قلّ ان تعرض موضوع من الموضوعات للّبس وسوء الفهم كما كان الحال مع موضوع الأطلال، وبخاصة في الحقب الأولى من العصور العباسية. ذلك ان البعض، ومن بينهم أبو نواس، اسقطوا حساسياتهم الشخصية والعصبية على كل ما يتصل بالروح العربية وتقاليدها الأدبية والشعرية الموروثة... غير ان نظرة متأملة الى ذلك"الرسم"الدارس الذي تعامل معه أبو نواس بطريقة فكاهية ساخرة لا بد من ان تكشف لنا الجذور المأسوية لفكرة الأطلال والخدوش العميقة التي تحفرها تلك الفكرة في الجسد والروح. يكفي ان نتطلع بإمعان الى الخلف كي نكتشف ان الحياة التي نعيشها لم تكن منذ بدء الخليقة سوى وقوف مستمر على طلل ما انصرم وتهدّم. فمنذ هبط آدم وحواء من الجنة بفعل المعصية التي ارتكباها ونحن لا نفعل شيئاً سوى الوقوف على طلل الفردوس الذي خسرناه والذي لا نكف عن محاولة استرداده. ما الذي فعله امرؤ القيس إذاً غير ذلك التصادي الشعري المأسوي مع روح الفقدان المبثوثة في كل مكان وزمان من العالم. وكيف لأحد ان يسخر مما لا تزال البشرية تعيشه يوماً بيوم وساعة بساعة وتزخر به آدابها الكثيرة، وأعني به فكرة التغير والزوال. فكل يوم نعيشه هو طلل اليوم الذي يليه. وكل عام يمر نشيعه بالرقص والطبول في محاولة منا لمراوغة الحزن الذي يعتصرنا من الداخل ولتمويه شعورنا العميق بأننا زائلون لا محالة. ولم تكن رواية مارسيل بروست الرائعة"البحث عن الزمن الضائع"سوى تنويع جديد على فكرة الطلل التي تبلورت معالمها في الشعر العربي القديم في شكل لم يسبق له مثيل. وقد عبرت السير الشعبية العربية بلغتها البسيطة الواضحة عن الجوهر نفسه الذي عمل بروست على بلورته والكشف عنه والذي يتلخص ايضاً بفكرة الزوال والموت اللذين يرثان الأعمار والمصائر. والحكايا جميعها تنتهي بالإشارة الى مجيء"هادم اللذات ومفرق الجماعات"الذي يضع وحده نقطة الختام للحكاية. لم تكن فكرة الأطلال بهذا المعنى محصورة في أمة أو شعب محددين ولا في مجتمع ريفي أو مديني بعينه بل هي ملازمة لكل الأماكن والمجتمعات والأعمار التي تجد نفسها وجهاً لوجه امام تحولات الزمن وضرباته الماحقة. وقد أدرك عبدالرحمن بن خلدون هذه الحقيقة بحدسه الثاقبة ونظرته النافذة الى التاريخ فربط بين مصائر الأفراد ومصائر الجماعات وتحدث عن طفولة الأمم وشبابها وشيخوختها الحتمية معتمداً على استرجاع ما مر من صور الماضي وتبادل السيطرة بين الشعوب. والأمم حين تؤول الى الوهن والتراجع لا تملك سوى التفتيش عن كنوز ماضيها الثمين والاحتفاظ بكل ما من شأنه ان يعيد الى الأذهان ذلك الفردوس الأرضي الذي بنته بجدارة خلال فترات التألق والازدهار. لذلك فهي تحول ذلك الماضي الى متاحف وتماثيل ونصب ومزارات وأهرامات وأعمدة لا تجد ما تعرضه امام زوارها أثمن من تلك الأطلال التي تختزن داخلها ذهب الزمان الأبهى. وإذا كانت فكرة الأطلال تنسحب على الأماكن والجماعات كافة فهي تتحول في مجتمع البداوة الصحراوي الى كابوس ثقيل يرهق النفس ويمنعها من الطمأنينة. فالبدوي ما ان يثبّت أعمدة خيمته ويألف تفاصيل المكان المحيط ويأنس الى من يحب حتى يجد نفسه ثانية في طريق البحث عن الماء والكلأ وفي مهب رياح مغسولة ابداً بمياه الصبابة ونيران الفراق. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يقدم امرؤ القيس الحبيب على المنزل في مستهل معلقته الفريدة"قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل"، ذلك ان المكان او المنزل لا قيمة لهما إلا مقترنين بجسد الحبيب وروحه وباندلاع شرارة الحرب ونيرانه المتعاظمة. كان من الطبيعي في ذلك العالم الذي لا يقر قراره ان تتحول الأماكن الى مزارات للأرواح التي تبحث عن فراديسها في ثنايا الذاكرة. فوسط تلك البحيرات المتلاطمة من التهديد والوعيد والثأر والدم المراق تلمع في فضاء الرأس المثلوم تلك اللحظات الجميلة الفائتة التي انتزعها الشاعر من بين أنياب الظلام وتتحول الى مجرة صغيرة من الترجيع والسعادة المستعادة. كان الأمر نفسه يتكرر في ما بعد على يد شعراء آخرين عانوا المصير نفسه وذاقوا لوعة الترحال ومغادرة المنازل التي تحولت مقتنياتها الصغيرة الى كنوز لا تقدر بثمن. وكان من الطبيعي ان تتجدد الفكرة في غير تجربة أو قصيدة من قصائد الشعراء. ففي حين يهتف احدهم"كم منزل في الأرض يألفه الفتى/ وحنينه أبداً لأول منزل"يجيبه الآخر بالحرقة نفسها"لك يا منازل في القلوب منازل/ أقفرتِ أنت وهنّ بعد أواهل". لم يكن البكاء بهذا المعنى على المكان بحد ذاته بل على الإنسان في مسيرته السريعة على طريق الذبول والتلاشي. وما نفعله جميعاً اليوم ونحن نعبر قرب بيوتنا القديمة أو تلك التي تهدمت لا يختلف كثيراً عما فعله الأقدمون. فالأماكن تلك تتحول الى نصب تذكاري دائم لتلك العيون التي تبادلت النظرات وتلك الأصابع التي تعاهدت على الوفاء وتلك القلوب التي انفطرت من الحنين. والمكان بلا الحبيبة أو الحبيب ليس سوى جثة المكان القديم وحطامه المهشّم. وفيما تبدل الزمن وأهله تحولت الصحارى الى حواضر آهلة والقرى الصغيرة الى مدن تعج بالضجيج والزحام ظلت المعاني الجوهرية للحب والحنين والشغف بالماضي هي نفسها تقريباً. كما ان جوهر الطلل المتصل بالحب لا يزال هو نفسه وإن تبدلت مظاهر الحياة ومسرحها وأدواتها. وما عبّر عنه العباس بن الأحنف والمتنبي وأبو تمام عبّرت عنه الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان على طريقتها ووفق طبيعة زمنها ومتغيراته بقولها في أحد فصول سيرتها الذاتية:"حين يلمس الحب توافه الأشياء الأشياء يحيلها الى أشياء جميلة وذات قيمة. فاتورة حساب في مطعم، بطاقة دخول الى مسرح، زهرة جافة، قلم حبر ناشف أو سائل، كل هذه وأمثالها تصبح ثمينة نادرة حين يلمسها الحب".