قبل عامين سافر هيثم، وكان في الثامنة من عمره، مع والديه إلى دولة أوروبية، حيث حظي والده بعمل لمدة عامين. توجه الصغير مع والدته إلى إدارة التعليم في حيّهم ليلتحق بمدرسة. وبعيداً من تفاصيل اختيار المدرسة، ووسط ذهول الأم وعجب الصبي، كان أول ما فعلته الموظفة المسؤولة أنها أحضرت ورقة عليها خريطة شوارع الحي ومسطرة. حددت مكان بيت هيثم، ثم أخذت تنفّذ قياسات مبهمة. وأخيراً قالت:"هناك ثلاث مدارس يمكن الالتحاق بها، وإن كنت أرى أن أفضلها الأولى لأنها تبعد عن البيت نصف سنتيمتر، في حين تبعد الثانية سنتيمتراً كاملاً والثالثة سنتيمترين إلا ربعاً والأبعاد بحسب سلّم الخريطة، بالطبع". وحين عاد هيثم إلى القاهرة، وجد نفسه يركب باص المدرسة في السادسة إلا ربعاً صباحاً ليبدأ"السفر"اليومي من بيته في حي المهندسين إلى المدرسة الواقعة على طريق القاهرة - الإسكندرية الصحراوي، الحافل بكل أنواع الاصطدامات بين الحافلات والميكروباصات، وانقلاب السيارات، وانفجار الإطارات... رحلة هيثم اليومية ذهاباً وإياباً محفوفة بالأخطار وهو ما يجعل الأربعة آلاف جنيه التي يسددها والده مقابل ركوب هيثم الباص أقلها وطأة. ولا يقتصر الخطر على خروج الباص إلى الطريق السريع، واضطرار السائق إلى مسابقة الرياح كي يصل في الوقت الصحيح، بل يكمن أيضاً في عمليات الركوب والترجّل في عرض شارع، أقل ما يقال عنه إنه"متخم"بكل أنواع المركبات المتصارعة في مشهد هزلي. لكن الهزل لا يلبث أن يتحول مآسي، آخرها لا الأخيرة مقتل طفلين في الاسكندرية أثناء عودتهما من المدرسة الأسبوع الماضي. الطفل فخري 6 سنوات الذي صدمه سائق باص نقل عام أثناء وقوفه على الرصيف، والطفلة بسملة 7 سنوات التي دهستها عجلات باص مدرستها بعد ما نزلت منه. حوادث كهذه قد تقع في أي لحظة. وعناصر معادلة"الحادث"هي: انفلات مروري تام + مدارس بعيدة جداً من المساكن + إهمال وعدم مراعاة"المسافرين"الصغار وقدراتهم. تقول مروة السعدي 38سنة:"ابنتي نهى التحقت بالمدرسة التي درستُ فيها وأنا صغيرة. وعلى رغم أني كنت أركب الباص، شتّان بين الباصين. كنت لا أنزل منه إلا والمشرفة تمسك بيدي، ولا تتركها إلا بعد أن أدخل من البوابة. كما كان لكل منا مقعدها المرقم. وكانت التلميذة التي تقف أثناء سير الباص، تتعرض للعقاب في اليوم التالي. حالياً، الباص أقرب ما يكون إلى"سوق الخميس"الشعبي، النوافذ محطمة، والبنات يخرجن رؤوسهن وأيديهن من النوافذ، والمقعد الذي يتسع لطالبتين تجلس عليه أربع فتيات صغيرات. لكن الأفظع هو ما يحدث وقت العودة،"يلفظها"الباص في منتصف الطريق، بينما المشرفة منهمكة في الحديث عبر هاتفها المحمول، وعلى الصغيرة بعد ذلك تدبر أمرها". لكن للصغيرة نهى وجهة نظر أخرى، فهي تؤكّد صراحة أنها تكره المدرسة، وما يصبرها عليها هو"الباص":"إنه الوقت الوحيد اللطيف الذي نتصرف فيه على راحتنا. نصيّح، نأكل، نعاكس المارة، ننام، نصحو. فالسائق يكون منشغلاً بتبادل الشتائم مع بقية السائقين، والمشرفة لا تترك المحمول من يدها. وإذا تركته تضع سماعات"الووكمان"، في أذنيها لأن صوتنا يسبب لها صداعاً". الصداع الحقيقي هو ذلك الذي يضرب كل من تسول له نفسه أو اضطرته ظروفه المعيشية إلى المرور أو العيش في شارع فيه مدرسة. فبالإضافة إلى الزحمة الدائمة، تشهد تلك الشوارع ساعتي ذروة يومياً، الأولى وقت وصول الطلاب صباحاً والثانية وقت خروجهم بعد الظهر. يقول أمجد سعيد 62سنة الذي تطل شرفته على مدرسة ابتدائية، إنه يرى ويسمع العجب يومياً:"تبدأ الباصات في التقاطر على المدرسة منذ السابعة والربع صباحاً. وبما أن لا موقف في المدرسة، ينزل التلاميذ في الشارع، ما يشل حركة المرور تماماً. ويتكرر المشهد نفسه في وقت انتهاء دوام المدرسة، مع لعب كرة القدم في عرض الشارع وغير ذلك من أفعال الشقاوة... وكم هي الحوادث التي نشهدها". مقابل هذه الصورة القاتمة، تظل مواصلات تلاميذ المدينة أفضل حالاً من مواصلات تلاميذ القرى التي تتسع لأي شيء وكل شيء، بدءاً بالجرارات الزراعية ومروراً بسيارات النقل... وانتهاء بالدواب.