هل يمكننا اعتبار كتاب هرمان هسّه "الرحلة الى الشرق" رواية؟ هو نفسه، وكثر من كاتبي سيرة حياته ودارسي أدبه، كانوا يرون هذا. وسياق الكتاب، على أية حال، سياق روائي. ومع هذا فإننا، هنا، بالأحرى، أمام كتاب حكمة وحلولية، وأمام تأمل فلسفي صاغه الكاتب في شكل يبدو معه وكأنه رواية، لها حبكتها وشخصياتها وبداياتها ونهاياتها، ولها كذلك خبطاتها المسرحية. من هنا، يمكن التوقف عند هذا الكتاب من دون محاولة تصنيفه. عند ذلك تنبعث منه متعة خالصة، هي متعة العمل الفريد من نوعه من دون ان يكون هذا الوصف حكم قيمة على الكتاب. وهنا لا بد من الإشارة أولاً، الى ان شيئاً من سوء التفاهم رافق دائماً الحديث عن هذا الكتاب، حيث ان بعض الذين يكتبون عن هرمان هسّه، من دون ان يكونوا قرأوا أعماله حقاً يشيرون الى هذا الكتاب، استناداً الى عنوانه فقط، على انه ينتمي الى"أدب الرحلات"وأن"هسّه"وصف فيه رحلة قام بها الى الشرق". وهذا غير صحيح، وقبل أي شيء لأن الرحلة الموصوفة هنا في الكتاب، ليست فقط رحلة خيالية لم تحدث ابداً، بل هي رحلة رمزية اراد الكاتب من خلال اختراعها والكتابة عنها، تصوير حال البحث عن الحقيقة وعن النور في عالم أوروبي كان في ذلك الحين 1932 تكتنفه كل أنواع الظلمات. ثم لا بد من الإشارة ايضاً الى ان هذه تُعتبر إحدى أقصر"روايات"هرمان هسّه، الذي كان، حين كتابتها، حقق شهرة عالمية بفضل أعماله الأولى، ولا سيما"نارسيوس"وپ"غولدموند"من دون ان يكون أصدر، بعد، بعض أعماله الكبرى كپ"لعبة الكريات الزجاجية"وپ"ذئب البوادي"... إذاً،"الرحلة الى الشرق"نص كتبه هرمان هسّه، على لسان راو يسميه ه.ه. هرمان هسّه، بالتأكيد... وهذا الرجل أصبح عضواً منذ فترة في جماعة تطلق على نفسها اسم"الرابطة"، وهي جماعة تقف خارج كل مكان وزمان، كما يفيدنا الراوي، وتضم بين أعضائها شخصيات تاريخية فكرية معروفة وأخرى مجهولة. ومن بين أعضاء هذه الجماعة شبه الدينية والصوفية، يطالعنا أفلاطون وموزارت وفيتاغوراس وسانشو بانشا، وبول كلي ودون كيشوت، ونوفاليس وبودلير وألبرت الأكبر... وغيرهم. وبعض أعضاء الرابطة يقومون الآن، كما يروي لنا ه.ه. برحلة على متن مركب تحت قيادة القبطان"فازوديفا"الذي نجده ماثلاً في رواية اخرى لهسّه هي"سيدهارتا". وخلال الطريق يتفق أعضاء الرابطة على ان يقوم من بينهم قسم يحج الى الشرق بحثاً عما يسمونه"الحقيقة النهائية". وعلى هذا النحو تبدأ الرحلة الحقيقية التي يرويها لنا ه.ه. عبر الزمان والأمكنة، عابرة أماكن متخيلة وأخرى حقيقية. في البداية تكون الرحلة مسلية وأنيقة. ولكن فجأة وإذ يصل الركب الى عنق جبل يسمى موربيو انفريوري، ينقطع السياق اللطيف للرحلة، أولاً لصعوبة اجتياز المكان ثم لاختفاء الخادم المدعو ليو. لقد اختفى هذا فجأة من دون ان يترك اثراً أو كلمة، ما يخلق توتراً وخوفاً وسجالاً بين الرفاق. فليو كان شخصاً ظريفاً محبوباً من الجميع ويعرف كيف يقيم علاقات رفاقية مع كل المخلوقات والكائنات. لكنه، بعد كل شيء، مجرد خادم بالنسبة الى الجماعة مع ان القارئ يعرف ان ليو اكثر من ذلك بكثير... وحتى الراوي لا يدرك هذا، عند تلك النقطة من الرواية. المهم عند اختفاء ليو يفقد كل شيء، ومن دون ان يتنبه احد الى هذا أول الأمر، معناه وجوهره... تقوم انشقاقات وخلافات بين أفراد الجماعة، إنما دون ان يتمكن احد منهم من إدراك علاقة ليو بالأمر. فهم، بالأحرى، كانوا مشغولين باتهام الخادم المختفي بسرقة أشياء يقولون إنها شديدة الأهمية. لكنهم لاحقاً لن يعتذروا حين تعود هذه الأشياء الى حوزتهم، ولن يندموا على ما قالوا، حين يدركون ان هذه الأشياء ليست لها في الحقيقة القيمة