لن نذهب بعيداً في مسألة حدود التأويل، ولن نقول بلا محدوديته، ونكتفي بالقول بتعدده. ولكن هذا أيضاً لا يقنع النقاد العرب، الميالين إلى إطلاق الأحكام القاطعة، والمسكونين بشهوة الجزم، التي تمنحهم المقدرة على التفرد بآراء قاطعة، لا يستطيعها غير الناقد. خطر لي هذا إثر قراءاتي المتعددة لما كتبه البعض في الآداب الإغريقية والرومانية، كالدراسات التي تتحدث عن التأثيرات الإغريقية في شكسبير، والأحكام القاطعة في قراءة بعض هذه التأثيرات - حتى في العناوين - ، كالقول مثلاً: ميديا أو هزيمة الحضارة. وهذان مثالان لأستاذين متخصصين في هذه الآداب هما أحمد عثمان، ويحيى عبدالله. وعلى رغم الثراء الذي يقدمه الكاتبان في المعلومات والتفاصيل، إلا أنهما ينطلقان من فكرة أساسية مسبقة عند الكتابة. فالأول يريد أن يثبت بشتى الوسائل، أن شكسبير لم يتأثر بتراجيديات الإغريق، والثاني يريد أن يثبت اتكاء الروماني سينيكا على الفلسفة الرواقية في معالجته تراجيديا ميديا، على عكس ما فعله يوريبيديس الإغريقي. يبني عثمان موقفه وآراءه الحاسمة على سيرة شكسبير، أكثر من بنائه على كتاباته. فهو كي يؤكد ابتعاد شكسبير عن تراجيديات الإغريق، يتحدث عمّا حوته هذه الأعمال من شذرات يونانية قليلة، مقارنة بالشذرات الرومانية. وإنه يجهد أيضاً كي يؤكد بين صفحة وأخرى، أن معرفة شكسبير اللغة اللاتينية كانت جيدة، بينما معرفته باليونانية كانت ضعيفة. وحين ينتبه إلى بعض التماثلات بين شكسبير وآسخيلوس مثلاً، يقول:"نحن نعرف تمام المعرفة أن شكسبير لم يقرأ آسخيلوس أبا التراجيديا اليونانية. والغريب في الأمر هو ما يقوله قبل ذلك أو بعده ربما، من أن الرومان ورثوا التراث الإغريقي كله. ويؤكد يحيى عبدالله في كتابته عن ميديا أن الإغريق هم الأصل، والرومان هم الصورة. أما كيف نعرف تمام المعرفة أن شكسبير لم يقرأ آسخيلوس، فهذا ما لا يمكن جزمه! هل تكفي الإشارة إلى ضعف شكسبير في معرفته اللغة اليونانية مقارنة مع اللاتينية؟ ماذا عن الترجمات إلى اللاتينية أولاً؟ قبل أن أقول ماذا عن الترجمات إلى الإنكليزية؟ فالكاتب يصف العصر الإليزابيثي بأنه عصر إحياء التراث الكلاسيكي. ويؤكد أن الإنكليز ترجموا تلك الآثار كلها غير مرة. كيف نؤكد أن شكسبير لم يقرأ آسخيلوس؟ ألأننا لم نعثر في أعمال شكسبير شذرة مباشرة من أعمال آسخيلوس مثلاً؟ ماذا لو لم يكن الأمر مجرد شذرة أو مقتطف من هنا أو هناك؟ ماذا لو تعداه إلى إعادة صوغ عمل كامل مثلاً؟ أو - في أحسن الأحوال - الاتكاء على فكرة أساسية عند آسخيلوس؟ وللتوضيح، فإن قراءة"هاملت"لشكسبير، و"آغاممنون"لآسخيلوس تجعلنا نتوقف عند هذا التشابه الهائل في المسرحيتين. على أننا لا نستطيع الجزم كالآخرين بأن شكسبير أعاد صوغ آغاممنون بما يتلاءم مع عصره، وهو ما فعله اليونانيون أنفسهم من قبل، كما فعل ذلك الرومانيون أيضاً. فالثالوث اليونانيآسخيلوس، وسوفوكليس، ويوروبيديس عالج الموضوعات نفسها، واستخدم الشخوص الأسطورية والملحمية ذاتها، فأصبح لدينا أكثر من أوديب وأنتيغونا وإليكترا وأوريست. وبالعودة إلى التشابه الهائل بين آغاممنون وهاملت، ليس لنا سوى أن نشير إلى الفكرة الأساسية والشخوص. فإذا كانت كلوتمنسترا زوجة آغاممنون تتخذ إيجيست ابن شقيق زوجها عشيقاً أثناء غياب الزوج في حرب طروادة، فإنهما معا يدبران لقتله، ويتخلصان منه فور عودته، ويستولي إيجيست على العرش. بينما يصاب أوريست ابن آغاممنون بما يشبه الجنون، ويهيم على وجهه في البرية. أفلا يذكرنا هذا بالأعمدة الأساسية لهاملت؟ فكيف نجزم أن شكسبير لم يقرأ آسخيلوس؟ ولماذا؟ وبالطريقة ذاتها يواجهنا يحيى عبدالله في قراءته"ميديا"للشاعر الروماني سينيكا. فهو يؤكد أن انتصار ميديا على ياسون هو انتصار الطبيعة على الحضارة. وهي فكرة رواقية كما يقول، اعتنقها الشاعر الروماني وأراد تأكيدها. والسؤال الرئيس هنا هو: هل انتصرت ميديا أصلاً؟ كيف يمكن أن نرى هذا النزوع الرهيب إلى الانتقام انتصاراً؟ ألا يشكل قتلها أبناءها هزيمة للمرأة؟ ألا يمكن أن يكون الهدف في الأصل هو التقليل من شأن المرأة ككيان بشري عاقل وحكيم ومساو للرجل؟ أليست هذه هي فكرة الإغريق والرومان عن المرأة؟ في مسرحية"المحسنات"التي كتبها آسخيلوس نقف على محاكمة أورست بن أغاممنون. ونرى أن آلهات الانتقام ألإيرينيات يقفن ضد أوريست بسبب قتله أمه الخائنة. لكن الربة أثينا هي التي تترأس المحكمة. وهي حين تتساوى الأصوات في الحكم على أوريست تقف إلى جانبه، قائلة إنها قادرة على الانحياز إلى الرجل، لأنها ولدت بلا أم، ما يعني أن عظمة أثينا لم تكن في أنوثتها، بمقدار ما كان انسلاخها الجزئي عن جنس المرأة سبباً في هذه العظمة. فإذا كان"انتصار"ميديا انتصاراً للطبيعة، وهزيمة للحضارة، فماذا نسمي قتل عطيل زوجته؟ هل هو انتصار بربريته على الحضارة أيضاً؟ إن مجيء ميديا إلى اليونان من بلاد كولخيس أو جورجيا الحالية، إلى بلاد اليونان المتحضرة، هو الذي خلق هذه الفجوة بين ميديا وياسون كما يشير الناقد. وعلى رغم أنه يؤكد أن الإغريق كانوا يحتقرون المرأة، إلا أنه يصف يوريبيديس بالمعادي لهذه الظاهرة! وهو أمر لافت بحق، حيث اعتُبر يوريبيديس عند الإغريق وغيرهم، من أكثر شعراء اليونان معاداة للمرأة، إلى الحد الذي جعله يخفف من عدائه بعد انتقادات كثيرة وجهت إليه في هذا السياق. راجع مقدمة عابدات باخوس. وهكذا لا يكون ياسون يوريبيديس ممثلاً للحضارة في"ميديا"كما يشير الناقد، لكي يكون ضحيتها عند سينيكا! إن ما يسوقه الناقد من صفات ميديا المباشرة والواضحة والصارخة في علاقتها بياسون، لا يمثل إلا الحب النقي كما يمكن أن نراه. وهي تمكث مع ياسون عشر سنوات قبل أن تقرر الانتقام منه، إثر زواجه بابنة كريون. ولا تعني هذه الصفات بالضرورة رفض ميديا اللياقة والحضارة المتمثلة في سلوك ياسون اللبق. وهو ما يجعلنا نستغرب هذه الأحكام القاطعة التي تفاجئنا في النقد العربي. وهو يشبه القول مثلاً إن ميديا مفطورة على الترحال والهجرة وعدم الاستقرار صفات حضارية كما يصفها الناقد. ويتناسى أنها أخلصت لزوجها عشر سنوات، ولم تفكر في مغادرته إلا بعد انتقامها منه، وليس لأنها لم تكن قادرة على التكيف مع الحضارة اليونانية كما يقول الناقد، على رغم أن هذا قد يكون وارداً. أي أننا لا نريد أن نقطع في قراءتنا وتفسيرنا، بحيث نصدر حكماً جازماً لا مكان للاستئناف فيه أو نقضه. إن معرفتنا بالخلفية الفكرية للمؤلف، لا ينبغي لها أن تقيد قراءاتنا النقدية كلها إلى هذه الخلفية، لأننا قد نكون حينها مضطرين إلى ليّ أعناق الأثر الأدبي والإبداعي عموماً، لكي ينسجم مع فلسفة الكاتب أو أفكاره أو الأيديولوجيا التي يؤمن بها. كما حدث في قراءة عبدالله لميديا سينيكا. فرواقية سينيكا، لا تعني أنه أعاد صوغ هذا النص لكي يؤكد فلسفته وصدقيتها. كما إننا لا نلاحظ فرقاً كبيراً بين ميديا يوريبيديس وسينيكا في الخطوط العامة أصلاً. لا يمكن أحداً أن يكون ضد هذه القراءات على إطلاقها، بل ضد الجزم بأنها هي القراءات الوحيدة الصائبة. وهو أمر يعد في غاية الخطورة، إذا ما أخذنا في الاعتبار مقدرة النص على الاستجابة للمساءلة النقدية الدائمة والمتجددة. وعليه، فإننا فقط نطالب هؤلاء الدارسين والنقاد الجديرين بالاحترام والتقدير، بعدم إغلاق أبواب التأويل، والقراءات النقدية التي قد تكون مغايرة. بل إننا نؤكد أن أهمية النقد تكمن في مدى قدرة الناقد على اكتشاف كل ما هو جديد في الأثر الفني، وكل ما لم يكن معروفاً من قبل، على أن يكون ذلك انطلاقاً من النص نفسه، لا من رغبة في الاختلاف والنقض. ففي الغرب لا يتم تكريس ناقد أدبي، ما لم يعرج على كلاسيكيات الأدب العالمي. ومن هنا جاءت قراءات"مدام بوفاري"المتجددة، تماماً مثل"دون كيخوته"و"آنا كارينينا"و"الجريمة والعقاب"و"كبرياء وهوى"وغير ذلك من آثار عظيمة في الذاكرة البشرية. نشر في العدد: 16688 ت.م: 12-12-2008 ص: 18 ط: الرياض