في الوقت الذي يشغل فيه الكثيرون أنفسهم بالبحث والتنبؤ في ما ستكون عليه سياسة اوباما في الشرق الاوسط وتجاه القضية الفلسطينية، يبدو نمط الانتظار والاعتكاف في دائرة ردود الافعال سائداً كالعادة في السياسة العربية. مع ان المؤشرات واضحة بأن الرئيس الاميركي الجديد سيواجه رزمة من المشاكل والاولويات، أولها الاقتصاد المتدهور وليس أقلها العراق وافعانستان، وهي كافية لإشغاله لحقبة رئاسية كاملة. ولم تبد حتى الآن اشارة واحدة تؤكد ان نهج التغيير والتخلي عن السياسات القديمة الذي طرحه اوباما سينطبق على الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي. ولا تبشر بواكير التعيينات في الادارة الجديدة بتوجه مختلف. الاسرائيليون من جانبهم لا يضيعون وقتاً ورسالتهم كانت واضحة، وهي بلسان تسيبي ليفني"دعنا وشأننا واتركنا نتفرد بالمفاوضين الفلسطينيين، ونستغل ضعفهم وانقسامهم، دعنا نواصل التنكيل بهم ونواصل التوسع الاستيطاني، وبناء الجدار وفرض أمرنا الواقع من جانب واحد". ولا تبدو الرسالة الفلسطينية الرسمية أقل غرابة. فهي تدعو الى المحافظة على"الستاتيكو"القائم تفاوضياً، وترجو الادارة الاميركية الابقاء على عملية انابوليس الفاشلة، وذلك بدل البحث والتنقيب عن فرص يمكن فتحها او آليات ضغط يمكن استخدامها لإنهاء حال التوسع الاستيطاني الجنوني الذي ازدادت وتيرته ثمانية وثلاثين مرة خلال مفاوضات انابوليس، او للتصدي لحواجز الاحتلال التي زادت من 521 حاجزاً لتصل الى 630، او لكشف وتعرية نظام"الأبارتهايد"العنصري الذي انشأته حكومات اسرائيل في فلسطين، وما زالت توسعه. المطّلع على ما يجري في واشنطن يستطيع تلمس ثلاثة اتجاهات، يحاول كل منها التأثير في سياسة اوباما تجاه الشرق الاوسط: الاتجاه الاول صهيوني بامتياز، يدعو لاطلاق يد اسرائيل والامتناع عن التدخل المباشر واستبدال ذلك بتعيين مبعوثين مجربين - من ادارة كلينتون السابقة - خبراء في التسويف والمماطلة وتكريس نهج التجزئة والتأجيل بهدف اعطاء الوقت اللازم لاسرائيل كي تواصل توسعها الاستيطاني وتهويدها للقدس وفرض الامر الواقع، مع محاولة تحويل السلطة الى وكيل أمني، وتكريس الانقسام الداخلي الفلسطيني. الاتجاه الثاني يدعو الى الابتعاد عن الموضوع الفلسطيني والتركيز على قضايا العراق وأفغانستان وايران والازمة الاقتصادية، باعتبار ان الرئيس الاميركي لا يملك رفاهية ركوب اكثر من عدد محدود من المخاطر، ولا داعي للاقتراب من جمر قضية حرقت أصابع أكثر من رئيس أميركي. وهذا الاتجاه يناسب كذلك مصالح اسرائيل الراغبة في التفرد والتحكم. ولا غرابة ان الاتجاهين الاول والثاني مدعومان من قبل اكثر منظمات اللوبي الاسرائيلي نشاطاً وخطورة ايباك. يبقى الاتجاه الثالث الذي يمثل امتداداً بشكل او بآخر لمجموعة واضعي تقرير العراق بيكر - هاملتون، الذي وضع أساساً للتحول الذي عبّر عنه اوباما، بضرورة الانسحاب من العراق وإنهاء حرب فاشلة ومخزية صنعتها ادارة بوش. ومن أبرز اعضاء هذا الاتجاه لي هاملتون ومستشارا الامن القومي السابقان زبيغنيو بريجنسكي وبرنت سكوكرفت، ويدعمهم الرئيس الاميركي الاسبق جيمي كارتر الذي نشر كتابا ضد نظام"الابارتهايد"الاسرائيلي واثار عواصف لم تتوقف حتى الان بين مؤيدي اسرائيل. ويدعو هذا الاتجاه الى دعم تطبيق المبادرة العربية كأساس لحل شامل وجذري لقضية الشرق الاوسط. ويحذّر هذا الاتجاه اوباما من الحقيقة البسيطة التي لا تريد اسرائيل ان يراها أحد، وهي ان مفتاح الاستقرار في المنطقة مرتبط بالصراع الفلسطيني/ العربي - الاسرائيلي، ولا يمكن التعامل مع قضايا كالعراق وافعانستان وايران بمعزل عن تأثيرات القضية الفلسطينية. وهو اتجاه يحاول، ربما لاول مرة، رسم خط فاصل بين المصالح الاميركية والسياسات الاسرائيلية من دون التخلي طبعا عن تكرار اهمية الحفاظ على اسرائيل وأمنها. ويجد هذا الاتجاه تجاوبا بين من يعتقدون ان اسرائيل تجاوزت كل الحدود. وشعار هذا الاتجاه ان اوباما هو آخر رئيس تتاح له فرصة"حل الدولتين"، وان اضاعها فلا حل سوى دولة واحدة ثنائية القومية، وان اسرائيل تؤذي نفسها بسياساتها على المدى البعيد. هذا ما يقولونه. فما الذي يجب ان نقوله نحن؟ 