يلاحظ دارس الاجتماعيات الأميركية، أورلاندو باترسون، أن فوز أوباما بالرئاسة يتوج ظهور طبقة وسطى عريضة من السود الأميركيين، وانخراط هؤلاء في القوات المسلحة. وانتخاب سود الى منصب العمدة في المدن الكبيرة لوس انجيليس وشيكاغو ونيويورك وأتلانتا...، وآخرين الى منصب حاكم ولاية فرجينيا وماساشوسيتس، واضطلاعهم بدور"رائع"في الحياة الثقافية. وهذا الفصل من تاريخ الأميركيين الملونين، ومن تاريخ الشعب الأميركي كله، يلي فصل"ثورة الحقوق المدنية". وقوض الفصل المدني"نظام جيم كرو"، على ما يسميه الأميركيون، أي النظام الذي حل محل نظام الرق، وأرسى التمييز والإقصاء على ركن قانوني وعرفي لا يتستر على معاييره وقيمه. ويلاحظ باترسون أن الإقرار بالسود جزءاً لا يتجزأ من الجسم السياسي الأميركي لم يؤدِّ بعد لا الى ثبات الطبقة الوسطى السوداء في موقعها وتماسكها فيه ? فهي أفقر أضعافاً من نظيرتها البيضاء وأضعف حصانة من التردي والانهيار الاجتماعيين -، ولا أدى الى الاشتراك في الحياة الخاصة "فالسود هم أكثر الجماعات تزاوجاً فيما بينهم"، والأسود"العادي"لا أصدقاء له من البيض ولا أصحاب، ويترتب على هذا خسارة السود"الشبكات الاجتماعية الحيوية وقسطاً كبيراً من رأس المال الثقافي المتأتي من الاختلاط القريب". وخص المرشح أوباما هذا الوجه من سيرته، ومن السيرة الأميركية"الفريدة"، بخطبة، في 18 آذار مارس ببنسلفانيا، هي من ذرى حملته"الشعرية"، على قول توني موريسون، الروائية الأميركية السوداء ونوبل الآداب. فقال إن فوزه في بعض أكثر الولايات سكاناً بيضاً، أو"بياضاً"على قوله ساخراً ربما، لا يعني أن العرق ليس مشكلة في الحملة، أو ان الحملة الانتخابية العريضة والواسعة لم تتعثر بمشكلة العرق. ولاحظ أن بعض المعلقين رأوا في الالتفاف حوله مسعى من"ليبراليين ساذجين"لمصالحة الأعراق بثمن قليل، رمزي أو أدبي، لا يرتب على أصحابه البيض تكلفة باهظة كتلك التي ينبغي بذلها أو تسديدها لقاء مساواة اقتصادية واجتماعية تامة. ولا يغفل المرشح، وهو كان يكافح يومها على جبهة المؤتمرات الديموقراطية، رأي قس كنيسته، جيريميا رايت، في"فساد"أميركا الفطري، وفي عنصريْها التي تعصى الطبابة والشفاء. وهو يرد على المَطْعَنيْن والنقدين رداً معقداً، ومتلوياً بعض الشيء، لعله مرآة المسألة نفسها. فيذهب الى أن حاجة أميركا الملحة، اليوم، تدعوها الى الوحدة والتضامن على جبه حربين، وعلى معالجة التهديد الإرهابي، والنهوض باقتصاد متآكل، وإخراج النظام الصحي من أزمته المزمنة،والتصدي لتغير المناخ، الخ. وهذه حجة تقليدية لا تخلو من ديماغوجية في متناول من شاء. وهي تقدم المصلحة العامة والمشتركة، أو دائرة العلانية، حيث يُقر للسود بالمساواة إقراراً متعاظماً، على تمييز"أعمق"ومتغلغل في ثنايا الأنفس. فيقول الخطيب أن جدته البيضاء، لأمه، وهي حضنته، هو ابن الرجل الأسود الأفريقي الكيني، وربته، وارتضت لأجله تضحيات لا تحصى، وأحبته فوق الناس كلهم، هذه الجدة، وحالها هذه، أسرّت الى حفيدها يوماً ان الخوف ينتابها حين تمر برجل أسود في الطريق. ولم تتورع، في أحيان كثيرة، عن ترديد أحكام منمقة في السود وطبائعهم، عرقية وقومية، وجبلّتهم. وهذه المرأة لا يسع باراك أوباما إنكارها أو التنصل منها، فهي جزء منه على نحو ما الجماعة السوداء "الأمة"، المؤتلفة من النسب الأبوي وأهل الأم الأخوال، على ما كان ماسينيون يردد والسمراء جزء منه. ولا ينفي هذا رسوخ التمييز في تاريخ اجتماعي يتناوله المرشح تفصيلاً، ويتعقب إرثه، وينسب إليه جراح"المهانات والشكوك والخوف"غير الملتئمة، وإزمان"ماض لا يمضي ولا ينقضي"، على قول وليم فوكنر، الروائي الأميركي"الأكبر"ربما وأوباما ينقل عنه قوله هذا في خطبته. ويترجح الخطيب بين معالجة اجتماعية ومؤسسية عامة، تقتضي تعاقب أجيال من الناس، وتمسكهم بإرادة معالجة التمييز وظلمه، وبين دعوة السود الى التخلص من"تواطئهم على أنفسهم ودوام حالهم"، والى ترك الغضب العقيم، الحقيقي والقوي، ونسج الأحلاف في سبيل إنجاز التغيير الذي يحتاج السود إليه. ويعرج المرشح على حال شطر من البيض الفقراء الذين يصيبهم ما أصاب ويصيب السود من ظلم وإحباط، وخشية من المستقبل وپ"تبدد الأحلام"، ومن ضغينة على"التمييز الإيجابي"الذي يفيد منه بعض السود والملونين. فيطلب الى السود التنبه الى مغزى رفض بعض فقراء البيض دولة الرعاية، وانتفاع السود منها فوق انتفاع البيض الذين يمولونها. وينتهي الخطيب الى نتيجتين غير حاسمتين: فينيط بترشحه الى الرئاسة الأميركية، وفوزه المرجو طبعاً، خطو خطوة على طريق لأم جراح التمييز الحميمة ويقول أن ولاية سوداء واحدة لا تستوفي المهمة والعم، من وجه أول. وينيط، من وجه آخر، يقينه بتخطي المعضلة، بإيمانه بالخالق وإيمانه بالشعب الأميركي، على المثال التنويري والتاريخي الدنيوي والعملي الذي يهيمن على التدين الأميركي، ويصبغه بصبغته. والإيمان المزدوج هذا هو بمنزلة إقرار ببقاء جزء من المشكلة عصياً على الإرادة والعزيمة المعلنتين، وتسليم بعوامل ليس في مقدور التصميم والرغبة وحدهما تطويعها وسوقها، على رغم شعار الحملة، ولازمة خطبها وأناشيدها وبعض أغانيها. فجهر اليقين بالقوة على الفعل، وإسناد القوة هذه الى مضاء الشعب المتكاتف والمتآزر والى هيئاته السياسية وتقاليدها، لا ينفكان من تعويل على الوقت، ومراكمته الإجراءات المتصلة، ودمله الجراح الأليمة، واستيلاده المشاعر المواتية. نشر في العدد: 16656 ت.م: 10-11-2008 ص: 29 ط: الرياض