عشية توقع فوز أوباما في الإنتخابات الأميركية، ثم بعد التأكد من إنتصاره بأيام وأسابيع، نُشرت مجموعة من المقالات والقراءات من قبل كتاب أميركيين يقعون في قلب المؤسسة الأميركية الرسمية أو قريباً من صناع القرار فيها, وهي قراءات تنصح أوباما بما يجب عليه فعله في ملف السياسة الخارجية الأميركية, الملف الذي دمر صورة الولاياتالمتحدة في العالم. بعد الفوز المدهش مباشرة أستكتبت مؤسسة كارنيغي وفرعها في الشرق الأوسط ومقره بيروت مجموعة من الكتاب العرب حول الذي يقترحونه على الإدارة الديموقراطية القادمة إزاء المنطقة العربية وقضاياها وكيف وبأي إتجاه يجب أن تتغير السياسة الأميركية. أحتل العراق والتطرف والمعركة الدونكوشيتية"ضد الإرهاب"والديموقراطية وفلسطين الموضوعات الأساسية التي شدد عليها أولئك الكتاب. كاتب هذه السطور عنون مساهمته في تلك المقالات ب"أوباما والشرق الأوسط: فلسطين أولاً", كما نشر أيضا في هذه الصفحة في"الحياة"في 16 تشرين الثاني نوفمبر 2008 مقالة بعنوان"حدود الأوبامية ومحاذيرها فلسطينيا"حملت أفكارا شبيهة ومكملة. جادلت المقالتان بأن السياسة الأميركية تحتاج إلى إعادة قلب كاملة للأولويات في الشرق الأوسط، وأن أوباما مخطىء إن ظن أن استبدال أفغانستانبالعراق كأولوية يحل له جوهر المعضلة الأميركية في الشرق الأوسط ويضع الأمور في نصابها. فلسطين هي التي يجب أن تحتل رأس اولويات السياسة الخارجية في الشرق الأوسط, ومن دونها ستفشل أي سياسة أميركية وسوف تظل تُرى على أنها سياسة إمبريالية ومنافقة ولا يهمها المصالح العربية بل الدوس على تلك المصالح من أجل المحافظة على أمن إسرائيل والحفاظ على جريان النفط العربي إلى الأسواق العالمية والغربية. إذا أرادت واشنطن أوباما أن تحول أميركا من عدوة في نظر شعوب المنطقة إلى صديقة فإن عليها أن تحل القضية الفلسطينية وتستجيب للحقوق الفلسطينية العادلة وعلى الأقل بحدها الادنى وبحسب ما ينص عليه القانون الدولي في كل قضايا الإحتلال العسكري الأجنبي, وما تنص عليه قرارات مجلس الأمن التي أشرفت على صوغها الولاياتالمتحدة نفسها. إذا أرادت واشنطن أن تعتدل نظرة العرب, شعبيا ونخبويا, إلى سياستها الشرق الأوسطية, وتحتكم هذه النظرة إلى الإعتبارات الموضوعية اكثر من إحتكامها إلى الموقف المسبق المُتشكل غالباً في قالب الشك العميق والخبرة التاريخية المريرة من الولاياتالمتحدة, فإن عليها أن تقوم بقلب أولويات سياستها الشرق أوسطية, وتنظر للشعب الفلسطيني من منظار قيم العدل والتطلع للحرية والحق في تقرير المصير, وهي القيم التي ما تفتأ أميركا تبشر بها في العالم. بعض الأصدقاء رأوا في مقالتي كاتب هذه السطور إزاء أوباما وما يمكن, أو يجب, أن يتبناه تجاه فلسطين طوباوية زائدة وإقتراحات نابعة من العواطف أكثر من كونها مُصاغة بعقلانية. بيد أن مجموعة كبيرة من الدراسات والمقالات الإفتتاحية نشرت حتى الآن من قبل كتاب أميركيين وغير أميركيين نافذي التأثير تشدد على أولوية فلسطين على جدول السياسة الخارجية للإدارة الجديدة. صفحات