يبدو ان تصاريف القدر شاءت ان يكابد الشعب الفلسطيني، للمرة ثانية، المآل التراجيدي لحركته الوطنية. المرة الاولى كانت ابان مقاومته للانتداب البريطاني والمشروع الاستيطاني الصهيوني لفلسطين 1918 1948. في تلك المرحلة عاني الفلسطينيون من التصارع المزمن على الزعامة بين وجهاء العائلتين الحسينية والنشاشيبية، وظلت الحركة الوطنية اسيرة هذا التجاذب برغم مخاطر تآكل الوطن الفلسطيني امام انظار الجميع. آنذاك لم تستطع النخب المتنورة او المتمدنة الخروج على هذا الاستقطاب وولوج طريق ثالث، اساساً بسبب تخلف البنى الاجتماعية والثقافية للشعب الفلسطيني، والتي عكست نفسها على خطاباته واطاراته ووسائل كفاحه في المجال السياسي، من دون ان نغفل ثقل موازين القوى التي كانوا يواجهونها والمتمثلة بدولة الانتداب بريطانيا والحركة الصهيونية، بكل ما يعنيه ذلك من قوى وشبكة تحالفات وعلاقات. في تلك الفترة كانت الحركة الصهيونية كحركة عالمية تحاول استقطاب يهود العالم في شتى بقاع الارض، وتسعى الى عقد تحالفات مع الدول الكبرى، وتقيم مؤسساتها السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية في فلسطين، تحت انظار الجميع. في حين ان الشعب الفلسطيني لم يكن قد خرج بعد من اسار البنى الحزبية المرتكزة على العصبيات العائلية والمناطقية. اما الزعامة التي ارتكز اليها المرحوم الحاج امين الحسيني فكانت تستند الى ارثه العائلي ومكانته الدينية ومواقفه الوطنية، وهو بدوره اختزل القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني بشخصه، كما ادار شؤون الحركة الوطنية ومجمل تعقيدات الصراع السياسي مع البريطانيين ومع الحركة الصهيونية بطريقته الفردية والمزاجية. لذلك عندما اندلعت الثورة الفلسطينية الكبرى في 1936 1939، لم تستطع القيادة التقليدية التحكم بها، كما لم تستطع النأي بنفسها عنها. وهذا الوضع انعكس على شكل فوضى سياسية عارمة إن في التوجهات السياسية ضد بريطانيا والمستوطنين الصهاينة وما يسمى أعوان بريطانيا في آن واحد، او في اشكال النضال حيث استخدمت مجموعات المقاومة المتفرقة كل امكانياتها واعلى ما في طاقاتها، في مواجهة مع القوات البريطانية، غير مدروسة وغير محسوبة العواقب. وفي حينه لم تكن الساحة الوطنية في احسن احوالها بسبب الاجراءات القاسية التي استخدمتها حكومة بريطانيا لقمع الفلسطينيين، وبسبب غياب القيادة الحاج امين حوصر ثم خرج من فلسطين، كما بسبب الخلافات في الساحة الوطنية، والتي شملت عمليات الاغتيال الجسدي، كما شملت الاغتيال المعنوي، عبر اثارة شبهة التخوين بمعارضي الزعامة الحسينية. المهم ان غياب استراتيجية سياسية وكفاحية عقلانية، وغياب القيادة الوطنية الناضجة، وضعف تقاليد العمل الجماعي الديموقراطي، ساهم في اضاعة فلسطين. اذ ان الشعب الفلسطيني، عندما ازفت ساعة الحقىقة عام 1948، كان جد منهك ومستنزف من الجوانب الاقتصادية، وكان مشتتاً من الناحية السياسية، بسبب خلافات زعمائه. وفي تلك اللحظة الحاسمة وجد الشعب الفلسطيني نفسه من دون النشطاء والقيادة، فهي اما في الخارج او محاصرة في الداخل. اما القياديين الميدانيين، فقد جرت تصفيتهم او اعتقالهم او إبعادهم. لذلك فإن هذه الحركة الوطنية ليس فقط لم تستطع تنظيم الدفاع عن فلسطين او تنظيم التراجع الفلسطيني كي لا يحصل بالشكل الكارثي الذي تم عليه، لكنها ايضاً لم تستطع حتى اقامة كيان فلسطيني في الاراضي الفلسطينية التي لم تقع تحت