لاحظ روجيه كايّوا 1913 - 1978، أحد مؤسسي"مدرسة الاجتماعيات"الفرنسية في 1938، أن الأدب الشعبي والرواية البوليسة صاغا، في أثناء القرن التاسع عشر، أسطورة باريس، وصنعا من المدينة أسطورة جماعية وغفلاً، وجدداها مع إنشاء الشخصيات الروائية، وترحالها في أقاليم الليل والنهار. والعاصمة الفرنسية موضوع لا تنفك الكتب تتناوله منذ هونوريه دوبلزاك وأوجين سو والكسندر دوماس وفيكتور هوغو وشارل بودلير. وهذه الأعمال المتواترة والمتصلة تنتهي الى حمل القارئ على اليقين بأن المدينة التي يشهدها، وألفها، تتستر على باريس أخرى، خفية وليلية، أشبه بالطيف، ويكاد يكون إثباتها مستحيلاً، ويؤرخ كايّوا الانعطاف هذا بعام 1840، وبانقلاب الإطار المديني انقلاباً عميقاً أدى الى تحول مثال البطل الروائي والى التشكيك في القيم الرومنطيقية. فدينامية توسع باريس في عهدي محافظيها رامبوتو وهوسمان كانت ثمرة تعاظم عدد سكانها، وتنوع مصادرهم أجانب وسكان مناطق، ونمو الأنشطة الاقتصادية المهن والمصانع، وسياسة الإنشاءات التحتية وتكاثر محطات سكك الحديد. وباريس هذه تغذي أحلام الزائر، وتُشهده على كثرة مناظرها وتظاهراتها. وعلى هذا، فقراءة الروايات"الباريسية"، والشعر، رافد غني من روافد الأسطورة، وعامل من عوامل رؤية باريس ومشاهدتها. فلا يدري الزائر أو القارئ أو"ابن"المدينة إذا كانت هذه تشبه وصفها في أعمال الكتّاب والشعراء أم أنها تلهم الوصف هذا، ويقتصر كتابها وشعراؤها على"نقل"ما يرون ويسمعون ويحسون. وتتولى المدرسة، وبرامجها، إذاعة الأعمال الأدبية في صفوف التلاميذ والطلاب. فيقارن هؤلاء المخزن الكبير "سوبر ماركت"أو"غران ماغازان" والبورصة والهال سوق الخضار ونهر السين ومحطة سكة سان لازار والجادات العريضة والمترو، وهي معالم باريس الكبيرة و"أبطال"رواياتها، يقارن التلامذة والطلاب المعالم و"الأبطال"، وينتقلون من وجد الى آخر. وعشية الحرب الأولى، العالمية، راجت روايات كتبها روائيون طواهم النسيان اليوم وكانوا ذائعي الصيت يومها، صورت المدينة تصويراً فوتوغرافيا، وقصت في إِطاره قصصاً وأخباراً باريسية نموذجية ولم تغب الضاحية، وهي يومها ريفية ويقيم بها فقراء على أبواب المدينة الكبيرة، عن الروايات المعاصرة. وبين الحربين وصفها الروائي لوي - فردينان سيلين بعبارة جارحة، فقال انها"ممسحة"باريس، وعلى رغم تسميتها ب"مدينة النور"، أظهرت روايات بين الحربين وجهها المنكفئ، وحياة الظل والوحدة التي تلازم حياة الشهرة والعلانية والتظاهر الحاد. والقادمون من الضاحية، أو من المناطق،"يطلعون"الى باريس أو يصعدون اليها، ولو نزلوا. و"الطلوع"كناية عن تربع المدينة في سدة فرنسا الاجتماعية، وهي ليست وعداً بالفوز والنجاح، ولكنها يانصيب، على ما نقول، يفوق الخاسرون فيه الرابحين، على ما تروي روايات إيمانويل بوف وريمون غيران ولوك ديتريش وجورج سيمونون بين الحربين. فالمدينة هي ملكة المخيلة الإقليمية والمكانية، وعاصمة الحداثة المظفرة، معاً. وقابلت الروايات، الى ستينات القرن العشرين،"حزام"المدينة أو"منطقتها"ومحافظتها