تمر الساحة الفلسطينية في هذه المرحلة بأزمة في القيادة، والشرعية، والكيانية، هي على غاية في الخطورة، لاسيما أن الأجسام الرئيسة المؤسسة للنظام السياسي الفلسطيني السائد، وهي المنظمة والسلطة وحركة فتح، تعيش حالا مريعة من التآكل والترهل والتسيّب. وما يفاقم من خطورة هذه الأزمة تراجع دور الحركة الوطنية، خصوصا بسبب ترهلها وانقسامها، وعدم نجاح الخيارات التي أخذتها على عاتقها، في المقاومة والتسوية، وفي الانتفاضة والمفاوضة، وفي بناء الكيان والمنظمة. ومن مظاهر ذلك، مثلا، انسداد الأفق أمام خيار الدولة المستقلة، وتلاشي مؤسسات منظمة التحرير، وتراجع مكانة الفصائل الفلسطينية، والتصارع الدامي بين حركتي فتح وحماس، وحال الضياع والاحباط والفوضى التي يمر بها الشعب الفلسطيني في كافة اماكن تواجده. ويمكن من خلال إجراء مقاربة تاريخية بين التجربة الفلسطينية قبل النكبة، والتجربة الحالية، ملاحظة التداعيات الخطيرة والمصيرية، التي يمكن آن تجرها الأزمة القيادية والكيانية والشرعية على حال الشعب والقضية والوطن، في الحالة الفلسطينية، بحكم ظروفها الصعبة والاستثنائية، خصوصا بسبب ضعف التجربة الكيانية، وغياب المؤسسات التوحيدية الجامعة، وتشتت الشعب الفلسطيني. ففي مرحلة مقاومة الانتداب البريطاني والمشروع الاستيطاني الصهيوني لفلسطين 1918 1948، شهدت الساحة الفلسطينية صراعا مريرا ومديدا على الزعامة والمكانة والسلطة بين العائلتين المقدسيتين الحسينية والنشاشيبية"استهلك تاريخ الشعب الفلسطيني، واستنزف قدراته، وشتت طاقاته، وصرفه عن مواجهة التحديات الحقيقية، التي يمثلها الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني. ويخشى أن تصاريف القدر، في هذه المرحلة، تشاء أن يكابد هذا الشعب، للمرة الثانية، التداعيات الخطيرة لهذه التجربة، في تكرار ربما للمآل التراجيدي لحركته الوطنية الأولى. وفي تلك الحقبة من الزمن الصعب عانى الفلسطينيون كثيرا جراء الانقسام بين زعامة هاتين العائلتين، أو بين تياري: المجالسية نسبة للحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى، والمعارضة نسبة لراغب النشاشيبي رئيس بلدية القدس، وظلت حركتهم الوطنية الوليدة، حينها، أسيرة التداعيات السلبية الناجمة عن استمرار وتعمق هذا التجاذب المرضي، رغم مخاطر تآكل الوطن، واستشراء السرطان الصهيوني، أمام أنظار الجميع. هكذا لم تستطع الحركة الوطنية الفلسطينية، المنقسمة على نفسها بين الحسينية والنشاشيبية، أو بين المجالسية والمعارضة، طوال فترة الانتداب البريطاني، تحقيق التوافق على استراتيجية سياسية مشتركة، ولا التفاهم على أشكال معينة للنضال، ولا على تشكيل مؤسسات سياسية مشتركة، توحد الشعب الفلسطيني، وتقود نضاله"إلا بفضل الضغوط والجهود العربية، ولفترات محدودة. وقد بلغ الانقسام حد أن كل طرف كان يكيل تهم الخيانة والعمالة للطرف الآخر، إلى درجة بات الوضع معها شديد الخطورة، مع قيام كل طرف باستهداف الطرف الآخر، عبر تشكيل مجموعات للاغتيال أو للقتل، أو عبر قطع الطريق عليه في العمل السياسي، وفي القيادة"الأمر الذي يتكرر حاليا بين فتح وحماس. وكما هو معلوم فإن النخب المتنورة أو المتمدنة، آنذاك، لم تستطع الخروج على هذا الاستقطاب وولوج طريق ثالث، أو تشكيل قطب ثالث، أساسا بسبب محدودية عددها ونفوذها، وبسبب حداثة التجربة السياسية، وضعف التشكيلات الحزبية/الحداثية، وأيضا بسبب تخلف البنى الاجتماعية للشعب الفلسطيني، وسيادة العلاقات العشائرية والبطركية، ما عكس نفسه على واقع الحركة الوطنية وخطاباتها وتشكيلاتها، ووسائل عملها وعلاقاتها. طبعا، لا يمكننا أن نغفل هنا ثقل أو دور دولة الانتداب والحركة الصهيونية، بكل ما يعنيه ذلك من قوى وشبكة تحالفات وعلاقات وإدارة، في إعاقة نمو الحركة الوطنية، وإشاعة البلبلة والفوضى والفرقة في صفوفها الأمر الذي تفعله إسرائيل أيضا في هذه المرحلة. وفي تلك الدوامة من الخلافات والتناحرات والاتهامات باتت