التي كانوا يعتقدونها، وسينتهي هذا كله الى فشل الرحلة وعودة كل واحد من أفراد الرابطة الى مكان إقامته. وتمضي سنوات عدة، لتجدنا من جديد، في واجهة الراوي نفسه وهو يحاول الآن ان يكتب حكاية تلك الرحلة، حتى وإن كان فقد أي اتصال مع أعضاء الجماعة، بل بات يعتقد ان الرابطة حُلَّت أصلاً ولم يعد لها وجود. لكنه حين يحاول ان يبدأ في الكتابة يجد الكلمات لا تطاوعه، فهو الآن يشعر بفشل ويأس كبيرين، ويبدو له انه فقد كل علاقة بالوجود والأفكار، وحتى بالحماس الذي كانت أثارته لديه عبارات كان تذكر ان نوفاليس قالها له وهما رفيقان في الرحلة"ان طريق السر الغامض لا تتجه إلا الى الداخل"، مضيفاً"في داخلنا، وإلا فليس في أي مكان آخر توجد الأبدية، في ماضيها ومستقبلها". والحقيقة ان الراوي، حين اراد ان يكتب عن الرحلة، كان يريد ان يصورها، حقاً كرحلة داخلية. ولكنه ذات لحظة يسأل نفسه عما إذا كانت أصلاً ملكه حتى يكتبها على هذا النحو. صحيح انه كان منذ البداية الأكثر اهتماماً بالرحلة بين كل الرفاق، لكنه الآن بات يبدي شيئاً من الخوف منها، الى درجة انه يقدم ذات يوم على بيع كمانه الخاص، الذي كان بالنسبة إليه رمزاً لارتباطه بالرحلة، هو الذي كان يعزف عليه خلالها في الأمسيات الهادئة لنشر الفرح والأحاسيس بين الرفاق. انه الآن يرى الأبواب مسدودة في وجهه، لكنه مع هذا يجد نفسه منقاداً الى الكتابة معتبراً إياها أشبه بمبرر لوجوده. فما العمل؟ يسأل أحد رفاقه نصحاً، فينصحه هذا بمحاولة العثور على ليو لعل مفتاح السر كله يوجد لديه. وبالفعل يعثر الراوي على ليو، لكنه يفشل في كل محاولته للدنو منه. إن ليو لا يحبذ التواصل معه، بل يبدو عليه اصلاً انه لم يتعرف عليه، حين يلاقيه في إحدى الحدائق. وهكذا لا يجد الراوي امامه، إلا ان يجلس عند المساء الى طاولته ليخط رسالة طويلة مليئة بالعواطف والتسامح وضروب الندم. وفي اليوم التالي يرسل صاحبنا الرسالة الى عنوان ليو. وينجح الأمر هذه المرة، إذ ها هو ليو يأتي بعد استلامه الرسالة الى بيت الراوي متعرفاً عليه هذه المرة، لكنه يخبره ان عليه ان يظهر امام محكمة"التاج الأسمى"كي يحاكم امام مسؤولي"الرابطة". وهكذا يعلم الراوي الآن أن"الرابطة"لم تنفرط بل لا تزال موجودة. هو الذي ابتعد عنها فقط، ومن هنا - كما يخيل إليه - كان مصدر شقائه الغامض طوال الوقت الذي مضى. بل إن ه.ه. يعرف الآن ان ليو هو، في حقيقة أمره، رئيس الرابطة في الوقت الحالي. إذاً فإن ليو ليس خادماً ولم يكن أبداً خادماً. وهكذا، أمام ذهوله، لهذه الاكتشافات الجديدة، تبدأ الأسرار تتوالى: ان الأزمة التي حدثت عند عنق الجبل، ما كانت سوى اختبار تعرض له أعضاء الرابطة، فسقطوا في الامتحان واحداً بعد الآخر. واليوم ها هو ه.ه. يواصل فشله في الاختبارات اختباراً بعد الآخر. غير ان ه.ه. سيصل في النهاية الى عمق التصوف الشرقي، بعد ان اختبر كل ذلك العذاب. مرة أخرى، هل نحن هنا أمام رواية أو لا رواية؟ هل يهم هذا حقاً. أمام متبعة قراءة هذا النص الغريب، المليء بالشجن والأسرار؟ ان ما يمكننا الإشارة إليه هنا هو ان هرمان هسّه إنما كتب هذا النص، استطراداً لتأثره بالرحلة التي كان قام بها الى الهند عام 1911، ووضعته في قلب مسألة الصوفية والحلولية، وهي المسألة التي ستهيمن على عمله وفكره حتى نهاية حياته. ولئن كانت آثارها برزت في أعماله الكبرى في شكل جانبي، فإنها تبرز هنا في"الرحلة الى الشرق"في شكل مباشر. وهرمان هسّه كاتب ألماني، عاش بين 1877 و1962 ومات عن عمر يناهز الخامسة والثمانين. ونال جائزة نوبل للآداب عام 1946، وكان يحمل الجنسية السويسرية في نهاية حياته. [email protected]