الإقليمية، حيث المصانع ومخازن المواد الأولية، ومقطورات شركة السكك الحديد الوطنية، ومآوي العجزة والمقابر، ومباني السكن المتشابهة والكئيبة، قابلت الحزام هذا بالمدينة نفسها، وأنصاب السلطة والثروات ومراكز الشركات، والفنون والمتاحف، والأوبرا والمسارح، السوربون والمدارس الكبرى، الصحافة والإذاعة والتلفزة. وصور السينمائي موريس بيالا، في 1961، شريطاً وثائقياً وسمه ب"الحب حقيقة"، التقابل هذا. والحق ان تاريخ الشريط منعطف. ففي 1958، حمى الحرب الفرنسية في الجزائر، أقرت أولى خطط تنظيم المنطقة الباريسة. وفي 1961، عين مفوض عام الى المنطقة، وأنشئت محافظات جديدة 1964 - 1968. وفي 1977 انتخب أول عمدة رئيس مجلس بلدي على رأس ادارة المدينة وفي 1982، أقرت اللامركزية وكان جان - لوك غودار سباقاً الى الشهادة على المنعطف هذا. فهو خرج من المدينة، في شريطه"أمران أو ثلاثة أعرفها عنها"1966، وتناولها من نطاقها ودائرتها الإقليمية، وجمعها ونطاقها هذا في مشهد متصل. فالاثنان وحدة مكانية - وجودية تنزع الى التوسع من غير حد يحدها ويقيدها. وخلفت الحرب الثانية حقبة"أميركية"اجتمعت من موسيقى الجاز والفيلم الأسود والكوكاكولا والسيارة والطريق السريع وعطلة نهاية الأسبوع""الويك اند" والمنزل الريفي. وهي حقبة النزوح من الأرياف، وغلبة العمل الآلي والصناعة الغذائية على الأرض، وبناء الضواحي العمالية والمتواضعة، وتحديث الاقتصاد الفرنسي من طريق التأميم والتخطيط والتنظيم الإقليمي، وسياسة فتح باب الهجرة بوجه عمال المستعمرات الشباب. والوقائع الجديدة هذه استحدثت علاقة بين المدينة وضواحيها غير معهودة، تولت الرواية والسينما قصها وتعقبها فتناولت رواية كريستيان روشفور"أولاد العصر الصغار"1961، ورواية روجيه برودييه"سنابل القمح"1961، و"المجمَّع الكبير"جيرار بوتيللو، 1962، طغيان الاسمنت على ضواحي العاصمة القريبة، والمضاربات العقارية، والرشى، وتقسيم الخريطة السكنية على وسم مختلف. وعلى رغم حنين الفئات الميسورة التي نزحت الى الضاحية الفخمة، الى المدينة القديمة، على ما يروي سيمونون في"الانتقال"1967، نزعت الضواحي الى الاستقلال عن العاصمة، والقيام بنفسها تدريجاً، من غير صرم روابطها بالعاصمة، أو تطليقها. وكانت السينما أقوى الفنون انتباهاً الى الروابط الجديدة بالعاصمة. فصورها مارسيل كارنيه في"البورة"أو بقعة الأرض الخاوية، في 1960، وإداور لونتز في"القلوب الخضر"1966، ومهدي شارف في"الشاي في حريم أرخميدوس"على ما نحو ما تصور في أذن المغربي الفقي"لوتيوريم دارشيميد"أي فرضية أرشيميد - 1985، وفيليب فوكون في"العشق"1990، ومالك شيباند في"المسدس الأضلع الفرنسي"1993، وماثيو كاسوفيتس في"الكراهية"1995، وتوما جيلو في"راي"1995، وعايدة غراب - فولتا في"فتوة مذهبة"2001، وعبداللطيف كيشيش في"التهرب"2003، من غير اغفال أشرطة جان دوايون. ويلاحظ أن السينما التي تتناول الضواحي هي سينما المراهقة. وعلى خلاف أشرطة سينما الحقبة السابقة، يبقى المراهقون في ضواحيهم ولا يتركونها الى المحجة القريبة الساطعة. وعلى نحو ما