أدار الرئيس حسني مبارك عملية التحول السياسي في مصر بمنطق الإصلاح التكيفي تجنباً للإصلاح البنيوي، بعبارة أخرى إصلاحات الحد الأدنى لتجنب اصلاحات الحد الاقصى. وعليه فقد أخذت هذه الإصلاحات الجزئية مصر من النمط التقليدي للتسلّطية الى نمط آخر يطلق عليه في علم السياسة"التسلّطية التنافسية"، إذ توجد مؤسسات ديموقراطية قانونية تتراضى أطراف العملية السياسية على أنها مصدر الشرعية، بيد أن الأطراف المختلفة تنتهك هذه المؤسسات عندما تجد نفسها بحاجة لهذا، وهناك أمثلة معاصرة متنوعة لهذه التسلّطية التنافسية بين صربيا تحت حكم ميلوسوفيتش وروسيا تحت حكم يلتسن وبوتين وأوكرانيا تحت حكم كوشما وبيرو تحت حكم فوجيموري. وما يجمع هذه النظم أنها تبنت استراتيجية الانفتاح السياسي المحدود أو التكتيكي كمحاولة للتكيف مع الضغوط الداخلية والخارجية بإعطاء بعض التناولات السياسية الشكلية مع زيادة إنفاقها على الامن وأجهزة الإعلام واهتمامها بآليات الضبط السياسي. إن التسلّطية التنافسية، بحكم التزامها الشكلي بالمؤسسات والإجراءات الديموقراطية، تعطي انطباعاً زائفاً بالديموقراطية. وهي بهذا تضع نفسها في حال توتر دائم مما قد يعجل بفنائها لاحقاً إذا نجحت القوى المعارضة والمستقلة أن تتحد وتقدم شرعية بديلة. والتوتر المشار إليه يمكن رصده في أربعة مجالات: 1- التوتر في المجال الانتخابي. ففي النظم التسلّطية التقليدية قد لا توجد انتخابات تنافسية على الإطلاق الصين وكازاخستان وأوزباكستان وليبيا حيث تحظر الأحزاب المعارضة ويُنكّل بالمثقفين المعارضين. كما أن الانتخابات، إن وجدت، تكون مناسبة لإعلان إذعان الجميع للسلطة الحاكمة. لكن النظم التسلّطية التنافسية تعرف درجة عالية من التنافس بين القوى السياسية المختلفة مع اساءة استغلال السلطة وعدم احترام نزاهة الانتخابات من خلال استغلال اجهزة الاعلام في اتجاه من دون الآخر، والاعتداء المعنوي والبدني على المعارضين، وإساءة استغلال مؤسسات الدولة الرسمية مع غياب الشفافية عن عملية الاقتراع برمّتها، ومع ذلك فإن الانتخابات تُجرى في موعدها وتقبل عليها المعارضة على اعتبار أنها فرصتها الأساسية للضغط على الحكومات. وما يجعل التوتر قائما هو إصرار المعارضة على أن تكسب نقاطا من النخب الحاكمة عسى أن تكون هذه النقاط مقدمة لهزيمة الخصوم في مرحلة لاحقة. ففي بيرو نجح فوجيموري بالفوز في انتخابات 2000 لكنها جاءت في أعقاب انتخابات صورية وتصاعدت المعارضة الداخلية والضغوط الدولية عليه الى أن اضطر الى الفرار، والتجربة تكررت في العام 2003 مع شيفارنادزة في جورجيا وفي أوكرانيا مع الرئيس ليونيد كوشما. 2- التوتر في العلاقة بين النخبة الحاكمة والمؤسسة التشريعية. فالأصل في النظم التسلّطية التقليدية أنها لا تعرف مؤسسة تشريعية تقوم بمهمّات الرقابة الحقيقية على أعمال السلطة التنفيذية إلا أن النظم التسلّطية التنافسية تعرف معارضة قوية نسبيا تنجح في أن تثير موجات من الرفض لسياسات النخبة الحاكمة في بعض الأحيان. ففي عهد كل من يلتسن وكوشما كانت المعارضة الشيوعية واليسارية عموماً شديدة الوطأة لدرجة أنها أحرجت الرئيسين في أكثر من مرة على رغم أنهما في النهاية مررا معظم القوانين التي طرحاها، ولكن في لحظة بذاتها يبدو أن البرلمان قوي وقادر على أن يقف حجر عثرة في مواجهة سياسات الحكومة، ومثال ذلك نجاح البرلمان الأوكراني في وقف اقتراح الرئيس بعقد استفتاء لتقليص سلطات البرلمان. 3- التوتر بين النخب الحاكمة والسلطة القضائية هو مظهر ثالث من مظاهر التوتر في النظم التسلّطية التنافسية، إذ تسعى النخب الحاكمة إلى"تدجين القضاء"بحيل كثيرة مثل التخلص من القضاة المعارضين أو رشوتهم مكافأتهم على حسن خدمتهم"للعدالة"أو حتى الابتزاز. إن دولة مثل بيرو تحت حكم فوجيموري عرفت أعلى معدلات فساد القضاة في أميركا اللاتينية ومن الأعلى في العالم بيقين. وفي العام 1993 حينما أعلنت المحكمة الدستورية العليا أن قرار يلتسن بحل البرلمان غير دستوري، قطع عن المحكمة خطوط التليفون وسحب من القضاة حراسهم الشخصيين. ومع ذلك يظل الاستقلال النسبي للسلطة القضائية في وجه السلطة التنفيذية واحداً من أهم خصائص التسلّطية التنافسية. وعادة ما تلجأ المعارضة إلى القضاء المستقل نسبيا لتحقيق مزيد من المكاسب السياسية، ففي أوكرانيا دعمت المحكمة العليا موقف المعارضة التي اعتبرت أن نتائج الاستفتاء الذي يحد من صلاحيات البرلمان مزيفة ولا تعبر عن إرادة الأوكرانيين. وكان هذا دعما مهولا لمطالب المعارضة الأوكرانية. 4- التوتر الاعلامي. ففي النظم التسلّطية التقليدية تكون أجهزة الاتصال الجماهيري إما مملوكة بالكامل للدولة أو تخضع لرقابة شديدة وعقوبات رادعة، وعلى هذا لا توجد صحف مستقلة على الإطلاق، كما الحال في كوبا، أو عملياً غير موجودة. في النظم التسلّطية التنافسية، على عكس ما سبق، تكون هناك مساحة لأجهزة الإعلام المستقلة بل في كثير من الأحيان تكون مؤثرة، ويصبح كثير من الصحافيين معارضين أقوياء لما يلاقونه من تنكيل وعقوبات. على سبيل المثال كشفت واحدة من المحطات المستقلة في بيرو عدداً من انتهاكات حقوق الانسان في ظل حكم فوجيموري فضلاً عن تزوير بعض قيادات حزبه لتواقيع مواطنين لضمان ترشحه لانتخابات سنة 2000 وتحوّل المحررون والإعلاميون القائمون على هذه القناة المستقلة إلى أبطال شعبيين عند الرأي العام في البيرو، وفي روسيا كشفت محطات التلفزيون المستقلة العديد من انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها يلتسن في مناطق عديدة من روسيا بما في ذلك الشيشان بما عجل بخروجه من السلطة. والأهم في هذا الصدد أن مثل هذه الإجراءات ستكون لها نتائج سلبية على النخبة الحاكمة في مرحلة ما بعد الرئيس مبارك إن أحسنت المعارضة وأجهزة الإعلام والقوى المستقلة استغلالها. * كاتب مصري نشر في العدد: 16674 ت.م: 28-11-2008 ص: 14 ط: الرياض