لم يعد هناك مجال للتستر على حقيقة أن خيار المفاوضات مع الدولة العبرية قد فشل تماما، ولم يعد خيارا قابلا للحياة. بل لم يعد هناك مجال لإخفاء حقيقة أن الدول العربية تعرف أن المفاوضات قد سقطت كخيار صالح لإنهاء الصراع مع إسرائيل، لكنها لا تريد أو لا تجرؤ على إعلان مثل هذا لأنه سيضعها في موقف أسوأ إذا لم تتبع هذا الإعلان بموقف واضح من الخيارات البديلة. عربيا الخيار العسكري ليس مطروحا. ماذا عن الخيار السياسي، وتحديدا بالنسبة لكل من مصر والأردن اللتين ترتبطان كل منهما بمعاهدة سلام مع إسرائيل؟ بالنسبة للسلطة الفلسطينية طرحت خيار الذهاب إلى مجلس الأمن لطلب الاعتراف بدولة فلسطينية ضمن حدود الرابع من يونيو 1967. لكن الدول العربية لم تعلن موقفا واضحا من هذا الخيار، خاصة في ضوء أن الولاياتالمتحدة الأميركية أشارت أنها تعتبر الخطوة الفلسطينية تحركا أحاديا، ولا ينسجم مع مبدأ المفاوضات، وبالتالي ستعمل على إجهاضه. لكن أميركا لا تجد ضرورة لوقف وإجهاض الاستيطان الإسرائيلي ليس فقط باعتباره سياسة أحادية، بل سياسة تنتهك نص وروح القانون الدولي بالاستيلاء على أراض محتلة، وفرض أمر واقع بمنطق القوة العارية. هنا تبدو الدول العربية في مأزق من هو أسير لخيار مفاوضات لا يؤدي إلا إلى مزيد من خسارة الأرض. الأسوأ أنه لا يبدو في الأفق أن بالإمكان استبدال المفاوضات بخيار آخر. السؤال في هذه الحالة: هل المفاوضات بالنسبة للدول العربية خيار ضمن استراتيجية سياسية، أم "خيار" أمر واقع مفروض عليها؟ الأمر بالنسبة لإسرائيل مختلف: المفاوضات لترسيخ الاستيطان، والتوسع في مصادرة الأراضي الفلسطينية، هو السياسة الوحيدة على الأرض. إسرائيل ليست معنية بالتوصل إلى حل نهائي للصراع في المرحلة الحالية قبل استكمال البرنامج الاستيطاني، واستكمال تهويد القدس. من جانبها، تدرك الحكومات العربية بأن رفض الحقوق الفلسطينية، وتجاهل مبادرة السلام العربية صار مع الوقت موضوعا للمزايدة بين الإسرائيليين: من يرفض تلك الحقوق أكثر، ومن يتخذ من المبادرة العربية موقفا أكثر تصلبا هو الذي يكسب سياسيا لدى الرأي العام الإسرائيلي. المثير للدهشة أن الدول العربية لا تبدو معنية باتخاذ موقف من ذلك. ليس هناك جديد في الإعلان الأخير لرئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، بتجميد الاستيطان لمدة عشرة أشهر! أهميته أنه أكثر المؤشرات وضوحا، ليس فقط على فشل خيار المفاوضات، بل على استهتار إسرائيل بهذا الخيار، وبالالتزام العربي به كسبيل لتحقيق السلام. يؤكد ذلك أن التجميد جاء بعد رفض شرس استخدمته حكومة "الليكود" لإصدار تراخيص جديدة لبناء أكثر من ثلاثة آلاف وحدة سكنية، وللتأكيد على استثناء ما تسميه "النمو الطبيعي" للمستوطنات، وإنشاء المباني العامة، مثل المدارس والمستشفيات، والطرق، والدوائر الحكومية. هذا إلى جانب التأكيد على أن البناء في القدس لا يدخل ضمن التوسع الاستيطاني، وبالتالي فالتجميد المعلن لا يشمل القدس أيضا! ثانيا أن مدة التجميد، أو عشرة أشهر، هي أقل من المدة المطلوبة لاستكمال بناء الثلاثة آلاف وحدة سكنية. وعلى هذا النحو فإعلان التجميد هو في الحقيقة إعلان فارغ وسخيف، لأن التوقف عن البناء خلال هذه الفترة هو توقف طبيعي انتظارا لاستكمال ما هو تحت الإنشاء. وفقا لهذا الإعلان يعتبر نتنياهو أنه استجاب لمطالبات إدارة أوباما، وأن استئناف الاستيطان بعد انتهاء مدة التجميد يكون مشروعا. بعبارة أخرى، تستمر حكومة نتنياهو في النهج الإسرائيلي نفسه باستخدام المفاوضات، سواء