بعد خطاب الرئيس باراك أوباما في القاهرة، بالتوجهات التي تضمّنها إقليميا ودوليا، يمكن القول إن ثمة نوعاً من القطيعة بين السياسات التي تتبناها الإدارة الأميركية الحالية، والسياسات التي انتهجتها إدارة بوش المنصرفة. لكن وقبل تفحّص جوانب القطيعة في سياسة الإدارتين حريّ بنا طرح عديد من الاستدراكات التي تتعلق بهذا الموضوع. فحديثنا عن قطيعة لا يعني أن السياسة التي ستنتهجها هذه الإدارة باتت ناجزة، فثمة فرق بين حمل توجهات معينة ووضعها في التطبيق. والقصد أن ثمة قوى في الولاياتالمتحدة (بالإضافة لإسرائيل) ستجد أن مصلحتها في إفشال الإدارة الحالية، أو تفريغ السياسات التي تنتهجها من مضمونها، أو خلق المصاعب في مواجهتها. وإذا كان هذا الكلام برسم المتفائلين أو المراهنين على الإدارة الحالية، فإن الأطراف التي تبخّس من أهمية الخطاب، بدعوى أنه لم يقدم جديدا، وأنه مجرد مادة إنشائية (لا ترجمات عملية له) لتحسين صورة الولاياتالمتحدة، معنية هي أيضا بمراجعة هذا الموقف والتبصّر بمعانيه السلبية. هكذا فإن المطلوب هنا هو تبني موقف سياسي عقلاني ومتوازن، فمن غير المعقول أن يذهب رئيس الولاياتالمتحدة (مهما كان وضعه) الى حد الانقلاب دفعة واحدة على السياسة الأميركية التقليدية إزاء الحفاظ على أمن إسرائيل، أو تقويض العلاقة الخاصة بها، مثلا. وبديهي فإنه من غير المعقول، أيضا، الاتكال على الولاياتالمتحدة لحل مشاكلنا، أو القيام بالعمل ضد إسرائيل بالنيابة عنا! والحديث عن القطيعة، أيضا، لا يعني أن إدارة أوباما ستبدي ضعفا في حماية مصالحها ومكانتها في العالم، أو أنها ستتراخى إزاء المخاطر التي تشكل تهديدا لأمنها، وضمنها التهديدات النابعة من التطرف وانتشار العنف والتسلّح النووي. على ذلك ينبغي النظر إلى بنية خطاب اوباما بكليته، من النواحي السياسية والثقافية والقيمية، وأيضا مقارنته بخطابات سلفه بوش (وغيره من رؤساء الولاياتالمتحدة السابقين)، لملاحظة الفارق الجوهري. وكان الخطاب البوشي تميّز بالعنجهية والاستعلاء والتهديد بالقوة (وممارستها)، ونظر إلى العالم وفق تصنيفات ثنائية (من ليس معنا فهو ضدنا، وصراع قوى الخير وقوى الشر)، وروّج لصورة نمطية سلبية للعالمين العربي والإسلامي. في حين جاء خطاب أوباما عكس ذلك تماما، في تقويضه لأيديولوجية صراع الحضارات، وحديثه عن الشراكة مع العالم الإسلامي وعن القيم المشتركة مع الإسلام ودوره الحضاري، والتسامح والاحترام المتبادل ورفض فرض قيم معينة بوسائل القوة والإكراه. واللافت هنا أن أوباما تحدث عن تفهم المظالم التي لحقت بالعرب والمسلمين جراء الاستعمار وسياسات الحرب الباردة وتأثيرات الحداثة والعولمة والنمو المتفاوت، مؤكدا مسؤولية الغرب عن كل ذلك. وقد بدا أوباما جازما في قطيعته مع أيديولوجية إدارة بوش في سياستها الخارجية وتحديدا الشرق أوسطية، إذ انتقد بشكل حاسم الاحتلال الأميركي للعراق، ونبذ مصطلح الحرب على الإرهاب، وأكد خطأ محاولات فرض الديموقراطية بوسائل القسر والإكراه