في المجتمعات الغربية تتفشى النزعة الفردية. والفرد فيها محور لسائر النشاطات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية وغيرها. ويتجلّى هذا النزوع الفردي في غياب العلاقات الاجتماعية بين سكان المدن وأحيائها، بل وعماراتها. ينعزل بعضهم عن بعض، ضمن حدود"مصطنعة". حتى أن الجار يتجاهل جاره ويعيش لصيقاً به، لكن بمعزل عنه، وتندر التحيات والزيارات المتبادلة. ويحصل أن أحدهما لا يهبّ لنجدة الآخر في وقت الضيق، ولا يشاركه أفراحه وأتراحه... وكأن كلاً منهما يقيم في كوكب آخر أو فقّاعة خاصة. وما زالت"الفقّاعة"تشكل رمزاً للفردية والوحدة في الآداب والفنون في الغرب، ومصطلحاً لهما في العلوم الإنسانية والاجتماعية. بيد أن هذه الصورة عن المجتمعات الغربية، تتغيّر أمام مراقبين أو غرباء آتين من بعيد، في مناسبات وأحداث ومناطق مختلفة. وهي دائمة التبدّل نحو الأفضل أو الأسوأ، كل بحسب نظرته والثقافة التي يحملها من بلده الأصيل. وتلافياً لهذه"الظاهرة الاجتماعية المرَضية ذات المنشأ الرأسمالي"، كما يقول الباحث الاجتماعي الكندي إيفون ماروا، التي تهدد العيش المشترك بين سكان الحي الواحد، وهم من أعراق وثقافات وتقاليد وأديان مختلفة، فتنسحب تداعياتها على مجمل النسيج الكندي، تشهد مدن كندية كثيرة، ظاهرة جديدة مغايرة في جوهرها. وتُعتبر هذه الظاهرة"رد فعل على الرأسمالية المتوحشة"، وتتجلى في إقامة مناسبة"عيد الجيران"بغية توطيد أواصر العلاقة بين مكونات المجتمع الكندي المتنوعة. وتتعاون البلديات، كل في نطاقها الاداري، بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني، في شن حملات توعية وإرشاد وتثقيف، تهدف إلى ايجاد اجواء من المحبة والإلفة والتعاون والتضامن، وتقرّب السكان بعضهم من بعض، تمهيداً"لتكريس هذا العيد وجعله تقليداً سنوياً يعم مختلف الأحياء الكندية"، على حد تعبير رئيس اتحاد بلديات كيبك جان بييرو. انطلقت فكرة"عيد الجيران"من فرنسا عام 1999، وما لبثت أن انتشرت في 22 بلداً أوروبياً، ووصلت عدواها أخيراً الى مقاطعة كيبك الكندية الفرنكوفونية. وتحتفل به المقاطعة على نطاق البلديات والمراكز الثقافية والأندية الاجتماعية والحدائق العامة. وتتولى الجمعيات الأهلية تنظيمه والإشراف عليه وتحويله إلى مهرجان شعبي يضج بنشاطات متنوعة، فكاهية وترفيهية وثقافية. ويشارك فيه سكان الحي، كباراً وصغاراً. والغاية من هذه الأجواء الاحتفالية يحددها المسؤول عن"عيد الجيران"، برنارد جونيري، بثلاثة أهداف، هي: تعزيز المواطنة، وتأصيل فكرة الانتماء، وتسهيل مبدأ الاندماج والتسامح والتعايش الحضاري. المطبخ وسيلةً للتعارف يُحتفل بعيد الجيران عادة، إما في الحدائق المنزلية أو العامة، وإما في باحات البلديات أو في الملاعب الرياضية أو صالات الأندية الثقافية والمراكز الشبابية وغيرها... وتركّز النشاطات في شكل أساس على عروض لمختلف انواع المطابخ والاطعمة الافريقية والآسيوية والاوروبية والاميركية والشرق أوسطية. ويتهافت"الجيران"على تذوق الأطباق، ويتعرفون على طريقة تحضيرها ومكوناتها ومميزاتها الصحية، وربما وصفات أخرى. واللافت"تجمهر"أعداد كبيرة حول المطبخ اللبناني، ربما بسبب وسع انتشاره في البلاد. فارس نعيم، ويعمل"شيف"في أحد مطاعم مونتريال، يعتبر الطبق اللبناني"سيد الاطباق"، يتهافت عليه كنديون وغير كنديين، ويتلذذون بالمشاوي والفلافل والحمص والتبولة والبقلاوة... وقد باتت هذه الأطعمة شائعة هنا... ويثني المتذوّقون على المأكولات الغنية المتنوّعة التي تلائم أذواقاً مختلفة."مفتاح التعارف والتعايش... لقمة"، يقولها نعيم في ختام حديثه الشيّق والمشهّي عن المأكولات اللبنانية ودورها في شد الأواصر. والهوايات من المظاهر الاحتفالية الاخرى، هوايات متنوعة يشارك فيها الجميع، ولو في حماسة متفاوتة. منهم من يتّجه نحو الالعاب الثقافية او الرياضية، ومنهم من يتسامر ويتجاذب أطراف الحديث في مواضيع مختلفة، والأكل أحدها. ومنهم من يحضّر الطعام او يوزع المشروبات او يشعل النار الشواء، بالطبع. وهناك من يستلقي على العشب الأخضر تحت اشعة الشمس او في فيء الاشجار. "عيد الجيران"مناسبة سنوية لا للتعارف بين ابناء الحي الواحد وحسب، وانما لجلوسهم جنباً الى جنب. ولا فارق بين كندي ومهاجر او امرأة سافرة ومحجبة او تاجر وعامل. الفوارق الطبقية والاجتماعية والثقافية ومشاعر العنصرية تكاد تختفي تماماً، في هذه المناسبة، لتسود محلها روابط الإلفة والمحبة والتسامح. وتطغى فيها روح"الجماعة"على"الأنا"الفردية، وكأن الجميع يعيش في ظل تجمّع، هو اشبه ب"هيئة أمم وشعوب"مصغرة، يتحاور افرادها بلغة هادئة. والتعرّف الى"الآخر المختلف"يجري بعيداً من دون خلفيات فكرية او ثقافية، أو أحكام مسبقة. ويبقى هذا العيد فرصة مثالية لإعادة اللحمة إلى الأجواء العائلية المفقودة، وقضاء فسحة من الوقت بفرح وراحة وطمأنينة، بعيداً من مشاعر العزلة والإجهاد النفسي التي تخلفها ضغوط الحياة ومنغّصاتها اليومية.