لم تعد روسيا"جزيرة آمنة"بعيدة عن تقلبات السوق العالمية وتداعيات الأزمة المالية المستفحلة ، كما حاول الكرملين أن يصورها لوقت طويل. فهي اقتحمت حياة الناس، وفرضت ذاتها بقوة على قطاعات المعيشة للمواطنين، الذين ظلوا طويلاً لا يبالون بالأخبار"الواردة من وراء المحيط"متأثرين بالدعاية الحكومية. ومع تأخر الإقرار الحكومي بتنامي الأزمة في الاقتصاد الحقيقي، خيّم خوفٌ وتوجسٌ وانتظار الأسوأ، على تفكير غالبية الروس. وبدأ كثيرون عقد مقارناتٍ بين الوضع الحالي وأزمات تسعينات القرن الماضي، عندما فقدت مواد أساسية من المخازن، واصطف الناس طوابير طويلة لسحب مدخراتهم من المصارف المفلسة. وشكا كثر في عدد من الأقاليم الروسية خلال الأيام الأخيرة من"قيود فرضتها المصارف على عمليات السحب"، وصلت في أحيان إلى تحديد سقف لا يزيد على 1000 روبل 25 دولاراً للشخص الواحد يوميا. في الوقت ذاته زادت مخاوف غالبية موظفي القطاع الخاص من احتمال تعرضهم لموجات تسريح جماعية، خصوصاً أن استطلاعات حديثة أظهرت استعداد نصف أرباب العمل للاستغناء عن عشرة في المئة من الموظفين، لضبط النفقات ومواجهة الأزمة. وانسحب هذا القلق على موظفي المؤسسات المصرفية والاستثمارية. فبعد موجة تسريح أولى طاولت الآلاف منتصف الشهر الماضي، ترددت أنباء عن تحضيرات تعدها مؤسسات مصرفية لتنفيذ حملة تسريح جديدة، بتأثير الانخفاض الحاد في حجم القروض، وإقبال المواطنين على سحب مدخراتهم من المصارف الصغرى. وبحسب خبراء، فإن الروس يميلون حالياً إلى تحويل مدخراتهم نحو المصارف الحكومية على أمل أن تعزز الدولة وضعها، أو يحاولون حفظ قيمة المدخرات في شراء عقارات أو ذهب . وتعززت مخاوف القطاع المصرفي بسبب تصريحات حكومية عن فائض في عدد المصارف 1300 مصرف في روسيا، وضرورة خفض العدد بنحو الثلث على الأقل، إضافة إلى إشهار أربعة مصارف إفلاسها في الشهر الأخير وحده، وبيعها بأسعار رمزية إلى مؤسسات حكومية. والمفارقة أن الثقة بالادخار في العقارات لم تُعزِّز هذا القطاع، فالخوف من حملات تسريح جماعية يزداد فيه، وتشير أحدث البيانات إلى أن معظم المطورين العقاريين لا يفكرون في إطلاق مشاريع جديدة، حتى أن بعضهم أوقف العمل في مشروعات منجزة بنحو 85 في المئة بسبب أزمة القروض. ومع انخفاض القروض، تعاني شبكات بيع الإلكترونيات والأدوات الكهربائية والمنزلية من عزوف عن الشراء، ما دفعها إلى تسريح آلاف العمال، وخفض هامش الربح لتستطيع الصمود في وجه الأزمة. وانسحب الوضع ذاته على قطاع السيارات، إذ أدى ضعف الطلب إلى هبوط في قيمة المستعمل منها، وبدأت معارض السيارات في خفض الأسعار والإعلان عن تسهيلات كبرى في الدفع. وطاولت الأزمة أيضاً منتجي السيارات الروس ما دفع شركة"كماز"لإنتاج الشاحنات إلى وقف خطوط العمل أياماً، وهو ما نفّذته شركة"غاز"الروسية أيضاً، مع توقعاتهما بانخفاض الطلب على السيارات في روسيا وخارجها. ولم يسلم موظفو شركات النفط والغاز والتعدين من الأزمة، خصوصاً مع انخفاض الأسعار في السوق العالمية. في هذه الظروف دعا خبراء الاقتصاد إلى"شد الأحزمة"وبدأت تظهر"نصائح" في وسائل الإعلام للمواطنين بالتخلي عن الاستهلاك الزائد، وعدم" التورط"في قروض كبيرة في الفترة المقبلة، وفي عدم التفكير أيضاً، بتغيير موقع العمل في الفترة الراهنة. ويبدو أن هذه النصائح تأتي في وقتها المناسب، إذ يشير عمال في شبكات مخازن الأغذية الروسية إلى زيادة إقبال شرائح أوسع في المجتمع الروسي، على البضائع الرخيصة، وانخفاض الطلب على مواد الاستهلاك الكمالية، ما رفع أسعار المواد الرخيصة أكثر من عشرين في المئة في مقابل حسومات على المواد المرتفعة الثمن تصل إلى خمسين في المئة. وتسود حال تذمر في أوساط المتقاعدين، لمنافسة الشباب لهم على شراء المواد المدعومة حكومياً.