الحركة الوطنية الفلسطينية عرضة للتآكل والاهتلاك والفوضى، ما سهّل على حكومة الانتداب، وعلى الحركة الصهيونية مخططاتهما، في استنزاف قدرات الشعب الفلسطيني، السياسية، والاقتصادية، من جهة، والمضي بسياسة فرض الأمر الواقع، من جهة أخرى"عبر زيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وبناء المستوطنات، وإقامة المؤسسات الصهيونية، التي باتت بمثابة جنين الدولة الصهيونية القادمة. على ذلك فإن غياب استراتيجية سياسية وكفاحية واضحة ومشتركة، وغياب القيادة الوطنية الناضجة والمتفاهمة، وضعف تقاليد المشاركة الشعبية، وتدني مستوى العمل الجماعي المؤسساتي الديموقراطي، ساهم في إضاعة فلسطين. فعندما أزفّت ساعة الحقيقة 1948 كان الشعب الفلسطيني جد منهكا ومستنزفا من الجوانب الاقتصادية، ومشتتاً وضائعا من الناحية السياسية، بسبب خلافات زعمائه، وفوقيتهم، وأنانيتهم. لذلك شهدنا كيف أن هذه الحركة الوطنية ليس فقط لم تستطع تنظيم الدفاع عن فلسطين، أو تنظيم التراجع الفلسطيني، كي لا يحصل بالشكل الكارثي الذي تم عليه، لكنها أيضا لم تستطع حتى إقامة كيان فلسطيني في الأراضي الفلسطينية، التي لم تقع تحت سيطرة إسرائيل، أي الضفة والقطاع، ولم تستطع الحفاظ على استمراريتها، إذ غابت تلك الحركة بشكل تراجيدي، بقيادييها وإطاراتها، كأنها جزء من خرائب النكبة! الآن، وللمرة الثانية، يعيش الشعب الفلسطيني إيحاءات، وربما تهديدات، هذه التراجيديا التاريخية، وذلك على الرغم من الفوارق بين هاتين التجربتين. مثلا، إذا كان التصارع الداخلي في التجربة الوطنية الفلسطينية المعاصرة يتميز عن التجربة السابقة إبان الانتداب بكونه لا يستند إلى عصبية عائلية أو عشائرية، باعتبار أن الوضع يتعلق بحركتين سياسيتين كبيرتين "فتح"و"حماس"، تتمتعان بعمق تاريخي، يناهز على أكثر من أربعة عقود من الزمن، وهو ما يحسب لصالح هذه التجربة، فإن مخاطر الانقسام الحالي تنبع من المعطيات التالية: 1- أن الانقسام الحالي، والتصارع السائد، هو بين حركة سياسية تمثل تيار الوطنية الفلسطينية فتح، وبين حركة أيدلوجية، تمثل تيار الإسلام السياسي، في الساحة الفلسطينية، وهي أيضا حركة سياسية ذات امتدادات إقليمية ودولية. 2- غياب المؤسسات، وضعف العلاقات الديمقراطية، وبشكل خاص تراجع حال التنوع والتعددية في الساحة الفلسطينية، بسبب من الاستقطاب الحاصل في المجتمع الفلسطيني لأحد الاتجاهين فتح أو حماس"ذلك إن من شأن وجود قطب ثالث إيجاد نوع من التوازن في الساحة الفلسطينية. 3- غلبة الطابع الميليشياوي /المسلح على البنية التنظيمية للفصيلين الرئيسين والمتصارعين فتح وحماس، ما يفتح مجال الاحتكاكات بين الجماعات المسلحة، المنفلتة من عقالها، خصوصا في ظل غياب المرجعيات القيادية، وشيوع الفوضى، والفلتان الأمني، والتحريضات والاتهامات والتوظيفات السياسية المتبادلة. 4- الاختراقات والمداخلات الإسرائيلية، التي ترى في تصارع الفلسطينيين بمثابة هدية مجانية لإسرائيل، لاستنزافهم وإرهاقهم، وللترويج لنظريتها بشأن عدم أهلية الفلسطينيين لحكم أنفسهم، ونزوعهم للعنف، وصرف مسؤوليتها عن تدهور أوضاعهم. 5- انحسار اهتمامات النظام العربي بوضع قضية فلسطين وشعبها، وعدم وجود مرجعية عربية مناسبة من شأنها الضغط لوضع حد لخلافات الفلسطينيين وصراعاتهم، لاسيما في إطار التوظيفات الدولية والإقليمية السائدة والمتضاربة. كل المؤشرات تؤكد بأنه ثمة تداعيات خطيرة يمكن أن تنجم عن استمرار مسلسل الخلاف والانقسام والصراع الداخلي في الساحة الفلسطينية، على الشعب والقضية والوطن، كما على الحركة الوطنية الفلسطينية ذاتها، الأمر الذي يفرض بذل المزيد من الجهود من أجل وضع حد نهائي لها. ويخشى في حال تعذر ذلك أن يصبح مآل الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، بسبب الطريقة التي رُكبت فيها والآليات التي حكمت عملها، والقيادات التي تسير بها، ليس أقل مأساوية عن مآل الحركة التي سبقتها. * كاتب فلسطيني.