تشهد إسرائيل هذه الأيام، وعلى رغم الأزمة المركَبة التي تعيشها الطبقة السياسية هناك بعد انتهاء مرحلة حكومة أولمرت التي تلقت أكبر الهزائم والإخفاقات في تاريخ الدولة العبرية، وشروع رئيسة حزب"كاديما"المنتخبة تسيبي ليفني، بإجراء اتصالات وعقد اجتماعات تشاورية صعبة في إطار مسعاها لتشكيل حكومة جديدة، تشهد ارتفاعا ملحوظا في منسوب التهديدات الموجهة إلى"حزب الله"اللبناني الذي يواصل تسلحه المتعدد الأشكال، ولا سيما في مجال الصواريخ التي ناهز عددها ال 40 ألف صاروخ راهنا، وفق مزاعم وزير الحرب الإسرائيلي ايهود باراك، وذلك إلى جانب تسريب معلومات تتحدث عن اقتراب موعد قيام إسرائيل بتوجيه ضربة عسكرية لإيران، والتي ستتم، وفق تقارير صحافية غربية، بالتنسيق مع صقور إدارة الرئيس بوش قبل رحيلها، رغم معارضة وزارة الدفاع"البنتاغون"التي ترى أن هذه الضربة ستشكل تهديدا مباشرا لأكثر من مائة ألف جندي أميركي موجودين في العراق تحت مرمى الصواريخ الإيرانية. وبصرف النظر عن حيثيات ومبررات هذه الحملة الإسرائيلية القديمة- المستجدة، فإن ثمة أسئلة أساسية لا بد من طرحها في خضم التحولات النوعية التي تشهدها إسرائيل والمنطقة والعالم: هل تمكنت الدولة العبرية خلال العامين المنصرمين من إزالة آثار الهزيمة التي لحقت بها خلال عدوان تموز يوليو 2006 وتداعياتها على المؤسستين السياسية والعسكرية، وعلى المجتمع عموما؟ وهل استعاد الجيش الإسرائيلي، الذي أجرى مجموعة من المناورات العسكرية، فضلا عن مناورات الدفاع المدني وسواها، قوته الردعية ومعنوياته التي تمرغت في الوحل خلال وبعد الحرب؟ وأية جاهزية يملكها هذا الجيش الذي هزمته عدة ألوف من المقاتلين، وفق ما جاء في تقرير فينوغراد، لخوض غمار حرب جديدة رأت دراسة مطولة نشرها"مركز الأبحاث الإسرائيلي"ميدل ايست ؤيفيو أوف إنترناشنال أفيرز"مؤخرا، تحت عنوان"حرب لبنان 2006: الحرب غير المنتهية"، أنها حتمية؟ وأخيرا، ما هو رأي القادة العسكريين الإسرائيليين، ورؤية المختصين ومراكز البحث والخبراء ووسائل الإعلام في تبجح باراك وغيره حول إمكانية تحقيق نصر حاسم على"حزب الله"بوساطة خمس فرق إسرائيلية يجري تدريبها بشكل مكثف، وقدرة الدولة العبرية على توجيه ضربة عسكرية موجعة لإيران ومنشآتها النووية؟ خلافا للتصريحات الرسمية الشديدة اللهجة، يؤكد قادة وخبراء عسكريون أن الجيش الإسرائيلي ما زال بعيدا عن استعادة عافيته وقوة ردعه. ووفق صحيفة"هآرتس"فإن قائد الفيلق الشمالي السابق في الجيش الجنرال موشيه عبري سوكينك الذي شغل منصب قائد القوات البرية قبل عدة سنوات، ووقف، بعد الحرب، على رأس طاقم تحقيق حول أداء الفرقة 162 التي حاربت في القطاع الشرقي في لبنان، وصف الجيش قبل حرب لبنان بأنه"صدئ"، واعتبر نتائج الحرب"مخجلة"، موجها انتقادات شديدة لخطة التدريبات التي"لا تكفي لمواجهة التحديات المتوقعة"، ومحذرا من أن الجيش غير جاهز لخوض حرب. وحسب"هآرتس"فأن أقوال سوكينك هذه تتعارض مع الرأي الشائع في المؤسسة العسكرية في العامين الأخيرين، حيث يجري الحديث عن زيادة كبيرة في حجم التدريبات. وقد"تم هذا العام تدريب الكتائب في الجيش البري حوالي أربعة أشهر كمعدل وسطي، وهو ما يعادل أربعة أضعاف التدريبات قبل الحرب". ومع أن الأزمة السياسية التي