفولكلوري، وهو الذي يؤدي بدوره الى الخاصية الثانية في لغة الخطاب العربي المعاصر. 2-2- التوجس. الخوف. الذعر. الشلل: وعدم المعرفة أو عدم درس ماهية "المرفوض" يجعل "المتلقي" العربي لرسالة الرفض والتشكيك التي يتلقها من "المرسل" العربي الفقيه، الخطيب، الإمام، المثقف، الزعيم يتوجس بداية من هذا "الجديد"، سواء كان "نظاماً عالمياً" أو "عولمة". فإذا زادت جرعات الرسالة فإن التوجس يتحول الى خوف. ثم اذا زادت الجرعات أكثر فأكثر فإن الخوف يتحول الى "ذعر"، وقد يؤدي بدوره الى "الهروب" أو "الانسحاب" أو "الشلل". وهذا الأخير هو بالطبع شلل مجازي، معناه العجز عن الحركة الفاعلة بالعقل أو الجسم أو الوجدان. وأيا كانت الدرجة التي يؤدي إليها الرفض أو التشكيك - أي بين التوجس والشلل - فإنها تؤدي في الغالب إلى خاصيتين اصبحتا مصدر تندر اسود على العرب اجمعين، وهما التفسير "التآمري" أو التفسير "الخرافي" للظواهر والاحداث. 2-3- التفسير التآمري للأحداث: يعني التآمر أن "آخرين" قد أرادوا سوءاً "بالأنا" لمصلحة أو مصالح لهم، فاجتمعوا وعقدوا العزم، وخططوا سراً ونفذوا علناً ما يوقع الضرر "بالأنا" من أجل تحقيق مصلحة أو مصالح هذا "الآخر". ولأن تاريخ العرب عامر بالمؤامرات، إما ضد بعضهم البعض، أو من "الآخر الاجنبي" ضدهم، فهناك ما يبرر الحذر والاحتياط مما يمكن ان يحاك من مؤامرات. وهو أمر مشروع ومطلوب. ولكن ان يصبح "التآمر" هو القاعدة في السلوك الانساني والدولي حيال العرب، فإننا هنا نكون بصدد تركيبة "عقلية ايمانية" مسكونة بفكر المؤامرة. واستخدامنا هنا للفظ "ايمانية" ليس بالمعنى الديني، وإن كان يشترك معه في ركن اصيل، وهو "الاعتقاد بلا دليل مباشر". وهنا تصبح القرائن الخارجية مهما كانت واهية بديلاً للحجج والأدلة الاحتمالية أو القطعية. فنعم كانت هناك مؤامرات ضد العرب في العصر الحديث. ونعم ارتبطت هذه المؤامرات بالغرب والدول الاستعمارية في المقام الأول. واعترف أصحاب هذه المؤامرات بها أو كشفت عنها وثائقهم بعد ردح من الزمن. ومن أبرز هذه في تاريخنا المعاصر ما ارتبط باتفاقية سايكس - بيكو، اثناء الحرب العالمية الأولى، ومؤامرة العدوان الثلاثي على مصر بسبب تأميم قناة السويس العام 1956. ولا نشك أن المؤامرات ما زالت تحدث. ولكن حديثنا هنا يشير الى "المؤامرة" كقاعدة، وليس كاستثناء، لتفسير ما يقع من أحداث وظواهر. فحقيقة الأمر أن "المؤامرة" بحكم أنها سرية الاركان، فليس هناك في الغالب من وسيلة للتحقق من وجودها من عدمه. كذلك فإنه إذا جازت "المؤامرة" في تفسير حدث أو واقعة بعينها، فإنه لا يجوز اعتمادها في تفسير ظواهر مجتمعية وعالمية وكونية مثل ظاهرة التحضر أو التصنيع أو الديموقراطية أو الاشتراكية أو الرأسمالية، أو مثل ما نحن بصدده في هذه الورقة أي "العولمة". وفي الشهور الأخيرة سمعنا عن تفسيرات عدة متآمرة لمصرع ديانا ويلز، وصديقها