1- لا شيء يمكن ان يكون اكثر ضرراً واذى من نهج السلبية وانتظار الآخرين الذي ميز السياسات الرسمية العربية. وللامانة لا بد من القول انه لا يوجد في واشنطن حتى الان اتجاه مناصر للقضية الفلسطينية مثلا، او يتحرك من منطلق التضامن مع قيم الحرية والمساواة والديموقراطية، وذلك يعود جزئياً الى غياب لوبي عربي او فلسطيني. 2-"ما حك جلدك مثل ظفرك"وبالتالي فإن اوباما وغير اوباما لن يغير شيئاً، ولن يدفع ثمنا او يدخل مخاطرة في شيء يمكن الحصول عليه من دون ثمن او من دون مخاطرة. وبالتالي اذا صمت الفلسطينيون والعرب عن حقهم، فلن يتبرع احد بالدفاع عنه. وبالتالي فإن خيارات اوباما ستتأثر بمقدار الضغط الموحد والجماعي الذي يستطيع الفلسطينيون ومن ثم العرب ممارسته لإثبات وجودهم على خارطة صنع السياسات والتوجهات. وأول اوراقهم هنا الربط المباشر بين قضية فلسطين وكل ما يمكن ان يجري سواء في العراق او سورية او حتى ايران أو قضايا الاستقرار العالمي الأخرى. 3- حتى لو قبلنا بمقولة ان السياسة هي فن الممكن، فلا بد من استذكار ان العرب نجحوا مرة بعد قمة بيروت في تقديم المبادرة العربية كمنهج بديل، لنهج التجزئة والتأجيل، فقابلهم شارون باجتياح الاراضي الفلسطينية واغتيال الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وبتحالف شرير مع بوش والمحافظين الجدد. ثم عندما عادوا واستجمعوا التفافهم حول المبادرة العربية، التفت عليهم اسرائيل وادارة بوش واخترعت عملية انابوليس التي اصبحت غطاء بموافقة عربية وفلسطينية رسمية وتخاذل دولي امام اسرائىل. وبعد كل الذي جرى، وعلى ابواب انتخابات اسرائيلية لن تأتي الا بأحد الليكوديين العنصريين - نتنياهو او ليفني، وفي ظل اصرار اسرائيل على مواصلة تهويد القدس والتوسع الاستيطاني وتصفية حقوق اللاجئين، فإن هناك فرصة تلوح مرة أخرى لانتزاع زمام المبادرة بدل مواصلة الترويج لانابوليس الفاشلة، ومواصلة المفاوضات مع اولمرت الفاسد والعاجز. وذلك يتطلب أربعة عناصر: اولا: استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية وانهاء الانقسام الداخلي، وبناء قيادة وطنية موحدة تواجه الادارة الاميركية الجديدة والعالم بصف موحد وارادة موحدة على اساس التمسك بالمشروع الوطني، ثانيا: اعادة بناء التفاف فلسطيني/ عربي حول المبادرة العربية وطرحها كبديل فوري ووحيد لنهج الحلول الجزئية. ولا بد هنا من التفريق بين قبول المبادرة العربية وتطبيقها، وبين محاولات شمعون بيريز الخبيثة لجعلها مجرد احد مشاريع التفاوض، والتعامل معها بانتقائية، بحيث تنتزع اسرائيل تطبيعاً كاملاً وتواصل الاحتلال وتهويد القدس، عبر الادعاء بأن الموضوع الفلسطيني محصور بالمفاوضات الثنائية. ثالثا: الدعوة، فلسطينيا وعربيا، الى مؤتمر دولي على اساس قرارات الاممالمتحدة لتنفيذ المبادرة العربية بكل مكوناتها واولها انهاء الاحتلال لجميع الاراضي المحتلة وعلى رأسها القدس. أي بناء آلية دولية شاملة لصنع السلام وانهاء حالة تفرد الولاياتالمتحدة بالعملية، مع استمرار انحيازها لاسرائيل. رابعا: اطلاق حملة اعلامية وتضامنية واسعة عبر المعمورة لكشف وتعرية نظام"الابارتهايد"- الفصل العنصري - الذي انشأته اسرائيل، وتقديم الرواية الفلسطينية والعربية لعالم الاعلام الذي ما زال مأسوراً بالرواية الاسرائيلية. وهذه بمجموعها عناصر قابلة للتحقيق ان توفرت الارادة، وواقعية من حيث انها لا تحمّل اياً من الانظمة العربية وزر اثقال لا يستطيع ولا يريد حملها، وانسانية المضمون لأنها تكرس سمواً اخلاقياً لقيم الحق والعدالة وتقدم الصورة الحقيقية للصراع الجاري وتكشف الظلم الفاحش الذي يلحق بالشعب الفلسطيني، وبإمكانها ان تعطي دفعة كبيرة للاتجاهات العقلانية في الساحة الاميركية، وان تجابه اللوبي الاسرائيلي بنهج بديل ومؤثر. وهي كفيلة بأن تضع على المحك كل قيم التغيير والحرية والمساواة ورفض العنصرية التي رفعت لواءها حملة اوباما من دون ان تقترب بها حتى الآن من اكثر مناطق العالم معاناة من التمييز العنصري وحرمانا من الحرية والمساواة، وهي فلسطين. ان عالم اليوم يتزاحم بصراعات المصالح، ولا امل فيه لمن لا يحسن ادارة مصالحه والنضال من أجلها، او لمن لا يدرك الحكمة العميقة في قول الشاعر: وما نيل المطالب بالتمني... ولكن تؤخذ الدنيا غلابا * كاتب وسياسي فلسطيني نشر في العدد: 16673 ت.م: 27-11-2008 ص: 15 ط: الرياض