شهر واحد هو المتبقي لموعد الانتخابات الرئاسية في الولاياتالمتحدة، وعلى رغم أنه الشهر الذي يحفل عادة بالمفاجآت الكفيلة بتبديل احتمالات الربح والخسارة، إلا أن الأجواء المهيمنة على العاصمة الأميركية واشنطن هي أن النتيجة اتضحت لتوّها، وأن الفوز سيكون من نصيب المرشح الديموقراطي باراك أوباما. ولا شك في أن الحملة الانتخابية للمرشح الجمهوري جون ماكين تمكنت من إزالة الكثير من البريق الذي كان سمة باراك أوباما على أكثر من صعيد، وذلك على الغالب من خلال استدراجه إلى ما يخالف الطروحات التي يفترض أنها الأساس في توجهه. فكلام أوباما عن نمط جديد في التعامل السياسي قائم على تجنب النبرة السلبية والابتعاد عن العصبية الحزبية تراجع مع اضطرار حملته للرد على سيل من الاتهامات، الغثّ منها والسمين، انهمر عليه من الأوساط الجمهورية. وإذا كانت هذه الردود لا مفر منها لتجنب إظهار المرشح الديموقراطي بمظهر الضعف ولمنع بعض الاتهامات من الاستتباب كوقائع في المتداول السياسي، فإنها انحدرت فعلياً بصورة المرشحين على السواء إلى مصاف السياسيين المتناحرين كالمعتاد بلهجة فئوية ونبرة منفرة. أما شعارا"التغيير"والاستقطاب الواسع النطاق، وما يزخر به هذا الأخير من شعبوية، واللذان كانا المنطلق لحشد زخم غير معتاد لأوباما، فإن المقامرة التي لجأ إليها ماكين في اختياره لحاكمة ولاية ألاسكا سارة بايلن كمرشحة لمنصب نائب الرئيس، قد تسببت فعلياً بتبديل صريح في خطابيات الحملة الديموقراطية، والتي أصبحت تشدد على أهمية الخبرة والكفاءة وتعتمد اعتبارات نخبوية ضمنية وصريحة في تجريحها ببايلن. والواقع أن الديمقراطيين نجحوا فعلاً في تبديد الكثير من الخطر الذي تشكله بايلن من خلال الأساليب التجريحية، ومن خلال استدراج بايلن إلى الكشف عن محدودية اطلاعها على الشؤون العامة، ولكنهم، في المقابل استعدوا أكثر ممن رأى في أساليبهم تسفيهاً للمواطن العادي في شكل عام، وللنساء في شكل خاص. غير أن هذه المناورات المتبادلة بين الحملتين لا تبدل واقعاً أضحى ثابتاً في الخريطة السياسية الأميركية، وهو أن أوباما حافظ على تفوق مريح في احتمالات الفوز بأكثرية المندوبين الانتخابيين وبالتالي بالرئاسة. فاختيار الرئيس الأميركي لا يجري على أساس فرز المجموع العام لأصوات الناخبين، بل انطلاقاً من توزيع قائم على الولايات. إذ لكل ولاية وفق هذا التوزيع عدد من المندوبين الانتخابيين يماثل حجم تمثيلها في الكونغرس الأميركي بمجلسيه، وهذا التمثيل بدوره يراعي النسبة السكانية لكل ولاية في مجلس النواب، ويمنح كل ولاية بغضّ النظر عن هذه النسبة مقعدين في مجلس الشيوخ. والقاعدة العامة هي أن كل ولاية تمنح كافة أصوات المندوبين المفروزين لها للمرشح الفائز فيها مهما تضاءلت نسبة فوزه. وغالباً ما يؤدي هذا الترتيب إلى مضاعفة الفارق على مستوى تعداد الأصوات الشعبية بين المرشحين. ولا شك أن الحملة الانتخابية لأوباما ثابرت منذ مطلعها على الاستفادة القصوى من خصوصيات هذا النظام الانتخابي، وأثمرت مثابرتها هذه على تفوق أوباما على منافسته داخل الحزب الديموقراطي، هيلاري كلينتون، على رغم قناعة بعض المؤيدين لها أنها حصلت على تعداد أكبر من الأصوات الشعبية. واليوم، فإن أوباما، وفق أي تقويم موضوعي لتوزّع أصوات المندوبين الانتخابيين، يكاد أن يضمن الفوز، إن لم يعترض فوزه الموعود هذا ما لم يكن بالحسبان. وقد لا تكون جعبة المفاجآت لدى ماكين قد فرغت، ولكن هذه الوقائع، ووطأة الأزمة المالية التي يميل الناخب الأميركي إلى إلقاء تبعتها على الجمهوريين تدفع العديد في واشنطن إلى التصرف وكأن فوز أوباما بالرئاسة أصبح من باب تحصيل الحاصل. فإدارياً، يمكن ملاحظة موجة نزوح من الإدارات والهيئات والوزارات الاتحادية في اتجاه القطاع الخاص، ترقباً لتبديلات تحصل تلقائياً مع كل رئيس جديد ولكنها أعمق وأشمل مع تبدّل الحزب الحاكم. أما سياسياً، فإن المواقف التي تجنح حكومة الرئيس بوش إلى اتخاذها اليوم متحفظة حكماً، نظراً إلى اقتراب نفاد أجل صلاحيتها، ولكنها كذلك أقرب إلى الوسطية التي امتنعت عنها هذه الحكومة مطوّلاً، وذلك تسهيلاً للانتقال إلى سياسات مختلفة في العهد المقبل. أما مراكز الأبحاث النافذة في العاصمة الأميركية، فالقريبة منها من الديمقراطيين تعدّ العدة لنفوذ لم تشهده في الأعوام الماضية، فيما المحافظة منها، لا سيما تلك التي كظمت استياءها من توجهات الرئيس بوش في السنتين الماضيتين، تستعد لتقمص الدور الناقد والمعارض من دون تحفظ. لا شك أن التبديل الأعمق أثراً هو الذي يشهده الكونغرس. فالديموقراطيون مقبلون على توطيد سيطرتهم على مجلسي النواب والشيوخ في الكونغرس، وللمرة الأولى منذ أمد قد يمسك الحزب الديموقراطي، إذا تحقق الفوز لأوباما، بالسلطتين التشريعية والتنفيذية. ولكن هذا الإحكام لم يكن من صالح أي من الحزبين تاريخياً، لما يكشف عنه من تعارض بين توجهات الرئيس العتيد ومواقف الزعماء الحزبيين في الكونغرس، ولما يحصره من مسؤولية في الحزب الحاكم على مستوى جمهور الناخبين. ففي حين أن المرشح أوباما والكونغرس الديمقراطي في ظل حكومة جمهورية قادران على إلقاء اللوم للأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد على إدارة الرئيس بوش والجمهوريين عامة، فإن الرئيس أوباما والكونغرس المحازب له ملزمان بتقديم الحلول، وهذه قلّ أن تثمر النتائج المتوخاة بالسرعة التي ترضي الجمهور، وإذا كان التاريخ هو الشاهد فإن المخرج سيكون بإلقاء كل من الطرفين المسؤولية في التأخير على الآخر. وهذه، من دون شك، هموم يتلهف الديموقراطيون أن يبتلوا بها، فيما الجمهوريون يرضخون بغالبتهم لواقع انكفائهم إلى مقام المعارضة، سوى على ما يبدو رجل واحد منهم. فجون ماكين، وهو الذي سبق للكثيرين أن اعتبروه بحكم المنتهي، لم يقل كلمته الفصل بعد، وقد يكون في هذه الكلمة ما يقلب التوقعات رأساً على عقب.