المصري عماد الفايد، كما سمعنا عن مؤامرة صهيونية لتوريط الرئيس بيل كلينتون في فضائح جنسية لإضعافه وصرفه عما كان ينتويه وهو الضغط على بنيامين نتانياهو واسرائيل من أجل مزيد من الإنصاف للفلسطينيين. والتفسير التآمري - مثله مثل التفسير الخرافي، هو محيط بلا قرار أو شطآن. ويمكن للخيال أن يذهب فيه الى مذاهب شتى، ويمكن لتنويعاته ان تتناقض تناقضاً صارخاً مع بعضها البعض ومع المنطق، من ذلك التفسير التآمري لمقتل ديانا وعماد الفايد كانت تنويعة عرقية، وهي عدم قبول بعض الأوساط العنصرية المتنفذة في بريطانيا لفكرة أن ترتبط وردتهم البيضاء بشاب أسمر البشرة، فدبروا لهما سراً حادث القتل الذي أودى بحياتهما. وهنالك التنويعة الدينية لنفس مؤامرة القتل هذه - ومفادها أن بعض الأوساط المسيحية المتنفذة لم تطق خاطر أو احتمال أن تعتنق ديانا الاسلام، وتنجب من عماد الفايد بعد زواج كان متوقعاً في رأيهم، ويصبح لملك بريطانيا العظمى "أخ مسلم". وهناك التنويعة القومية للمؤامرة وهي أنه وراء مصرع الاميرة والمصري المخابرات الاسرائيلية الموساد، التي توجست واحتاطت من احتمال زواجهما، ثم بسبب نزعات الاخيرة الانسانية الذائعة الصيت. أما التفسير التآمري لفضائح الرئيس الاميركي بيل كلينتون الجنسية، وبخاصة تلك المرتبطة بالفتاة مونيكا لونيسكي، والتي انفجرت اثناء زيارة نتانياهو لواشنطن مباشرة، واثناء زيارة ياسر عرفات بعدها بيومين، فقد تعرض له بالعرض المستفيض والتدحيض القاطع، أحد باحثي مركز الاهرامات للدراسات الاستراتيحية، وهو الدكتور شريف عبدالعظيم في مقال بعنوان "فضحية كلينتون.. ونظرية المؤامرة في الفكر العربي"،، الاهرام 10/4/1998، وفي فقرة تالية سنرى كيف استبدت هذه الفضحية بتفسيرات متناقضة عند بعض المثقفين العرب في سفاراتهم التظاهرية أخيراً. 2-4- التفسير الخرافي للأحداث والظواهر: التفسير الخرافي للأحداث هو اللجوء الى عوامل ميتافيزيقية - باطنية - غيبية غير "ملموسة" وغير "محسوسة" كأسباب لنتائج ملموسة أو محسوسة - مثل غضب ومقت قوى جبارة علينا، سواء كانت إلهية أو شيطانية تتسبب في "النكبات". ويشترك التفسير التآمري الخرافي في ارضية مشتركة عريضة. فكلاهما يرد الظواهر الى أسباب أو قوى لا يمكن التحقق منها أو اختبارها أو قهرها أو منعها مستقبلاً. أي لا تجدي معها الاستراتيجيات الوقائية مادام غير معلوم عزمها وتدبيرها وتخطيطها في حالة "المؤامرة" التي تحاك سراً، وما دام غير معروف أسباب غضبها أو مقتها قبل أن تقع الواقعة في حال "الخرافة"، أي أنه في كلا الحالين لا يمكن الوقاية أو الاحتياط. و من ثم هناك قدر كبير من ابراء الذمة لما حدث ويحدث - لعدم العلم بالشيء مقدماً. وهناك قدر كبير من الولولة والبكائيات بعد أن تقع الواقعة - أي "المؤامرة" او "النكبة". لذلك فقط تبادل الخطاب العربي المعاصر تعبيري "النكبة" و"المؤامرة" واستخدمهما كمترادفات في