ليس ثمة شكّ في أن سياسات اسرائيل وممارساتها القمعية والقهرية هي المسؤولة عن تكريس انتهاج الفلسطينيين للعنف، ومع ذلك ينبغي الاعتراف أيضاً بأن ثمة مصادر أخرى لهذا العنف، تنبع من المجتمع الفلسطيني ذاته، من نمط بناه وعصبياته التقليدية/ القبلية العائلية والعشائرية والمناطقية، وعلاقاته الداخلية/ الأبوية، وخلفياته الفكرية والتربوية. وفي شكل عام فإن مجتمعات بلدان العالم الثالث وضمنها المجتمع الفلسطيني، ما زالت أقرب الى مجتمعات ريفية، كونها لم تتعرف إلا بوقت متأخر ومشوه وعبر الاصطدام بالخارج على قيم الحداثة والعلاقات المدنية، المتأسسة على احترام الرأي الآخر والاحتكام للقانون واعتبار دور المؤسسات واعلاء شأن الفرد والحريات. والاجماع في مجتمعات كهذه لا يصدر عن مجموع الأفراد، الذين يؤلفون الذات المجتمعية، في مؤسسات دولانية شرعية، بقدر ما يصدر عن أولي الأمر وجهاء العائلات والعشائر وكبار رجال الدين وأصحاب النفوذ، الذين يشكلون نوعاً من سلطة معنوية ووصانية موازية، تتمتع بسلطات مادية أيضاً، وهذه المجتمعات تولي العصبيات القبلية مكانة المرجعية، على حساب الدولة، حيث الغلبة لمن يملك مصادر القوة، المباشرة والمداورة. وهذا الواقع يشكل أحد أهم مصادر تشريع العنف والاكراه في تلك المجتمعات، التي تبدو في حال تهميش واغتراب ازاء الدولة التي أقيمت بوسائل قهرية بعيداً من الاجماعات الوطنية. وتبين التجربة بأن المجتمعات التي تخوض الكفاح العنيف ضد الاحتلال، لا سيما في بلدان العالم الثالث، تصاب بتشوهات سيكولوجية وأخلاقية، أو بمعنى آخر تصاب بلوثة العنف حتى في ادارة أوضاعها وعلاقاتها الداخلية، بقدر العنف الذي يواجهها به الاحتلال أو الذي تواجه هي الاحتلال به، بحكم ضعف اندماجها الاجتماعي وتطورها المؤسسي. وثمة أمثلة تبين أن الجماعات المسلحة التي وصلت الى السلطة بالعنف، قامت فيما بعد بتوجيه شحنة العنف التي تتملكها نحو الداخل، لحل خلافاتها الداخلية ولإحكام سيطرتها على المجتمع. وقد شهدنا كيف ان تجربة العنف الجزائري ضد الاحتلال انعكست أيضاً على سيكولوجية الجزائريين، وأدت الى استشراء العنف لديهم، في حل خلافاتهم الداخلية. الآن يبدو ان الفلسطينيين يتعرضون، في شكل أو في آخر لنفس الأعراض المرضية العنفية، اذ بات العنف الموجّه ضد الاحتلال ينعكس سلباً في شكل أو في آخر على الفلسطينيين ذاتهم، خصوصاً أن عنفهم هذا بات على الأغلب، وكأنه غاية في ذاته، غير مقنن ولا مسيس، وغير مسيطر عليه بطريقة صحيحة، وهذا يتبع لتدني مستوى تطور المجتمع الفلسطيني وضعف علاقات الديموقراطية والمشاركة في حركته السياسية. والواقع فإن تفشي روح العسكرة في بنية الحركة الفلسطينية، وتغييب مؤسسات الاجماع الوطني يساهم في تغليب لغة القوة والعنف كوسيلة لحل الخلافات الداخلية، ولإحكام السيطرة، لفرض أغراض أو أهواء سلطوية أو فصائلية بمعزل عن ملاءمة ذلك لحاجات ومصالح الشعب الفلسطيني. جدير بالذكر ان مشهد العنف الداخلي، الذي برز في الساحة الفلسطينية أخيراً، لحل الخلافات البيئية ليس جديداً، فهو غير معزول عن التجربة السياسية الفلسطينية سابقاً، إبان الكفاح ضد الانتداب البريطاني لفلسطين. ففي تلك المرحلة انقسم الفلسطينيون بين تيارين: المجالسية، بزعامة الحاج أمين الحسيني رئيس المجلس الاسلامي الأعلى وهو مفتي فلسطين والمعارضة بزعامة راغب النشاشيبي، رئيس بلدية القدس. وقد اتسم الصراع بين هذين الطرفين، الذين استقطبا الوطنية الفلسطينية، بالتوتر والعنف