المركز الوطني يعتمد تأسيس جمعية " ارتقاء " للخدمات الصحية بمحافظة أضم    القصيبي يثمن إشادة القادة الخليجيون بأعمال «مسام» في اليمن    الشؤون الإسلامية تواصل تنفذ جولاتها الرقابية على الجوامع والمساجد بأبي عريش وفيفا    وفد من مؤسسة سليمان الراجحي في جولة تفقدية لجمعية التوعية والتأهيل الاجتماعي بمنطقة جازان    ضمن فعاليات شتاء جازان…انطلاق بطولة مكاتب تعليم جازان للرياضات الشاطئية    أسرتا باجنيد وطراد تحتفلان بزواج أحمد    تنمية مستدامة.. وازدهار مستمر    د. رضا عبيد.. أستاذي ومعلمي    تدهور الأوضاع في غزة بسبب تواصل الاعتداءات الإسرائيلية    «واتساب» يتيح متابعة القنوات برموز ال QR    ياباني يقتحم ألف منزل للتخلص من التوتر    «عارضة».. تقتل زوجها ب 5 رصاصات وتنتحر !    القمة الخليجية.. مواجهة التحديات    منصور بن زايد: الإمارات ستظل داعماً لمسيرة المجلس    التعاون يستعد لرد اعتباره والمحافظة على الصدارة «الآسيوية»    تركي آل الشيخ يطلق الإعلان التشويقي لمواجهة أوزيك وفيوري في موسم الرياض    الأخضر السعودي والعودة للطريق الصحيح    في افتتاح الجولة 12 من دوري" يلو".. الفيصلي يستقبل الجندل.. والنجمة يواجه جدة    السعودية - الإمارات تاريخ عميق ومستقبل مشرق ورؤية مشتركة    الإعلانات غير المأذون لها.. إلى متى؟    أهمية توثيق الأعمال لتجنُّب النزاعات المستقبلية    زواجاتنا بين الغلو والفخامة والتكلُّف والبساطة (1)    آهٍ منك يا "نجم"    100 خدمة عدلية يوفرها تطبيق «ناجز»    تنفيذ 12 جولة مشتركة لضمان الامتثال في السوق العقاري    معرض المخطوطات السعودي يناقش تاريخ الكنوز النادرة    الصندوق الثقافي يُسدل ستار مشاركته في النسخة الثانية من «بنان»    دوِّن أهدافك وعادي لا تحققها    نحو فن مستدام    ميلا الزهراني.. بدوية في «هوبال»    الخصوصية الثقافية والعلاقة مع الآخر    اتاحة الفرصة للشركات متناهية الصغر إيداع قوائمها المالية    سعود بن بندر يهنئ مدير اتصالات الإقليم الشرقي    الشتاء والاعتدال في الشراء    فواكه تسبب «تآكل» الأسنان    5 أمور لا تفعلها على مائدة الطعام    الراحة في النوم على الأريكة.. ماذا تعني ؟    احذر.. مواضيع غير قابلة للنقاش أمام الأطفال    إلزامية الداش كام    بعد تأهله للدور التالي .. النصر يستضيف السد القطري في نخبة آسيا    أخضر السيدات يشارك في بطولة غرب آسيا للكرة الشاطئية    32 جولة رقابية لوزارة الصناعة يوميا    تدريب 12.900 مواطن على المهن الزراعية المتخصصة    قطار الرياض.. حاجة مجتمعية وحالة ثقافية    آسيا.. «مجنونة»    المصمك بطلاً لكأس الاتحاد السعودي للبولو    ميزانية 2025.. مفتاح السر في «المرونة»    التصحر مرة أخرى    الوصل والقطع.. في الأزمات الإقليمية    أمير تبوك يزور الشيخ أحمد الخريصي في منزله    "911" تتلقى 2.577.867 اتصالًا خلال شهر نوفمبر الماضي    القصة القصيرة في القرآن    احذر أمامك مرجف    الأمير تركي بن محمد بن فهد يستقبل سفير قطر لدى المملكة    "الشؤون الإسلامية" تودع أولى طلائع الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين الشريفين إلى بلدانهم    أمير تبوك يستقبل المواطن مطير الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ألف وجه لألف عام ."الرحلة الى الشرق" لهرمان هيسه : سفر لاكتشاف الذات
نشر في الحياة يوم 28 - 04 - 2004

