مع كل الاحترام للخطابات التي القيت فإن الوثيقة الوحيدة المتفق عليها والتي صدرت عن اجتماع انابوليس كانت ما سمي"التفاهم المشترك"بين اسرائيل والجانب الفلسطيني المشارك والتي تضمنت عبارات عامة تجاه كل القضايا الا وثيقة واحدة تكرر ذكرها من دون غيرها ست مرات في ورقة التفاهم، والتي لا تتجاوز صفحة واحدة، وهي"خريطة الطريق". وهذه الخريطة نفسها التي مضت اربع سنوات على الفشل في تنفيذها والتي تضع الفلسطينيين امام مهمة مستحيلة، لن ينجحوا فيها موضوعياً ابداً، وهي توفير الامن والحماية للذين يحتلونهم، رغم ان المحتلين الاسرائيليين يمثلون رابع اكبر مصدر للسلاح في العالم وأقوى قوة عسكرية في المنطقة، ويملكون مخزونا نووياً اكبر مما تملكه فرنسا، وسلاحاً جوياً اقوى مما لدى بريطانيا. وهذه سابقة تاريخية، عندما تطالب سلطة شعباً مقموعاً تحت الاحتلال بحماية المحتلين من دون ان تكون قادرة على توفير الحماية لشعبها. وهكذا فإ اسرائيل خرجت باعتبارها الظافر الاكبر من هذا الاجتماع وحققت كل ما تريد، بأقل خسائر ممكنة، وتراجع الوفد الفلسطيني عن كل ما وعد به، فلم يذكر تجميد الاستيطان ولا وقف بناء الجدار. ولم تذكر قضايا القدس واللاجئون والحدود، بل أشير بشكل عمومي وعابر للقضايا الجوهرية من دون تحديدها. وحتى الوعد بالحصول على جدول زمني لانهاء قضايا الحل النهائي تبخر واستبدل بعبارة"ان الاطراف ستبذل جهدها لانجاز اتفاق قبل نهاية 2008"، واعلن الاسرائيليون ان بذل الجهود لا يعني ابداً الالتزام بموعد محدد. يقول المثل الشعبي الفلسطيني"اول الرقص حنجلة"، فاذا كانت التراجعات الفلسطينية الشاملة قد بدأت قبل بدء المفاوضات، فهل نحن بحاجة لخيال واسع لندرك كيف سيكون الحال لاحقا؟ قبل الاجتماع صرحت وزيرة خارجية اسرائيل تسيبي ليفني، بأن الامن حسب المفهوم الاسرائيلي يسبق المفاوضات وقد حققت ما تريد. والآن يتضح، كما نشرت الصحافة الاميركية، ان خطة اجتماع انابوليس وضعت من قبل وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس وتسيبي ليفني بشكل مشترك، وكما ارادت اسرائيل. ولعل اخطر وأهم ما ورد في ورقة"التفاهم المشترك"هو العبارة الاخيرة التي تؤكد ان تطبيق اي اتفاقية سلام مستقبلية سيخضع لتطبيق"خريطة الطريق"التي تعطي اسرائيل الفرصة دوما للادعاء بأن الفلسطينيين مقصرون في تنفيذها. وهكذا تحقق لاسرائيل مرة اخرى ما خططت له، وهو ان كل ما ينتج عن اي مفاوضات لاحقة سينتظر حصول السلطة الفلسطينية على شهادة"حسن سلوك"من اسرائيل بأن السلطة قادرة على لعب دور وكيل أمني للاحتلال. وهو امر مستحيل موضوعيا، وان حدث فستفقد السلطة ما تبقى لها من نفوذ او قدرة اعتبارية على تمثيل الشعب الفلسطيني. اما الأمر الاخطر استراتيجيا وتاريخيا، والذي يمثل تنازلا فلسطينيا غير مسبوق، فقد كان غياب المبادرة العربية وقرارات الشرعية الدولية وقرارات الاممالمتحدة كمرجعيات لعملية السلام واستبدالها جميعا بخريطة الطريق وبما يتفق عليه الطرفان - اي ما توافق عليه اسرائيل. الانجاز الوحيد الذي سيدعيه الوفد الفلسطيني - وهو بالمناسبة فريق اوسلو العريق نفسه - ان الولاياتالمتحدة ستكون وحدها حَكَماً على التنفيذ، ولكن اين هو الانجاز في هذا الامر في ظل الانحياز الاميركي الواضح لاسرائيل؟ اما الوفد الاسرائيلي والذي بدا منتشياً بنجاحاته فعاد لتذكير الصحافة العالمية بان لاسرائيل اربعة عشر تحفظاً على خارطة الطريق وهي متمسكة بها كشروط اضافية. كما حاول استغلال الوجود الكثيف للوفود العربية للايحاء بانفتاح ابواب التطبيع مع اسرائيل من دون حل القضية الفلسطينية. وكان واضحا ان التركيز والتشديد على خريطة الطريق هدفه تعميق الانقسام في الساحة الداخلية الفلسطينية. فاسرائيل تستغل الانقسام للادعاء باستحالة الوصول الى حلول نهائية مع سلطة عاجزة عن السيطرة على كل الاراضي والاطراف الفلسطينية. لقد دار الصراع قبل انابوليس على ثلاث مسائل جوهرية: الرواية والرؤية ومن يمسك بزمام المبادرة. وفي انابوليس تغلب الموقف الاسرائيلي المدعوم اميركيا في كل المسائل. ففي موضوع الرواية، تحولت القضية الفلسطينية من قضية نضال شعب ضد الاحتلال ومن اجل الحرية وتقرير المصير، الى جزء من الصراع بين معسكري المعتدلين والمتطرفين في المنطقة، وداخل الشعب الفلسطيني. وفي موضوع الرؤية للمستقبل تجري محاولة خبيثة لإفراغ مفهوم الدولة من مضمونه وتحويلها الى مجرد حكومة من دون سيادة تسيطر على الامن الداخلي تحت الاحتلال، وفي ظل نظام"الابارتهايد"والكانتونات والمعازل. وبحجة عدم القدرة على معالجة القضايا الجوهرية كالقدس واللاجئين، سيجري الترويج لفكرة الدولة ذات الحدود الموقتة، التي حدودها جدار الفصل العنصري، من دون القدس والاغوار ومناطق الاستيطان الذي يواصل التوسع. اما في الموضوع الثالث، فمن الواضح ان فكرة انابوليس تبلورت كرد على تصاعد الضغوط العربية في ظل تفاقم الوضع في العراق، من اجل حل القضية الفلسطينية، وكرد على احياء المبادرة العربية التي بدأت تستقطب تأييدا دوليا متصاعدا لعقد مؤتمر دولي جديد مدريد 2 يعيد وضع القضية الفلسطينية والصراع العربي الاسرائيلي على قاعدة الشرعية والقرارات الدولية. وفي انابوليس انتقل زمام المبادرة من يد العرب والاطراف الدولية الاخرى الى الولاياتالمتحدة، التي حرصت على التنسيق المكثف مع الجانب الاسرائيلي. وخلال عملية الانتقال سقط مبدأ حل النزاع على اساس القرارات الدولية ليصبح الاساس ما يتفق عليه الطرفان، أي ما توافق عليه اسرائيل وسقط ايضا مبدأ الشمولية الذي ميز مؤتمر مدريد لصالح الجزئية والانتقالية، بل الانتقائية في معالجة القضايا. واستطاعت اسرائيل ان تضع حدا حتى لمحاولات الولاياتالمتحدة بدء المفاوضات في واشنطن، لاعطاء الانطباع برعاية طرف ثالث، وذلك من خلال اصرار اولمرت على ان المفاوضات ستجري فقط بين الطرفين وداخل المنطقة وليس خارجها وذلك لتحييد أي تدخل خارجي، ولو كان مصدره الولاياتالمتحدة المؤيدة مبدئيا لاسرائيل. فهل نعجب بعد ذلك لبهجة وارتياح الوفد الاسرائيلي، او للمرارة التي ربما شعر بها المندوبون العرب، او للاحباط الذي ربما تشعر به بعض اطراف المجتمع الدولي، بعد استثنائها واستبعادها بهذا الشكل المهين؟ لقد كسبت اسرائيل الوقت الذي ارادت كسبه وستستثمره بالتأكيد ولكنها لم تكسب الصراع، فذلك ستقرره الاحداث الجارية على الارض، وستقرره تباشير المعركة التي اوشكت ان تنفتح على مصراعيها بفضل النضال الشعبي الفلسطيني السلمي وحركة التضامن الدولي الصاعدة، لكشف وتعرية وعزل نظام التمييز العنصري في اسرائيل وكل من يتعاون معه، وهو الامر الذي ما انفك اولمرت يكرر قلقه منه، لان اسم اسرائيل بدأ يصبح صنواً للفصل العنصري. * عضو المجلس التشريعي الفلسطيني