كانت متوقفة أو نشطة، غطاءً للتوسع الاستيطاني. الاستراتيجية الإسرائيلية واضحة هنا: لا يمكن رفض التفاوض، لكن يمكن تفريغ هذا الخيار من مضمونه الحقيقي، وتوظيفه كإطار لتنفيذ سياسة التوسع ذاتها من خلال الإصرار على أولوية الأمن الإسرائيلي مقابل قضايا الحل النهائي، والاستمرار في الاستيطان إلى أن يحين وقت المفاوضات الجادة حسب الأجندة الإسرائيلية. هنا يأتي موقف إدارة أوباما، باعتبارها التجميد خطوة إيجابية. وهو استمرار لمواقف الإدارات الأميركية السابقة. لا جديد هنا، بما في ذلك الموقف الأوروبي. لكن ماذا عن الموقف العربي؟ حتى الآن يبدو هذا الموقف متساوقاً مع الموقفين الأميركي والأوروبي. بل يبدو الموقف العربي في شأن خيار المفاوضات والاستيطان أقل في حراكه، ومبادراته من مواقف أخرى. فحتى داخل الولاياتالمتحدة برز مؤخرا لوبي يهودي جديد (جاي ستريت) يتبنى خيارا للسلام مشابه للخيار العربي: معارض لسياسات الاستيطان، ويعمل في الداخل الأميركي على الدفع بحل الدولتين. الفرق أن "جاي ستريت" أكثر حيوية ومباشرة في الإعلان عن مواقفه من الدول العربية. بل المفارقة أن الضجة الإعلامية التي أثيرت في الآونة الأخيرة حول مسألة الاستيطان كانت بفعل الموقف الرافض الذي أعلنته إدارة أوباما. لم يسبق للدول العربية قبل، ولا حتى لمنظمة التحرير الفلسطينية، أن جعلت من الاستيطان الإسرائيلي قضية إعلامية ضاغطة. هل يعكس الموقف العربي ضعفا في إطار المعادلة التي تحكم "عملية السلام"؟ لماذا الإصرار العربي على خيار التفاوض وهو أولا مرفوض من إسرائيل، وثانيا لا يحظى بدعم حقيقي من الأميركيين، وثالثا أن العرب أنفسهم لا يبدو أنهم يملكون ما يمكنهم من فرضه لا على الأميركيين ولا على الإسرائيليين؟ استجاب العرب لكل المطالب الأميركية لتسهيل المفاوضات، ولا بأس من إعادة التذكير بها مرة أخرى: وافقوا على الاعتراف بإسرائيل، والتطبيع معها حتى قبل التوصل إلى السلام. قبلوا بالحلول الانفرادية، وتناسوا قرار التقسيم الذي يمنح الفلسطينيين ما لا يقل عن 47 في المئة من أرض فلسطين، بما في ذلك القدسالشرقية. أعلن العرب أن السلام هو خيارهم الاستراتيجي لحل الصراع، وهو إعلان يتضمن استبعاد الحرب كخيار لحل هذا الصراع. بل سبق للرئيس المصري الراحل، أنور السادات، أن قال علناً بأن حرب أكتوبر آخر الحروب مع إسرائيل. والأنكى أن العرب، ومن بعدهم الفلسطينيون، قبلوا بالتفاوض مع استمرار الاستيطان لما يقرب من ثلاثين سنة. فعلوا ذلك استجابة للتطمينات الأميركية، وهي تطمينات لم توقف الاستيطان، ولا مصادرة الأرض. بل لم توقف استمرار تدفق الأموال الأميركية لدعم التوسع الاستيطاني. ومع ذلك لم نسمع من الجانب العربي شيئاً، ولم يتخل العرب عن خيار المفاوضات. واستجابة للضغوط الأميركية نفسها، تخلت منظمة التحرير الفلسطينية عن خيار المقاومة، واعترفت بإسرائيل حتى قبل أن تعترف الأخيرة بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة لهم. ومع ذلك ترك الأميركيون موقف المنظمة يتدهور بفعل التعنت الإسرائيلي. حتى الموقف السياسي للسلطة الفلسطينية يتآكل الآن أمام الجدار الحديدي للاستيطان، ولا تبدو الإدارة الأميركية عابئة بذلك. ومرة أخرى سكتت الدول العربية. لم يقدم الأميركيون للعرب ولا حتى التزاما بوقف الاستيطان. كيف يمكن وصف الموقف العربي في هذه الحالة؟ تختلف الدول العربية في أن رفضها للاستيطان الإسرائيلي هو رفض حقيقي، لكنها لا تختلف عن الأميركيين كثيرا في أنها لا تفعل شيئا لوقف هذا الاستيطان، أو هكذا يبدو!