منذ تسعينات القرن الماضي، برز مكوَن جديد في المشهد السينمائي الفرنسي، تعددت تسمياته: «سينما الضواحي»، «سينما العرب»، «سينما الهجرة»... ظهرت أفلام تسرد قصصاً مغايرة لم يسبق التعرض لها إلا نادراً، وتطرح قضايا تخص فئة كانت على الهامش، وأطلت وجوه جديدة على شاشات الفن السابع. لقد بات تواجد السينمائيين من أصول عربية ظاهرة، ربما تياراً من «أهم» تيارات السينما الفرنسية. جان ميشال فرودون الناقد السينمائي ومؤلف العديد من الأعمال عن هذا الفن يرى في هذا التيار جانباً «خصباً» و «مكسباً للإبداع»، ويقدم في كتاب «السينما الفرنسية من الموجة الجديدة حتى يومنا هذا»، وجهة نظر جديدة عن الوضع المعاصر للسينما الفرنسية منذ المنعطف الحاسم نهاية الخمسينات وحتى اليوم. فرودون المعاصر للتاريخ الذي يسرده والذي كان أحياناً يعلق عليه طازجاً في صحف فرنسية عديدة مثل «لوموند» و «لو بوان» و «كراسات السينما» التي كان مدير تحريرها ذات حقبة، يغطي في هذه الطبعة المنقَحة والمعدَلة لكتابه « العصر الحديث للسينما الفرنسية، من الموجة الجديدة إلى يومنا هذا»، بصفحات تتجاوز الألف، خمسة عقود من تاريخ السينما الفرنسية. في هذه اللوحة الشاملة يتابع القارئ سرداً فيه الأحداث الكبيرة كما الصغيرة، سرداً تاريخياً أراده المؤلف « حكاية شخصية ذات مغامرات عديدة «، وشبهه ناقد برواية «السينما» شخصيتها الرئيسة. كتاب مرجعي اخترنا من بين فصوله الكثيرة عرض تلك التي تؤرخ لظاهرة سينما المهاجرين في فرنسا، وتبيّن الدور الذي يلعبه السينمائيون ذوو الأصول العربية الذين أمسوا «مكوناً» من مكونات السينما الفرنسية و «جزءاً منها». ويعرفنا فرودون في كتابه وبصورة منهجية وموضوعية بالكيفية التي بدأت فيها السينما الفرنسية تمتلئ شيئاً فشيئاً بوجوه جديدة، وجوه عربية الأصل لكنها الآن فرنسية في أسلوبها. عقد التسعينات: حدثان خلال عقد التسعينات، ترك حدثان سينمائيان بصمات مهمة على السينما الفرنسية. أولهما فيلم الرسوم المتحركة «كيريكو والساحرة» عام 1998، فالنجاح الساحق الذي حققه أتى خلافاً لتجارب سابقة، في مجال لم تكن السينما الفرنسية قد تعودت على التميز فيه، لا سيما أن الرسوم فيه كانت تحدياً حقيقياً للمعايير المفروضة من قبل ديزني والمانجا، جعل منه ميلاداً لهذا النوع في فرنسا. كان فيلم آخر أثار الانتباه في منتصف التسعينات، نوع جديد في السينما الفرنسية ظهر في «فيلم يجسد غيتو الشمال الأميركي أكثر منه الواقع الفرنسي». هذا الفيلم هو «الكره» العمل الثاني لماتيو كاسوفيتز والذي فرض تعبير «فيلم الضواحي». يغرف العمل من موسيقى الراب والكليب المصاحب لها ليصف تجوال ثلاثة شبان (أبيض وأسود وعربي) في باريس. شكل «الكره» اكتشافاً لكثير من المتفرجين واطلعوا بفضله على «مفردات شبيبة الضواحي». ورغم مكافأة الفيلم في «كان» وحصده جوائز السيزار كونه «فرض أسلوباً ونبرة خاصة في السينما الفرنسية»، فقد استنكر العارفون بواقع الأحياء المعدومة التي تستقر فيها مجموعات المهاجرين على حدود المدن «تبسيطه المذهل». فيلم آخر مبتكر لجان فرنسوا ريشيه ظهر في نفس الفترة لكنه جسد بدقة حالة الضواحي. تلك الظاهرة ترافقت مع ظهور جيل من السينمائيين من المهاجرين العرب، اعتبر فرودون أن ربطها مع ظهور أفلام الضواحي قد يكون « مجحفاً»، فهي» ظاهرة واقعية ترتبط بالسابقة، إنما فقط في جزء منها». الرائد من أبناء المهاجرين الذي جعل من الضواحي «الديكور الرئيس لسينماه»، هو مهدي شارف الذي أعطى منذ «الشاي في حرم أرخميدس» (عام 