وبتخوين كل طرف للآخر، وعندما اندلعت الثورة الفلسطينية الكبرى 1936 - 1939 قامت فصائل المقاومة المسلحة باغتيال كثير من الشخصيات المحسوبة على المعارضة، بدعوى بيوع الأراضي وغير ذلك، في حين شكلت المعارضة ما سمي"فصائل السلام"، التي أخذت على عاتقها مهمة ضرب فصائل المقاومين وتصفية قياداتهم بالتعاون مع الجيش البريطاني. والواقع فإن هذه القوى لم تتوجه نحو الوحدة الا بنتيجة ضغوط خارجية، فقط، ولكن ذلك لم يمنعها من الاستمرار في التنابذ على رغم تعاظم خطر ضياع الوطن الفلسطيني لمصلحة المشروع الصهيوني! ولم تسلم التجربة الفلسطينية المعاصرة من هذه الأعراض المرضية، فلطالما شهدت الساحة الفلسطينية نوعاً من الاقتتال الداخلي والاحتكام للسلاح بين رفاق الخندق الواحد، ان داخل كل فصيل على حدة أو بين هذا الفصيل وغيره، حدث ذلك في الأردن مثلاً لدى انقسام الجبهة الشعبية وخروج الجبهة الديموقراطية 1968 كما حدث ذلك في لبنان مراراً بين الكثير من الفصائل. وكانت أبرز محطات الاقتتال والاحتكام للسلاح، حصلت في العام 1983، في مرحلة انشقاق مجموعة من فتح عرفت باسم فتح الانتفاضة التي شنّت نوعاً من الحرب ضد حركة فتح الأم في بيروت والبقاع وطرابلس، في محاولة منها لاجراء حسم انقلابي/ عسكرتاري في الحركة لمصلحتها، وهو ما لم توفق به، لأسباب داخلية وخارجية وقد استعيد مظهر الاقتتال الفلسطيني في لبنان في ما سمي حرب المخيمات في النصف الثاني من الثمانينات وأخيراً شهدت بعض مخيمات لبنان بعض مظاهر الاقتتال العنيف بين المجموعات الفلسطينية المسلحة. كذلك فإن الانتفاضة الفلسطينية الأولى شهدت نوعاً من القتل غير الشرعي، الذي لجأت اليه بعض مجموعات المقاومة المسلحة بحق بعض المتعاونين مع اسرائيل، اذ تبين فيما بعد أن الكثير من التصفيات تمت عن غير تحقيق وعن غير وجه حق. وعند قيامها، بنتيجة اتفاقات أوسلو 1993 حاولت السلطة حسم الأمور لمصلحتها، في مواجهة الفصائل المعارضة، فلجأ الى المبالغة بتعزيز دور الأجهزة الأمنية، على حساب البنى الأخرى، كما لجأت الى استخدام لغة الزجر والتهميش والقمع مع المعارضة، بدلاً من استخدام لغة الحوار والمشاركة والاحتكام للشعب ومؤسساته الشرعية. هكذا وصل الوضع الفلسطيني راهناً الى نوع من الاحتراب الداخلي ان داخل مراكز القوى في السلطة وحركة فتح ذاتها، أو بين هذه الحركة ومعها السلطة من جانب وحركة حماس من جانب آخر، إذ بات عدد القتلى الفلسطينيين بالنيران الاسرائيلية، في هذا العام، يساوي عددهم بالنيران الفلسطينية 218 - 219. وكما قدمنا فإن واقع غلبة البنية العسكرتارية على الفصائل، على حساب البنية التنظيمية، ونوع الثقافة السياسية السائدة، وحرمان المجتمع من المشاركة السياسية، أسهم في تغذية العنف كشكل لحل الخلافات الداخلية. فالسلطة والمعارضة سيان تفرضان نوعاً من وصاية على المجتمع، وتمتلكان سلطة لا تستمد شرعيتها تماماً من الشعب ذاته، ولا من المؤسسات التمثيلية المنبثقة عنه. عموماً ينبغي عدم المبالغة باعتبار الاقتتال الجانبي نوعاً من الحرب الأهلية. فالاقتتال يبقى منحصراً بين مجموعات مسلحة، ويتبع غايات سلطوية ضيقة، ولو تغلفت بشعارات براقة، في حين تجري الحرب الأهلية بين كتل مجتمعية، لدى كل منها قيم وأهداف متمايزة، وهذا غير موجود في الحال الفلسطينية، التي يبدو فيها الشعب متوحداً ازاء أهدافه الوطنية، على رغم نزاعات فصائله! وعلى رغم هذه الحقيقة فإن الاقتتال الداخلي مدمر للحركة الوطنية الفلسطينية. * كاتب فلسطيني.