الدوريات الأميركية الأهم والأكثر نفوذا مثل"الشؤون الخارجية"و"نيوزويك"و"النيويورك تايمز"نشرت مقالات مفاجئة لكتاب من وزن زبجنيو بريجنسكي, وبرنت سكوكروفت, وريتشارد هاس, ومارتين أنديك, وكارل بروان وغيرهم كثيرون كلها دعت أوباما إلى إيلاء فلسطين وحل قضيتها أولوية خاصة, وبعضها شدد على ضرورة إعتبارها البوابة الأهم التي يجب على الرئيس الجديد الدخول عبرها لتسوية قضايا المنطقة, كما جادل بريجنسكي وسكوكروفت في مقال مشترك لافت للإنتباه. خارج الولاياتالمتحدة وبعد فوز أوباما وما تركه من إندهاش وتفاؤل في طول وعرض العالم نشرت صحف ودوريات رصينة عديدة, مثل"لوموند ديبلوماتيك"الفرنسية و"الإنترناشيونال بوليتيك"الألمانية و"بروسبيكت"البريطانية, ملفات موسعة تضمنت مقالات لكتاب عالميين مثلت مطالبة أوباما بالتركيز على"قضية الشرق الأوسط"الأتفاق شبه الأهم بينهم. كثير من تلك القراءات رأت أن العداء العميق بين العالم الإسلامي والولاياتالمتحدة والذي سببته سياسات جورج بوش والمحافظين الجدد يقع في قلب التوتر العالمي, ولا يمكن تجاوزه من دون مواجهة السبب الجوهري, فلسطين, الذي يمكن بعد معالجته التقدم نحو الملفات الأخرى بثقة أكبر بإمكانية حلها. في العددين الأخيرين لدورية"الشؤون الخارجية"الأميركية هناك عدة مقالات مطولة في نفس الإتجاه الداعي إدارة أوباما القادمة لتبني أولوية فلسطين. بإضافة ما يتضمنه هذان العددان إلى ما نُشر حديثاً يمكن القول أنه لم يسبق أن تزامن نشر مقالات رأي من قبل هذا العدد من الأسماء الأميركية النافذة تركز على إلحاحية وأولوية حل قضية فلسطين ومع النظر بجدية في جوهر المطالب الفلسطينية. وكمثال بارز على"المزاج الجديد"ستتناول بقية هذه السطور مقالة لافتة للغاية بعنوان"للمحافظة على أمن إسرائيل, أعطوا الفلسطينين حقهم"نشرها في عدد كانون الثاني يناير- شباط فبراير 2008 من"شؤون خارجية"وولتر راسل ميد, وهو زميل مختص في السياسة الخارجية الأميركية في مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك. على عكس الكثيرين من الكتاب الأميركيين الذين يتناولون القضية الفلسطينية بخفة واضحة ومستفزة, يقدم راسل ميد قراءة متأنية وتاريخية لجذور الصراع بدءا من تاريخ وعد بلفور وحتى الآن, مسلطاً الضوء على الأسباب المشروعة التي أثارت إحباطات الفلسطيين, وفي نفس الوقت خلقت لديهم التصميم والإرداة على التشبث بحقوقهم. هناك الكثير من الخلافية في التحليل التاريخي لصيرورة الأحداث وقيام إسرائيل بحسب سرد راسل ميد, لكن ما يستحق الإشادة هو إشاراته الموسعة والمنصفة إلى تهجير الفلسطينين وإلى المعاناة والتضحيات التي قدموها, وإلى بقاء اللاجئين الفلسطينين العنوان الأهم للقضية الفلسطينية, ومستودع الرومانس والشرعية الوطنية. والواقع أن التركيز والإعتبار الواضح لمأساة 5,2 مليون فلسطيني لاجىء, بحسب الرقم الذي يعتمده ميد, وكما يرد في مقالته شيء غير إعتيادي في القراءات الأميركية للقضية الفلسطينية. فمسألة اللاجئين وحق العودة يتم الإشارة إليها بتسرع كبير