84) صورة متباينة حين عبر برهافة عن الانقطاع بين جيل الآباء من المهاجرين وأبنائهم الذي نشأوا على الأرض الفرنسية. تتابعت الصور مع «مس منى» في اللقاء بين ترافستي وهامشيين عرب بلا أوراق، ومع « كاموميل» و «في بلد جوليت» حيث يتابع جولة ثلاث نساء خارجات من السجن في المدينة. وفتح رشيد بو شارب الذي يعمل باستمرار على موضوع الهجرة واختلاط الأعراق «أفقاً جديداً لفيلم الضواحي منذ «باتون روج» منتصف الثمانينات بإظهاره ارتطام صورة أميركا في خيال شباب الضواحي مع الحقيقة. ومع بداية التسعينات سرد في «شب» العودة المؤلمة إلى البلاد لشاب جزائري وفشله الكامل في التأقلم. تابع بو شارب التطرق لقضايا ابتعدت عن العرب كعرق، ولكنها ظلت تلامس موضوع الهجرة. في «هباء حياة» يصور مصير شاب خليط من أم فيتنامية وأب ضابط اسود أميركي. يوقع بعدها محاولة طموحة لربط الذاكرة الجماعية للعبودية بين الضفة الأميركية والأفريقية في «السنغال الصغير». يؤرخ الكتاب لكل من ظهر في تلك الفترة من مخرجين أصولهم عربية أو أفريقية، فيتعرف القارئ على مالك شيبان الذي يمكنه «المطالبة علانية بلقب مخرج الضواحي». كما على محاولات كريم دريدي في إظهار عالم هامشيي الليالي الباريسية وصغار الزعران في «بيغال» (84) ، وجهاد عربي للتخلص من قدره لينقذ أخاه من براثن مروجي المخدرات في الفيلم المؤثر «باي-باي». ويذكر بدايات مرزاق علواش، المخرج الجزائري الذي قدم لفرنسا بسبب حرب التسعينات في بلاده، وحقق عملاً عام 96 نال نجاحاً كبيراً، «سلام يا ابن العم»! عن شابين عربيين أحدهما في فرنسا ومندمج في ما يطلق عليه هنا ثقافة «زبدة» (الشباب الفرنسيون من أصول عربية) والثاني قادم من الجزائر. ويربط فرودون بين بروز مخرجين وقصص ومواضيع مرتبطة بالهجرة المغاربية وبين ظهور ممثلين جدد بعضهم « من نوعية عالية جداً» مثل سامي بو عجيلة ورشدي زم المكتشف بفضل كزافييه بوفوا. كما يعرض لمساهمة المسرح الهزلي والبرامج التلفزيونية في انتشار ممثلين مثل جمال دبَوز. سنوات الألفين: قشيش وزعيمش ظهرت في تلك المرحلة تعابير جديدة في فرنسا من نوع « الأقليات المرئية» (بسبب أصولها العرقية) وأثر هذا بالضرورة على السينما «في الوقت الذي بدأت فيه تلك تفسح مكاناً، ولو صغيراً، للسينمائيين من ذوي الأصول المهاجرة». وشكل النجاح الجماهيري والنقدي لفيلم رشيد بو شارب «السكان الأصليون» عام 2006 ظاهرة جديدة لا يمكن إغفالها، جاء العمل وبوجود النجوم دبوز ونصري وزم وبو عجيلة، «ليحارب الأفكار التي تنكر الدور الذي لعبه المحاربون العرب والسود في الجيش الفرنسي خلال الحرب الثانية»، كذلك ليبين «التنوع السكاني الذي يعيش في فرنسا اليوم». يعتبر المؤلف أن ثمة مخرجين من أصول شمال إفريقية أعطوا للسينما الفرنسية في سنوات الألفين «التجديد الأكثر دلالة والأكثر حيوية والأكثر وعداً». ويؤكد هنا على أن الأمر يتعلق « بالسينما الفرنسية وليس بسينما «المهاجرين» أو سينما «العرب» أو أشياء من هذا القبيل...». يطغى هنا بكل بداهة اسمان: عبداللطيف قشيش ورابح عمر زعيمش. قشيش ولد في تونس وجاء إلى فرنسا طفلاً مع والده البناء وعائلته. كان ظهوره الأول في فيلم أندريه تشيني» الأبرياء». سبعة عشر عاماً (2001) بعدها، أخرج فيلمه الأول» إنها غلطة فولتير» عن مهاجر سري مزور وفاتن (سامي بو عجيلة) وفيه تجلت «براعته وحيويته في الإخراج كما حس استثنائي في الحوار وفي إدارة الممثلين»، يكافح الفيلم « تحت راية فولتير وهوغو ضد الظلم الاقتصادي والسياسي». ثلاث