تتصور أقاليم المدينة وأجزاؤها في صورة"فسيفساء غير مجتمعة، تقيم الصور التي تبعثها الأقاليم والأجزاء هذه على اضطرابها ونازعها المعلق الى التماسك. ومنذ 20 سنة، لاتغرب عن المراهق المقيم في الضواحي أمواج الصور المتدفقة من التلفزة والسينما وألعاب الفيديو والانترنت والهاتف النقال. ويتوقع أن تصبغ الصور هذه المخيلة بصبغتها الكثيرة الألوان والطبقات. ومعنى كثرة الطبقات أن المخيلة هذه هي على شاكلة حلوى الألف ورقة "ميل فوي"، فالطبقة الواحدة تتصل بالأخرى، وتشترك في المحصلة الأخيرة. ولعل"العام التالي"2007، شريط إيزابيل كزاجكا، تمثيل على الألف ورقة هذه. فإيمانويل، الصبية، تعيش في ضاحية من ضواحي باريس، تروي الصور الأولى زيارة الصبية الى أبيها، في المستشفى، وتعود من عيادة الأب الى منزل أنيق، ثم الى مدرستها الثانوية. وضاحية الفيلم تشبه الضواحي الباريسية الأخرى. فخطوط الباصات، ومحطات شبكة النقل المديني البعيد، والمخازن الكبيرة، ومطاعم الأكل السريع، والمواقف، والنواحي الخلاء، هذه كلها على صورة ضاحية الضاحية المعهودة. وحين ترجع ايمانويل من اصطيافها على شاطئ تونسي يتوفى والدها، ويدفن في مقبرة قريبة من مخزن كبير. وتخلف الوفاة في البنت الحائرة والمضطربة شعوراً يشبه القرف. فتولّي وجهها المسرح من غير حماسة. وتتعرف على عايشة المالية. وتتقطع صلتها بوالدتها. فهذه لا تريد أداء دور الأرملة المحبطة، ولا تجزع لمصابها، بل تتطلع الى استئناف حياتها. فتزور وتزار، وتشتري الثياب الجديدة وتلبسها، وتسعى في لفت الانتباه وتنتبه بدورها الى الناس. وتبيع الشقة من غير مشاورة بنتها. فتنكر هذه"خيانة"أمها. وندرة الحوارات في الشريط قرينة ماثلة على عسر التواصل، بينما لا تحصى حركات الشراء والبيع والتسديد واللقاءات في ممرات المخازن الكبيرة. وتطوي إيمانويل المراهقة على شيء من الحزن. وتضطلع بأدوار أخرى في اطار الضاحية نفسها. وهذه تكفي نفسها. فلا أثر لباريس القريبة في ايمانويل، أو في صور"العام التالي". وعلى خلاف الفيلم هذا، يروي"قاتل"سيدريك أنجيه 2007 قصة مأجور يتعقب ضحيته رجل أعمال، وتنشأ بين الاثنين علاقة نسيجها الفضول وشيء من المودة - في طرقات باريس، وبين معالمها المعروفة، القديمة والجديدة. ولا أثر للضواحي في"القاتل"، والعاصمة في مرآته مدينة هندسية، باردة، تغلب عليها المكاتب ومبانيها، على خلاف حرارة الصلة الناشئة بين القاتل المرتزق وضحيته العتيدة، والحق أن باريس المنكفئة هذه لا حقيقة لها. وأما سيدريك كلابيش، فيصور في"باريس"2008 خليطاً من سكان المدينة، يتحدر بعضهم من أفلام فرنسية صورت في ستينات القرن الماضي، ويؤدي آخرون أدواراً تلفزيونية. وتتولى بعض الصور الترويج لخطط إعمارية وعمرانية. ويغلب تركيب الفسيفساء، أو تناثرها، على المشاهد والأقوال والأدوار. فتتقاطع هذه من غير جامع يؤلف بينها، على مثال رواية جون دوس باسوس"مانهاتان ترانسفرت"1925 في نيويورك. عن تييري باكو ناشر دورية"أور باتيسم"، "إسبري"، الفرنسية، 10/2008 نشر في العدد: 16665 ت.م: 19-11-2008 ص: 29 ط: الرياض