لا أعرف على وجه التحديد السبب الذي حدا بالبعض إلى التعامل مع موضوع الأطلال في الشعر العربي بوصفه مجرد تقليد ساذج أخذ به الأقدمون وحولوه إلى نمط استهلاكي مكرر في قصائدهم ومعلقاتهم. ولعل موقف أبي نواس العدائي من تلك الظاهرة ودعوته إلى نبذها جعلها تبدو رديفة لما ترسب في الوجدان العربي الجمعي من تقاليد بالية وترجيعات رثة متصلة بعالم البداوة البعيد عن المدنية والتحضر. والواقع أن في هذا الموقف الكثير من الجور والتعسف إضافة إلى ما فيه من إسقاط السياسة والاعتصاب القومي الشوفيني على الشعر. ففي جوهر الأمر ليست الأثافي والأوتاد وبقايا المضارب والأمتعة هي بيت قصيد الشعراء بل زمن الهناءة والحب والصبا الذي تسربت مياهه من بين الأصابع. في ذلك العالم الفسيح وشبه الخاوي والمثخن بالحروب والهجرات الدائمة وفكرة الموت، يلمع كل حجر متروك كما يلمع الماس. أما الأوتاد فتصبح مسامير الماضي المثبتة إلى ما لا نهاية في خشب الذاكرة الذي لا يعرف الاهتراء. والمرأة بعيدا عن حضورها الواقعي تتحول إلى نسيم راعش في غابة القصيدة المثخنة بالأخيلة والتهيؤات. ثم ما الذي يفعله الشعراء منذ قلقامش الباحث عبثا عن عشبة تمنح الخلود وحتى اليوم سوى الوقوف على أطلال ما تصرم من حيواتهم الآفلة وفراديسهم المفقودة. ليست الأطلال بهذا المعنى متصلة بقوم دون غيرهم أو بزمن دون سواه بقدر ما هي متصلة بمعنى وجودنا نفسه. فكل لحظة نعيشها تتحول بالنسبة للحظة التي تليها إلى طلل، تماما كما هو حال البيوت والمدن والنساء والطفولة والصبا الأول. والشعر ليس سوى الحياة مستردة عبر اللغة والصورة والحنين. إنه على حد الشريف الرضي تلفت بالقلب نحو ما لم نعد نراه بالعين أو نطأه بالقدم.