والقوة العسكرية. وفوق ذلك فقد شكّل كلام أوباما المتضمن نوعا من الانفتاح على إيران وحركة «حماس» تطورا جديدا في السياسة الأميركية، ولا سيما ما يتعلق بحديثه عن حق الدول في التملّك السلمي للطاقة النووية. أما في ما يتعلق بالصراع العربي - الإسرائيلي، فيجب أن نفتح هنا استدراكا لمن كان ينتظر أن يتحدث اوباما عن إسرائيل بمصطلحاتنا وخاب أمله بذلك، إذ أن المشكلة هنا لا تتعلق فقط بطريقة فهم العالم لقضيتنا، وهو فهم ناقص ومشوّه بكل الأحوال، وإنما تتعلق أيضا بطريقة فهمنا لمواقف الآخرين، وطريقة حوارنا معهم، وهما أمران لا علاقة لهما بالتمسك بمعتقداتنا عن حقوقنا ومصالحنا المشروعة. الآن ثمة من يتحدث بأن لا جديد في ما يتعلق بحقوق شعب فلسطين، في خطاب اوباما وأركان إدارته، فإدارة بوش السابقة كانت تحدثت أيضا عن حل الدولتين، وهذا صحيح ولكن ما يجب أخذه بعين الاعتبار (كما أسلفنا) مراجعة الخطاب بكليته وليس فقط بمضمونه السياسي وإنما أيضا بمضمونه الثقافي والقيمي. فثمة فرق بين إدارة بوش التي تحدثت عن الدولة الفلسطينية في ظرف كانت تقوم فيه باحتلال العراق، ودعم سياسات شارون، وتستهدف أكثر من بلد عربي، وتحرّض العالم على العرب والمسلمين، وبين إدارة تنتهج سياسة حوارية انفتاحية في مقاربتها للقضايا العربية. أيضا، كانت إدارة بوش طرحت الدولة الفلسطينية من الناحية الشكلية، ولكنها حرصت على فصل هذه القضية عن القضايا الشرق أوسطية الأخرى، بل إنها اعتبرت أن قضية وجود إسرائيل ليست لها صلة بالتوترات السائدة في هذه المنطقة، وإن المسؤول عن ذلك هي الأنظمة السائدة وحال الفقر والتطرف والفساد والاستبداد. وفي كل ذلك فقد عملت إدارة بوش على إزاحة حل القضية الفلسطينية من سلّم أولويات العالم. أما مقاربة أوباما وإدارته في هذا الموضوع فتنطلق من إعطاء أولوية لحل القضية الفلسطينية، واعتبار ذلك ممهدا لحل مختلف الأزمات الموجودة في المنطقة. ومعنى ذلك أن هذه المقاربة أعادت الربط بين قضية فلسطين وقضايا المنطقة، من العراق إلى مكافحة التطرف والعنف إلى التعامل مع إيران. فوق ذلك فإن الجديد واللافت في خطاب أوباما هو كلامه عن ستة عقود على معاناة الشعب الفلسطيني، بمعنى أنه يعتبر العام 1948 أي عام النكبة، العام المؤسس لهذه القضية، وليس العام 1967، كما جرت العادة. هذا وقد أكد اوباما في خطابه على حل الدولتين، وعدم شرعية الاستيطان، كما قوّض حق الادعاء الحصري لليهود بالقدس. وفوق كل ذلك فإن عدم قيام اوباما بزيارة إسرائيل، لدى تواجده في المنطقة، شكّل سابقة فريدة من نوعها، وقرع الأجراس في إسرائيل بشأن بداية لسياسة أميركية جديدة في العالم العربي، على حساب إسرائيل. على أية حال فقد قال اوباما ما قاله، ويبقى أن ننتظر ما بعد القول، من دون مراهنات زائدة، ومن دون تبخيسات سلبية ومضرة، فاستثمار التوجهات السياسية لإدارة أوباما يتوقف، إلى حد كبير، على إدراكنا الصحيح لما يجري في العالم من حولنا، وأيضا لقدرتنا على تحسين أحوالنا. * كاتب فلسطيني