في العام 1911 قام الكاتب الألماني هرمان هيسّه برحلة الى الهند، وهو عاد من تلك الرحلة بكمّ كبير من الذكريات، ذكريات اضافها الى ذكريات طفولته إذ ان والده كان واحداً من مؤسسي الإرسالية التبشيرية الإنجيلية في الهند ليخلق من ذلك كله، بحسب ما تقول الناقدة نيكول شاردير، عالماً من السحر والإغواء والسراب: بالأحرى أسطورية مستوحاة بأسرها من الديانة البوذية. ولقد تبين دائماً ان هرمان هيسّه، كان على غرار صديقه الكاتب الفرنسي رومان رولان مفتوناً بالهند، وبالشرق عموماً. بل لنقل ان الغرب كله كان في ذلك الحين شديد الحماسة لكتابات رابندرانات طاغور وشرقيته الخالصة. ومن هنا ما يقوله النقاد والدارسون من ان الشرق كان هو ما مكن هرمان هيسّه من اكتشاف الحكمة، التي هي في الحقيقة منبع كل دعة وتناسق. ففي حكمة الشرق، يمكن الإنسان، بحسب متحمسي تلك الأزمنة، ان يزدهي، بعيداً من المادية والتشاؤم والمعاناة، وسط توازن تام تخلقه السعادة الأسمى، كما وسط الاتحاد الفريد من نوعه بين الأضداد... وإذا شئنا عنواناً لهذا كله بين كتابات هرمان هيسّه، حتى وإن عرفنا ان معظم ادبه التالي، طوال نصف القرن الأخير من حياته، كان مطبوعاً بذلك كله، لا يمكننا ان نتوجه إلا الى الأصغر بين كتبه والأكثر فاعلية وجاذبية على اية حال: "الرحلة الى الشرق"، وهو تحديداً الكتاب الذي كتبه من وحي رحلته الهندية تلك.
وأول الأمر لا بد من الإشارة الى ان تلك الرحلة وظروفها احدثت تغيراً اساسياً في حياة هيسّه. صحيح انه إذ عاد من هناك الى أوروبا، العام 1914 ليصطدم باندلاع الحرب العالمية الأولى المتناقضة في جوهرها مع كل ما كان يؤمن به في ذلك الحين، كتب لاحقاً روايته "دميان" 1919 محملاً إياها دعوته للوصول الى تصالح الإنسان مع ذاته عبر "اتباعه ديناً جديداً يعرف كيف يصالح بين المتناقضات"، لكن صحيح ايضاً ان "الرحلة الى الشرق" تحمل كل البذور التي حملتها "دميان". ومن هنا، حين كتب اندريه جيد، بعد الحرب العالمية الثانية متحدثاً عن زميله الألماني رابطاً توجهه الشرقي بتوجه هيسّه في هذا المجال، كان من الطبيعي له ان يتوقف عند "الرحلة الى الشرق" مفسراً كيف ان قراءته لهذا الكتاب كانت وراء اهتمامه، هو شخصياً ايضاً، بالشرق.
قبل "الرحلة الى الشرق" كان هرمان هيسّه أصدر روايات عدة كشف فيها عن عميق ازمته الروحية، وكانت ازمته تلك وصلت ذروتها العام 1910 حين اصدر "جرترود"... وبعدها قرر ان لا سبيل امامه للخروج من الأزمة، إلا بالتوجه الى هناك، الى حيث - كما يقول لنا في صدد "الرحلة الى الشرق" - يمكنه ان يعثر على إجابات حاسمة عن بعض اسئلة كانت تشغل باله، وأهمها: هل حقاً لا يمكن العثور على مصالحة بين النزعة الروحية والنزعة الأولى الفطرية لدى الإنسان؟ ان الجواب الحاسم عن هذا السؤال سيأتي، لدى هيسّه، لاحقاً في عمله الأكبر "لعبة الكريات الزجاجية"، حيث توقف خصوصاً عند الازدواجية الصينية بين "الين" و"اليانغ"، ولكن هذا الجواب، كان ممكناً لولا "الرحلة الى الشرق"، حيث عرف الكاتب كيف يتحدث عن حجيج يموضعون انفسهم تبعاً لمنظومة إلهية ذات اسرار لا يسمح لأي واحد منهم بأن يكتشفها... ولكن الى اين يتجه الحجيج؟ طبعاً الى ارض الحكمة المنشودة... ولكنهم ليسوا جميعاً متوجهين الى هناك ضمن سياق فكري واحد، إذ ان بعضهم يتطلع الى العثور على الكنز الأسمى، والبعض الآخر للعثور على الأفعى السحرية، بينما ثمة من يسير ساعياً للوصول الى تعلم منطق الطير، او العثور على زهرة الشباب الضائعة. ومن بين هؤلاء الحجيج هناك بطل "الرواية" المسمى هنا ه.ه. هرمان هيسّه... طبعاً. وهذا السيد هو الذي يروي لنا هنا حكاية تلك الرحلة الشرقية التي قام بها ذات يوم. إنه في الرحلة يرافق اولئك الحجاج، "المستيقظين" الذين يسيرون معاً على طريق الحكمة. وها هو الراوي يفيدنا كيف "اننا سرنا نحو الشرق، لكننا كنا في طريقنا نجتاز كذلك العصور الوسطى والعصر الذهبي" وكيف "كنا نعبر ايطاليا وسويسرا" وكان "يحدث لنا احياناً ان نضرب خيام رحلتنا في القرن العاشر، ونأوي لدى البطاركة والجنيات".