سنوات مرت قبل أن يقدم قشيش للسينما الفرنسية «العرض الأكثر ذكاء المناقض لحبس الواقع الاجتماعي المعاصر في غيتو فيلم الضواحي». في «التهرّب» يجعل مجموعة من شبيبة الضواحي، تلعب الطراز اللغوي والسلوكي للمسرح الكلاسيكي (ماريفو). يحصد الفيلم جوائز السيزار. قشيش «المخلص لذاته ولكن القادر على عدم التكرار»، يتابع مع قصة اجتماعية حية وجد غنية نجح الإخراج «في بنائها بإمكانيات محدودة كما العادة «، «كسكسي بالسمك» 2007 حول رب عائلة مغاربي يجد نفسه مطروداً من عمله فيقرر فتح مطعم، ولكن العقبات التي تواجه الراغبين في الخروج من أوضاعهم الصعبة تقف له بالمرصاد. يعتبر المؤلف أن عام 2002 كشف مخرجاً آخر «خلاقاً» وتتجلى لديه «قوة الكتابة السينمائية». في «ويش ويش» يسرد رابح عمر زعيمش حالة النفي المتكرر الذي يخضع له عربي شاب خرج حديثاً من السجن وعاد إلى مجمعات الضواحي حيث نشأ وحيث عائلته. ثم في «بلاد رقم 1» 2006 وهو «اتحاد بين الوثائقي وبين الروائي خصب ومبهر»، يدفع زعيمش ببطله بعد نفيه من فرنسا إلى قريته الأصلية في منطقة القبائل ليواجه الحرب الأهلية الجزائرية، التعصب وأشكال أخرى من الجنون». زعيمش يعود بعدها بعمل تحليلي للسياسة والمجتمع إذ يطرح التساؤل عن دور الإسلام في الحياة اليومية لأشخاص عدة من شمال أفريقيا وأفريقيا السوداء وكون أصولهم من هناك يشكل لهم» أهمية أقل من أوضاعهم كأرباب عمل أو كموظفين». «آخر ميدان لحرب العصابات» 2008 المنجز بحرفية فنية هو اقتراح للفيلم السياسي الأكثر ابتكاراً أو الأكثر إقناعاً». ويشير الكتاب إلى «حركة معاكسة» حين يعود كثير من السينمائيين إلى البلد الأصلي مثل نادر مقناش («تحيا الجزائر»، «بالوما اللذيذة») والتونسية رجا عماري، ورشيد بو شارب... ويرى فرودون أن الأمر يتعلق هنا» بسينمائيين فرنسيين حتى لو كان وضعهم متحركاً لأنهم يصورون أحياناً أفلاماً كلها مهاجرة في الواقع الجزائري». الاستنتاج الأهم هؤلاء السينمائيون من «ذوي الأصول المهاجرة» بحسب التعبير المستخدم، لكن الخاضع للنقاش قي رأي الكاتب، إذ لا يجب وضعهم في «غيتو عرقي أو ثقافي» فلكل منهم خط سير يميز أحدهم عن الآخر»، هم بلا شك «المثال المجسد للتيار الأكثر حيوية في السينما الفرنسية». يرى الكاتب في قشيش «الخليفة الأكثر شرعية» لسلالة من المخرجين الكبار من رينوار إلى بيالا الذين كانوا، عبر الروائي والتسجيلي والعلاقة مع اللغة والجسد، قادرين على سرد ما يعتمل في عمق المجتمع الفرنسي»، أما زعيمش فهو يتابع خطوات بدأها غودار ومن ثم كلير دني في «تجسديهم للرغبة في التحقيق في خلافات وديناميكية المجتمع الذي يعيشون فيه عبر العمل الجذري على الشكل». ينفي فرودون عن السينما الفرنسية سمعتها التي تقول بعدم مبالاتها تجاه مسائل المجتمع «السينمائيون الفرنسيون، وفي كل الأحوال الأفضل من بينهم، يهتمون بالعالم الذي يعيشون فيه ولكنهم يطمحون لتجاوز الوصف أو الاستنكار إلى الابتكار الشكلي القادر على الأخذ في الاعتبار وعلى نحو أكثر عمقاً التعقيدات المعاصرة». أما الفنانون السينمائيون الذين لديهم تجارب شخصية أو عائلية عن الهجرة من المستعمرات القديمة فهم « يحملون الوعود بطريقة جديدة ليروا وليسردوا وهم ليسوا على طباق مع عادات المغرب العربي أو أفريقيا وليس بالضرورة مع تلك الخاصة بالضواحي ولكن مع المجتمع الفرنسي لسنوات الألفين كما هو، منشغلاً بكل هذه التأثرات وبنفس الوقت بتواجد الإنترنت والثقافة الأنغلوسكسونية المعولمة كما أيضاً مع الإرث الغالي (غولوا)».