يعيشها إسرائيل على وقع تنحي أولمرت واستحقاقات تشكيل حكومة ائتلافية جديدة، وربما الذهاب إلى انتخابات تشريعية مبكرة أوائل العام المقبل تحظى باهتمام الجمهور، إلا أن ذلك يخفي، في الواقع، حقيقة الاهتمام الأكبر بالمستوى العسكري الذي شهد تآكلا متزايدا فضحته نتائج حرب تموز 2006، وهو ما يعكس قلقا وجوديا تعززه حقيقة أن الجيش، وبعد عامين على الحرب، هو أبعد ما يكون عن استعادة"قوة الردع"وخوض حرب جديدة، وذلك على الرغم من الجهود التي تبذلها الأجهزة الأمنية والجيش لاستدراك مواطن الفشل وإعادة ترميم قدرات الجيش، وهو ما أشار إليه أحد أعضاء لجنة فينوغراد التي شكلت في أعقاب العدوان على لبنان للتحقيق في أسباب الفشل، البروفيسور يحزكئيل درور الذي أكد، في كلمة ألقاها في مؤتمر نظمه"منتدى مبادرة جنيف"مؤخرا، أن"حوالي نصف توصيات لجنة فينوغراد لم تطبق حتى الآن"، منتقدا تدخل الأجهزة الأمنية في الشؤون السياسية، واعتماد الحكومة الإسرائيلية بشكل كبير على التقديرات الأمنية لرئيس شعبة الاستخبارات في الجيش أمان واعتباره"المقدر الوطني"، ومعتبرا أنه"لم يحصل تقدم في عقيدة العمل والتفكير الاستراتيجي"حيث أن التحسينات التي أدخلت منذ نشر التقرير النهائي للجنة فينوغراد، كإقامة سلطة طوارئ وطنية ومجلس الأمن القومي، هامة إلا أنها ما زالت"لا تلمس المشكلة الأساسية لإسرائيل". ولكن ما هي المشكلة الأساسية لإسرائيل؟ وهل أن تدني فعالية الجيش يتعلق فعلا بقضايا التمويل والتسليح والتدريب، أم أن خللا بنيويا يعشش في مفاصله ومفاصل الدولة العبرية برمتها؟ ثم، أية إمكانية لإعادة البناء واستنساخ شكل ومضمون الكيان الإسرائيلي بحلته القديمة، وفي القلب أداته العسكرية الضاربة التي قيل بأنها تمتلك الدولة وليس العكس، في ظل المتغيرات الاستراتيجية شديدة التعقيد التي حملتها العقود الأخيرة، أيديولوجيا وثقافيا واقتصاديا وسياسيا وعسكريا.. على مستوى العالم برمته؟ وهل يمكن أن يصلح العطار ما أفسد الدهر؟ المحلل في صحيفة"معاريف"عوفر شيلح يحاول الإجابة على بعض هذه التساؤلات، ولا سيما المتعلقة منها بواقع الجيش، وذلك حين يقرر أن التلطي خلف ضآلة الميزانية هو مجرد التفاف على الحقيقة، . وعليه فإنه شيلح يترجم:"الجيش غني، مع الكثير جدا من الذخيرة واقل من ذلك العقل والشجاعة". ولأن هذا التوصيف غير كاف، ولا يصل إلى نقيَ الإشكالية البنيوية التي يعاني منها الجيش الذي يريد منه باراك الاستعداد لحرب جديدة ضد لبنان، يبقَ شيلح، في مقال آخر في"معاريف"، البحصة التي طالما عض عليها:"الجيش في حالة إفلاس أخلاقي خطيرة، متعفن من الرأس حتى أخمص القدمين، لا يمكن لأي حديث عن تحقيقات حربية وتشديد التدريبات أن تتمكن منها"، ما يبقي السؤال الكبير قائما:"هل يكيَف الجيش الإسرائيلي نفسه للنموذج الجديد من الحروب والتي لن يكون فيها حسم تام؟ وهل يستطيع هذا الجيش إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء واستعادة قوة ردعه وهيبته التي مرغت في أوحال جنوبلبنان قبل عامين؟ وهل سنشهد في حال تجرأت قيادة الكيان الجديدة، في حال تمكنت الزعيمة الجديدة ل"كاديما"تسيبي ليفني من تشكيل إئتلاف حكومي جديد، على خوض مغامرة جديدة ضد لبنان أو إيران أو سورية بداية حقبة جديدة في المنطقة؟ * كاتب فلسطيني.