ولكن ما الذي كان يدفع بطلنا الى القيام بتلك الرحلة/ المغامرة؟ الأمل في ان يلتقي حبيبة احلامه الحسناء فاطمة... هل سيلتقي ه.ه. فاطمة في آخر تطوافه؟ ليس علينا هنا ان نجيب. ثم ان هذا ليس هو المهم. المهم هنا هو ان هذه الرحلة، التي هي رحلة بحث عن الذات بقدر ما هي رحلة بحث عن الحب، ستكون على مدى صفحاتها القليلة نوعاً من إنجاز الذات يمر عبر الأعياد والشعر والورد والموسيقى. ولكن ليس بالنسبة الى ه.ه. وحده بل كذلك بالنسبة الى كل القائمين بالرحلة، مهما كانت غاياتهم ومشاربهم. وهم فيما كانوا يتقدمون على طريقهم، كان البعض منهم يصبح "مختاراً" و"عارفاً" و"مسترق النظر"... وبالتدريج صارت قلوبهم مملوءة بالإيمان اكثر من ذي قبل. لقد اقسموا معاً ولبسوا حول اصابعهم الخاتم نفسه... غير انه كان ثمة بينهم من اضاع الطريق وانتهى به الأمر الى رمي خاتمه ونسيان الكلمة البدئية... وهؤلاء لن يأسف عليهم احد. ذلك ان القارئ - ورفاق الرحلة - بدلاً من ذلك يبدون منهمكين بالتعرف على بعض الشخصيات المعروفة التي تُلاقى خلال الرحلة، من زرادشت وأفلاطون وفيثاغورس والبرتوس مانيوس، الى نوفاليس وبودلير وغيرهم من اصحاب الرحلات التعليمية: كلهم هنا على الطريق يلتقيهم ه.ه. ويتحدث عنهم إن لم يتحدث إليهم، وإلى جانبهم سانشو بانشا وغولدموند بطل واحدة من روايات هيسّه. ولكل واحد من هؤلاء اسراره وأفكاره... لكنهم جميعاً يشتركون في ذلك السفر العجيب.
عندما اصدر هرمان هيسّه هذا الكتاب الذي كشف مقدار ما أثر الشرق فيه، بقدر ما كشف عن حاجة كل الذين قرأوه وأولعوا به الى جزء روحي من حياتهم كان ضائعاً من قبل، لم يكن معروفاً تماماً، وكانت سنه لا تجاوز الرابعة والثلاثين، لكنه مع هذا كان اصدر على الأقل روايتين هما: "بيتر كومنزند" 1904 و"جرترود" التي تحدثنا عنها اعلاه، لكنه خلال العقود التالية عرف وقُرئ على نطاق واسع، حتى وإن كان نسي في شكل مؤسٍ خلال السنوات الأخيرة من حياته، ليموت هادئاً في قريته السويسرية الصغيرة التي امضى فيها آخر سنوات حياته ورحل فيها العام 1962. ومع هذا فإنه بعد اقل من عقد من رحيله عاد الى الواجهة الأدبية من جديد، وتحديداً بفضل حركات الشبيبة اواخر الستينات، إذ اكتشفت تلك الشبيبة حكمة شيوخ الهند بديلاً للعقلانية الأوروبية الباردة، فكان ان اعيد الاعتبار الى هرمان هيسّه الذي كان اصر دائماً على هامشيته وعلى ان يقف خارج "الموض" الأدبية وخارج كل تصنيف. وهيسّه، كان بعد "دميان" التي اصدرها في العام 1919، عرف فترة خصب في كتابته، اذ عثر على لغته التعبيرية الخاصة، وهكذا تتالت لديه اعمال مثل "سيد هارتا" 1922 و"ذئب البوادي" 1927، وصولاً بالطبع الى روايته الكبرى "لعبة الكريات الزجاجية" التي صدرت خلال الحرب العالمية الثانية، في سويسرا التي كانت أضحت وطناً نهائياً له. وقد حاز هيسّه جائزة نوبل للأدب في العام 1946، مكرساً واحداً من كبار ادباء، بل مفكري، القرن العشرين بأسره.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.