زين وهبة وإسراء وزملاؤهم المقيمون أسفل جسور القاهرة والإسكندرية، وفي "خرابات" المدن المصرية الكبرى، ليسوا سوى قنبلة موقوتة... لكنها قنبلة تنفجر كل يوم من دون أن يشعر بها أحد، باستثناء من تنفجر في وجوههم، ألا وهم آلاف الأطفال والمراهقين، وأحياناً الرضع ممن وجدوا في الشارع ملجأً لطفولتهم? في العقد الاخير، تعاظمت مشكلات المجتمع، من فقر وعوز... وما زاد الطين بلة الانفتاح على العالم الخارجي من دون الاستناد إلى أرض صلبة، ما فكك الكثير من الأسر، وأطاح العديد من القيم. فبدأت بالتالي أعداد متزايدة من الأطفال اللجوء إلى الشارع. قبل أيام شهدت القاهرة اجتماعاً جمع رجال الحكومة ونساءها، ومنظمات دولية والمجتمع المدني والفنانين ليحاوروا ويستمعوا إلى وجهات نظر ممثلين عن أطفال الشوارع في القاهرة والإسكندرية. كانت التجربة فريدة، جلست إسراء 13 عاماً وهي ترتدي ملابس نظيفة وتضع أقراطاً ذهبية صغيرة، على مقعد في قاعة الاجتماع. راحت تنظر بدهشة حولها ثم روت تجربتها في الشارع ودخولها الى قرية "الامل":" أنا اليوم تلميذة في الصف السادس الابتدائي في مدرسة خالد بن الوليد، وأقيم في قرية الأمل". مات والد إسراء وتركتها والدتها هي وأشقاءها من دون رعاية قبل نحو عامين. توقفت عندها إسراء عن ارتياد المدرسة، وراحت تمضي أوقاتاً طويلة في الشارع. تعرفت هناك إلى فتاة من جيلها تقريباً، تقيم في أحد شوارع حي روض الفرج في شمال القاهرة? تقول إسراء: "عندما نزلت الى الشارع، كنت سعيدة ومرتاحة. كنت أعمل وقتما أشاء، وبدأت أمضي بعض الليالي في الشارع. ثم انضممت إلى مجموعة من خمس فتيات، كنا ننام معاً. لكن حالياً الماما الجديدة ترعانا وتساعدنا في المذاكرة، حتى أنني أحرزت علامة 69 على مئة في امتحانات الابتدائية في الفصلية". وعن تفاصيل هذه النقلة، تقول إن مندوبة من إحدى الجمعيات شجعتها على التوجه إلى مركز كانت تستحم فيه في النهار، وتحصل على وجبة أو وجبتين، وتخضع لرعاية طبية وتمارس بعض النشاطات الترفيهية. وبعد مدة، انضمت اسراء إلى المقيمات في قرية الأمل والتحقت بالمدرسة أيضاً? وتقول اليوم إنها سعيدة بحياتها الجديدة لكنها قلما تتحدث عن والدتها، حتى ان أحلام إسراء وخططها المستقبلية تخلو من أي إشارة أو تلميح إلى الوالدة? على الأقل، كان حديث اسراء متماسكاً وغير متناقض، عكس زميلها زين 13 عاماً. كانت أسرة زين تقطن حي بولاق الشعبي والمزدحم في القاهرة. لدى السؤال عن والديه، يقول زين:"الله يرحمهما". فكيف إذاً وصل إلى الشارع؟ يجيب: "كان والدي يرسلني واخي التوأم الذي لا يشبهني كل يوم إلى الشارع. هناك، كان يعطينا فوطة لمسح زجاج السيارات عند إشارات المرور والمناطق المزدحمة. كان يمنعنا من دخول البيت في حال لم نجن أكثر من 50 جنيهاً. وحتى إذا سمح لنا بالدخول، كان يوسعنا ضرباً بكل ما تقع عليه يداه. وعلى رغم أننا كنا نجني ما يزيد على 50 جنيهاً في معظم الاحيان، إلا أن اخانا الأكبر كان يسطو على المال ليشم به "كلة" مادة صمغية يشمها أطفال الشوارع وتسبب الإدمان إضافة الى قائمة طويلة من الامراض الصدرية? وماذا عن والدة زين؟ يقول:"أمي ماتت وهي تلدنا أنا واخي. أما أبي فكان يعاقر الخمر بكثرة فمات. وملت زوجة ابي منا، فتركتنا وذهبت الى الفيوم". وصل زين بالصدفة إلى أحد فروع قرية الأمل النهارية. وبعد فترة تأهيل، انضم إلى مركز الإقامة التابع للقرية وهو حالياً في الصف السادس الابتدائي? الشارع هو الحل وعلى رغم قسوة تجارب إسراء وزين، إلا أن تجربة زميلتهما هبة 16 عاماً وامتدادها الى جيل آخر مفزعة. هبة ارتقت قبل نحو عام من مرتبة طفلة شارع إلى أم شارع. فهي منذ كانت في الثالثة من عمرها تعيش في الشارع لبعض الوقت، وأحياناً أخرى طوال الوقت? تزوج والدها بغير أمها، وتزوجت أمها بآخر، ولم يكن أي منهما راغباً في رعايتها... فكان الشارع هو الحل. حين بلغت الثانية عشرة، أيقنت زوجة الأب انه يمكن استغلال هبة للحصول على دخل إضافي وذلك بإرسالها للعمل كخادمة في البيوت. وكان والدها يضربها دائماً، فعادت إلى الشارع مرة أخرى، لكن بصفة دائمة هذه المرة? تقول، وهي تحمل ابنتها دنيا التي توشك على بلوغ عامها الأول: "تعرفت إلى سائق سيارة ميكروباص وضحك عليّ. بمعنى أن علاقة غير شرعية جمعت بينهما. حينما أبلغت والدي، قال: "ما فيش مشكلة سأعملك عملية"... فعدت الى الشارع. وبعد فترة، تزوجت زواجاً عرفياً من شخص وحملت منه لكنه اختفى. حتى أنه حينما حان موعد الولادة، لم يقبلني أي مستشفى". هبة واحدة من بين آلاف الفتيات اللواتي عشن في الشوارع كما يتضح من الفيلم الوثائقي "على شفا حفرة" الذي يتناول حياة مجموعة من بنات الشوارع، بينهن رئيسة ونادية اللتان جمعت بينهما ظروف متطابقة: أسرة مفككة، وسوء معاملة، وانعدام الرعاية والحب الاسري. اضافة الى تعرضهما الى مختلف أشكال الاعتداء. لكن الفيلم تطرق كذلك إلى جانب بالغ الأهمية في حياة أولئك الأطفال، وهو الجانب الصحي. تقول مديرة جمعية قرية الأمل في القاهرة عبلة البدري إن "مفهوم المرض لدى أولئك الأطفال هو العجز عن الحركة. أما ارتفاع درجة الحرارة، والانفلونزا وغيرها فلا تعد مرضاً بالنسبة اليهم"? لذلك، أنجزت القرية مشروعاً لمواجهة المخاطر الصحية التي تحدق في أطفال الشوارع. ويدرب الاختصاصيون من العاملين في القرية عدداً من الأطفال المقيمين في الشارع على الإسعافات الأولية، ويمدونهم بعد نجاحهم في الدورة التدريبية القصيرة، بحقيبة إسعافات أولية صغيرة? وعموماً، فإن نظرة سريعة الى وجوه اطفال الشوارع ممن حضروا الملتقى تؤكد ان وجوه غالبيتهم لا تخلو من جروح وندبات قديمة او حديثة. أما الجهود الرسمية فتبشر بالخير مبدئياً? أمين عام المجلس القومي للطفولة والامومة السفيرة مشيرة خطاب تقول: "إن استراتيجية مواجهة مشكلة أطفال الشوارع، تعتمد منهجاً حكومياً. نعاملهم باعتبارهم أصحاب حقوق وهذه مسؤولية تقع على عاتق المجتمع كله الذي يجب أن يتكاتف ليمنحهم حقهم في التعليم والصحة والحماية من الانتهاك والحياة الكريمة". واعلنت خطاب عن قرب تدشين خط ساخن لتلقي شكاوى أولئك الاطفال. الملتقى الذي يعد الأول من نوعه في مصر ناقش المخاطر التي يتعرض لها كل أطفال الشوارع الذين لا يعرف أحد عددهم نظراً الى نقص المعلومات، ونظرة المجتمع السلبية تجاههم، وبنات الشوارع وكيفية تلبية احتياجاتهن، والجهود اللازمة للحد من تفاقم هذه الظاهرة المرتفعة? انصرف كل الاولاد الذين حضروا الملتقى...، منهم مَنْ عاد إلى مكتبه، أو إلى جامعته أو بيته، لكن هناك مَنْ عاد إلى مركزه الايوائي، واخرون عادوا الى مقارهم في الشوارع آملاً في أن تتكلل الوعود بالتنفيذ على أرض الواقع.