مناسبات عدة، "فالمؤامرة الصهيونية" هي الوجه الآخر "للنكبة الفلسطينية"، وفي تاريخنا العربي القديم والوسيط كانت ألفاظ مثل "الفتنة" تستخدم للدلالة على خلاف بين الاشقاء أو الرفاق، سرعان ما يتصاعد ويتحول الى صراع عنيف. قد يكون دموياً، ويستمر لسنوات أو عقود وقرون. من ذلك "الفتنة الكبرى"، التي وقعت بين المسلمين الاوائل في منتصف القرن الهجري الاول. أما "النكبة" فقد استخدمها العرب للدلالة على مصائب جسيمة تقع لهم بفعل قوى خارجية عنهم، ولا يملكون لها "رداً" مثل "نكبة الأندلس" ونكبة "فلسطين". 2-5- الافتتان بالكلم: الظاهرة الصوتية: لا أذكر اسم الكاتب العربي الذي كتب في اواخر الستينات يصف العرب بأنهم "ظاهرة صوتية"، ورغم قسوة الوصف، إلا أن الادعاء فيه جانب كبير من الحقيقة. وتنويعات هذه المقولة عدة وخطيرة، فهي عادة ما توحي بأن الكلام المنمق او المذوق او الحماسي أو الدرامي هو بديل للفعل وللعمل. ويمكن أن يتحول "الايحاء" بدوره، من كثرة تكراره، الى اعتقاد. ويمكن ان يتحول الاعتقاد من كثرة ترديده الى "عقيدة". ومن شدة الافتتان بالواقع السماعي للشعار، لا يقف احد يتأمله أو يراجعه، أو يدعو للكف عنه، حتى لو كان هراءً، او مستحيلاً، أو متناقضاً، أو ينطوي على أحط النزعات. ونورد في ما يلي أمثلة ثلاثة فقط للتدليل على ذلك: 2-5-1- "الاستقلال التام أو الموت الزؤام"، وهو شعار رفعته الحركة الوطنية المصرية، وكان له وقع السحر على من رددونه في النصف الأول من القرن العشرين. وكانت إحدى تنويعاته "لا تفاوض إلا بعد الجلاء". ومشكلة الشعارين أنهما يخالفان واقع الأمور في مثل الحالات التي كانت التظاهرات تخرج تقصد تغييرها. فكل احتلال أو استعمار في التاريخ الحديث لم يخرج فجأة، ولم يمنح استقلالاً كاملاً غير منقوص. لم يحدث ذلك لا في الهند، ولا في الجزائر، ولا في فيتنام. ولكن خطورة الشعار هو أنه كان يصادر على فرص الزعماء الوطنيين في كسب الاستقلال على مراحل، وهذا ما حدث فعلاً مع زعيم كبير مثل سعد زغلول، وبعده مع زعيم مصري كبير ثان هو عبدالناصر، ومع زعيم افريقي كبير هو نيلسون مانديلا، ولحسن الحظ ان الشعوب بحسها الواقعي الأمين تفلت أحياناً من مصائد ومزايدات المثقفين. 2-5-2- "مصر والسودان لنا.. وانكلترا إن امكنا" وهو شعار كان يتردد ايضاً اثناء نضال الحركة الوطنية من أجل الاستقلال، ويبدو أن الافتتان بالسجع والموسيقى فيه جعل مردييه لا يدركون أنه شعار يتجاوز المطالبة باستقلال مصر ووحدة وادي النيل - من دون سؤال السودانيين طبعاً - الى تمني أن تصبح مصر نفسها دولة استعمارية، تتملك انكلترا. 2-5-3- "بيلي يا بيلي يا بتاع اميركا.. بكرة مونيكا هتوريكا"، وهو شعار تقول صحيفة "الاهالي" المصرية اليسارية 25/3/1998 إن بعض الصحافيين رددوه اثناء مؤتمرهم الحاشد احتجاجاً على التهديدات الاميركية بضرب العراق في اوائل العام 1998. * كاتب مصري.