على رغم محاولة البعض التوقف عند المعاني والدلالات الأميركية والعالمية لفوز أوباما، إلا أن الهموم الإقليمية سرعان ما هيمنت على القراءة العربية ورتبت لدى منتجيها توجهاً نحو قصر اهتمامهم على البحث في التداعيات المحتملة للحدث على سياسات القوة العظمى في الشرق الأوسط. اللافت هنا هو التأرجح الجلي للكتاب والمعلقين العرب بين مقاربتين تنطوي أولاهما على نزوع مبدئي نحو استبعاد حدوث تغيرات حقيقية في السياسات الأميركية في حين تتسم الثانية بتفاؤل حذر بقدرة إدارة أوباما على تطوير صياغة جديدة متوازنة لأدوار واشنطن الشرق أوسطية. يستند المشككون في إمكانية التغيير إلى مقولات مألوفة في عالمنا لها بعض الصدقية التاريخية والسياسية، بيد أنها تدفع لديهم إلى حدود قصوى شديدة الاختزالية. وربما يتمثل أهم هذه المقولات في: 1- للولايات المتحدة مصالح استراتيجية دائمة في المنطقة لا تتغير بتغير الإدارات وطواقمها وقناعاتها هي أمن إسرائيل وتأمين منابع النفط في الخليج، 2- تضع هذه المصالح العديد من المحددات المانعة على السياسات الأميركية فلا تسمح لها بمراعاة الحقوق الفلسطينية وتحول بينها وبين قبول تخفيض معدلات الوجود العسكري في الخليج أو الانفتاح الجدي على دول كإيران وسورية وحركات المقاومة في فلسطين ولبنان، 3- ليس أوباما سوى ابن المؤسسة الحاكمة في الولاياتالمتحدة الحاملة لهذه المصالح، ومن ثم فإن إمكانية انقلابه عليها لا تعدو أن تكون سراباً، 4- وربما كانت هذه المقولة هي الأردأ أخلاقياً والأكثر خطأً سياسياً، يسيطر أصدقاء إسرائيل من اليهود الأميركيين رام إيمانويل وغيرهم جوزيف بايدن على المواقع الحساسة في إدارة أوباما شأنها في ذلك شأن جل الإدارات السابقة، الأمر الذي يعني عملياً أنه لا فكاك من السياسات الراهنة التي تستجيب للمصالح الإسرائيلية. نعم للولايات المتحدة مصالح ثابتة في الشرق الأوسط، إلا أن افتراض أن هذه المصالح ترتب دوماً تبني واشنطن للسياسات نفسها هو بمثابة العبث التحليلي والاختزالية الايديولوجية الفارغة المعنى والمضمون. وواقع الأمر أن تاريخ السياسات والممارسات الأميركية تجاه ملفات المنطقة الرئيسية إنما يظهر ذلك بجلاء. ألم تتأرجح القوة العظمى وما زالت في ما خص أمن إسرائيل بين فترات من التأييد الاستراتيجي والدعم العسكري غير المحدود للدولة العبرية وفترات أخرى أو على الأقل لحظات ممتدة تميزت بمقاربات ديبلوماسية أقل حدةً رامت البحث عن حلول تفاوضية؟ ألم يتم خلال العقود الماضية تنزيل المصلحة الأميركية في تأمين منابع النفط في الخليج سياسياً في سياقين مختلفين، أحدهما يعوّل على تحالفات استراتيجية مع منطقة الخليج وديبلوماسية احتوائية لدرء أخطار حالة متصورة لأطراف إقليمية بعينها، في حين انتظم الآخر في ظل توظيف مباشر ومكثف للقوة العسكرية؟ أما القول إن أوباما هو نتاج مؤسسة الحكم المهيمنة في واشنطن ولا يملك القدرة أو الرغبة في الانقلاب الجذري على اختياراتها الأساسية وخطوطها الحمر فهو على صحته يحول. دون إدراك مساحات التنوع الفعلية في توجهات ومواقف أطراف مؤسسة الحكم الأميركية وماكنة الحركة بين تلك المساحات المتاحة لكل إدارة جديدة. ثم لماذا نرفض الاعتراف بأن آليات التصحيح الذاتي التي تتمتع بها الديموقراطية الأميركية وتجلت بفاعلية في انتخاب أوباما رئيساً قد يكون لها بعض التداعيات على صناعة السياسة الخارجية وربما أطلقت عملية إعادة نظر في سياسات ثبت أنها أضرت بالمصالح الأميركية؟. أما القراءة العربية المتفائلة بحذر فخيطها الناظم يتمثل من جهة في مكونات النقد السابق لاستبعاد امكانية التغيير، ومن جهة أخرى في التسليم بأنه من العسير على أي إدارة أميركية جديدة أن تفوق إداراتي بوش الأولى والثانية سوءاً. بيد أن المتفائلين بحذر، وأنا منهم، أخفقوا في صياغة خطاب مقنع تترجم بين ثناياه التوقعات المتفائلة إلى تحليل واضح المعالم لحدود وأولويات التغيرات المحتملة. توجه البعض منا بما يشبه العرائض المطلبية الى الإدارة الجديدة دامجاً مركزية الانسحاب العسكري من العراق وإيقاف حرب بوش على الإرهاب مع حل القضية الفلسطينية وتجديد دعم الديموقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي، متناسياً أنه في حين أن العراق والإرهاب يشكلان بالفعل أولويات تغييرية لأوباما، فإن قضية فلسطين ومسألة الديموقراطية لا تستحوذان على اهتمام كبير. البعض الآخر تجاهل الربط بين مطلب التغيير والسياق الزمني المتوقع لتحرك إدارة أوباما وصياغتها للسياسات الأميركية في الشرق الأوسط وتراتبية أولوياتها. فالمؤكد أن أوباما، وأمامه لائحة طويلة من الأزمات الداخلية والعالمية، سيركز في الأعوام الأولى على التعاطي مع ملفات العراق وإيران والإرهاب الملحة قبل أن يجد من الوقت والطاقة المؤسسية ما يمكنه من التفكير في إعادة صياغة المرتكزات الأخرى للسياسة الأميركية. أخيراً وباستثناءات قليلة العدد، لم يلتفت دعاة التفاؤل الحذر إلى المعضلات الحقيقية التي حالت دون فاعلية سياسة دعم الديموقراطية وحقوق الإنسان التي رفعت لواءها إدارة بوش، وأهمها الموقف الأميركي من نخب الحكم الأوتوقراطية في العالم العربي المتحالفة مع القوة العظمى، وكذلك قراءتها لأدوار حركات المعارضة الإسلامية العنفية وغير العنفية والتحديات التي تمثلها اليوم وغداً للمصالح الأميركية. * أكاديمي مصري نشر في العدد: 16666 ت.م: 20-11-2008 ص: 15 ط: الرياض