في العادة, والتقليل من مركزيتها وأن بالإمكان تجاوزها بسهولة. ليس هذا للقول بأن راسل ميد يناصر حق العودة ويطالب بذلك, فهو من مؤيدي مسألة التعويض في نهاية المطاف, بل للتوضيح أن توقفه عند مركزية بعد اللاجئين في حل القضية الفلسطينية شيء غير إعتيادي في الأدبيات الأميركية الراهنة. راسل ميد يقترح على أوباما"ثورة كوبرنيكية", نسبة إلى كوبرنيكس, في شأن الصراع العربي الإسرائيلي. يقول إن عبقرية كوبرنيكس تمثلت في إعادة ترتيب النظر للأشياء الموجودة أصلاً, وليس في إكتشاف أشياء جديدة. الشمس, والقمر, والأفلاك, والمسارات كلها بقيت على ما كانت عليه قبل وبعد كوبرنيكس. كل الذي قام به العالم الفذ هو وضع الشمس في مركز النظام الفللكي بدل القمر, وبعد ذلك أنتظمت رؤية الكون عند البشر. ترجمة ذلك هو أن تتوقف السياسة الخارجية الأميركية عن وضع إسرائيل في مركز إهتمامها السياسي في الشرق الأوسط عند محاولة إيجاد حل للقضية الفلسطينية, وبدل ذلك عليها أن تضع فلسطين والرأي العام الفلسطيني. فمن دون أن ترضى غالبية الفلسطينين بحل يحقق الحد الادنى, فإن إسرائيل وأمنها وسياسة أميركا تجاهها لا يمكن أن تحقق أي نجاح. يكرر راسل ميد أن مثل هذه السياسة لا تعنى تخلي الولاياتالمتحدة عن إسرائيل, فهي أولاً وبحسب رأيه عليها أن تُبقي على أقنوم المحافظة على أمن إسرائيل ركنا من أركان سياستها في أي حل يتم التوصل إليه, وثانياً لا تستطيع أية إدارة أميركية ان تتخلى عن إسرائيل حتى لو أرادت, لأن الرأي العام الأميركي, وبحسب راسل ميد أيضاً, لن يسمح بذلك وكذا اللوبي الإسرائيلي بالغ التأثير والقوة. لكن ما يراه ويدعو إليه الكاتب هو الإنطلاق من ما يراه مصلحة مشتركة تطورت بين الإسرائيليين والفلسطينيين في إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة. فهذه الدولة ستحقق آمال الفلسطينيين بالإستقلال وحق تقرير المصير وإنهاء الإحتلال الإسرائيلي والإنفصال عنه, وستحقق, كما يقول, توق الإسرائيليين إلى أمن حقيقي يفتقدونه في المنطقة. فمن دون تجسيد وتحقيق الحدود الدنيا للفلسطينين فإن أمن إسرائيل سيظل بعيد المنال. ولذلك فإن"ثورة كوبرنيكس"الشرق الأوسطية التي يقترحها راسل ميد على أوباما تكمن في ترتيب مكونات قضية الشرق الأوسط وطريقة النظر إليها, وليس في جوهرها. وهو يطالب بوضوح ملفت ومقدر أن يعلن اوباما ليس فقط عن تأييده لإقامة دولة فلسطينية كما فعل بوش بلفظية لم يتبعها بأي فعل جاد, بل أن يشدد على أن الولاياتالمتحدة ملتزمة بإقامة تلك الدولة, و"تعترف بالمظالم والمعاناة التي مر بها الفلسطينيون وسوف تعوضهم عنها وتضمن المستقبل الكريم كل عائلة فلسطينية". وعبر التركيز على فلسطين ومعاناة شعبها فإن تلك السياسة تحقق عدة أهداف في آن واحد: تُثبت للفلسطينين أن الولاياتالمتحدة تتفهم معاناتهم التاريخية وتحاول التخفيف عنها, وأن التخفيف عن طريق تأييد وإقامة دولة فلسطينية سيحقق في نفس الوقت أمن وإستقرار إسرائيل. * كاتب فلسطيني. نشر في العدد: 16704 ت.م: 28-12-2008 ص: 15 ط: الرياض