سيطرة اسرائيل، أي الضفة والقطاع، ولم تستطع الحفاظ على استمراريتها، اذ غابت تلك الحركة بشكل تراجيدي، بقيادييها وإطاراتها، كأنها جزء من خرائب النكبة! الآن، وللمرة الثانية، يعيش الشعب الفلسطيني هذه التراجيديا التاريخية. وكل الوقائع تشير بأن مآل الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، بسبب الطريقة التي رُكبت فيها والآليات التي تحكم عملها، قد لا يقل من مأسوية عن مآل سابقة. فالرئيس المحاصر مصر على اختزال كل شيء بشخصه، فهو الرمز والوطن والشعب والقضية، وهو رئيس السلطة ومنظمة التحرير وزعيم فتح، وهو زعيم الشعب الفلسطيني والقائد العام للقوات المسلحة والقيّم على اموال الشعب الفلسطيني، وهو قائد الانتفاضة ومسؤول المفاوضة! ولا شك ان الظروف الصعبة التي يعيشها عرفات في حصاره انعكست سلبا على احوال الفلسطينيين ومؤسساتهم، وكان الأولى به ان يقوم بادخال تعديلات جوهرية على طبيعة النظام الفلسطيني، ان لم يكن قبل مرحلة اوسلو، فعلى الاقل بعدها. وباتت هذه التعديلات جد ضرورية في مرحلة الانتفاضة، ثم باتت حاسمة بعد صعود حزب ليكود الى السلطة وحلول بوش مكان كلينتون في البيت الابيض وبعد 11 ايلول، سبتمبر. لكن عرفات استمرأ العيش بطريقته وبعقلية صراعات الحرب الباردة، ووفق معادلات الفهلوة والتجريب. هكذا لم يستطع عرفات برغم ما يتمتع به من حدس سياسي، ان يقرأ هذه المتغيرات وان يعي خطورتها، وان يتمعن في ما يجب عليه القيام به للتقليل من مخاطرها. لذلك حاصر في حصاره الوضع الفلسطيني وأوصله الى ما وصل اليه! خلال الانتفاضة، مثلا، وبرغم تمترس عرفات في خط التسوية، الا انه ظل يرسل اشارات متضاربة حول هذا الموضوع لمراعاة مزاج الشارع. وعلى رغم ادانته للعمليات التفجيرية الاستشهادية، فهو لم يتجه لحسم هذه القضية. وفي النهاية فلتت الاوضاع بسبب شراسة الهجمة الاسرائيلية، وبسبب العزلة الدولية. لكن ما يجب ادراكه هنا ان الفوضى كان اساسها فلسطينياً، بسبب تخلف البنئ السياسية وتكلسها، وبسبب غياب الديموقراطية في الثقافة وفي العلاقات السياسية، وبسبب استئثار عرفات بكل شاردة وواردة في ادارة الوضع الفلسطيني. وليس صحيحاً ان الصراع اليوم هو بين الوطنيين وغيرهم، برغم ما لهذا الموضوع من مداخلات، لأن الذين يوصمون بشبهة اللاوطنية هم من المقربين لعرفات: فهو عيّنهم ورفّعهم. كذلك ليس صحيحاً ان الصراع هو بين الشرفاء والفاسدين، لأن الفاسدين والمفسدين ترعرعوا في البيئة وفي الآليات التي اوجدها عرفات ذاته، وهو الذي جاء بهم ايضاً. كذلك ليس صحيحاً ان الصراع هو بين جماعة الداخل وجماعة الخارج، او بين جيل الشباب والحرس القديم او بين جماعة الانتفاضة وجماعة المفاوضة. فما يجري هو خليط من كل ذلك، وهو الفوضى بعينها، وهو تعبير عن غياب السياسة، وهو التعبير عن الهلامية التي تعيش بها الساحة الفلسطينية منذ السبعينات، ومنذ "جمهورية الفاكهاني". ولعل مشكلة الحركة الوطنية، أو الثورة الفلسطينية الأساسية، كما يحلو للبعض، أنها لم تأت بأي تغيير ثوري في بنية الشعب الفلسطيني أو علاقاته أو مفاهيمه. فهذه "الثورة" كرست البنى العائلية والعشائرية والمناطقية، وعززت علاقات المحسوبية والزبائنية ل"الأبوات" والمتنفذين من قادة الأجهزة، على حساب الانتماء الوطني والسياسي. وكرست السياسة باعتبارها حقلاً لتجاذب الشعارات والعواطف، وليست باعتبارها تتأسس على موازين القوى والمعطيات السياسية المحلية والاقليمية والدولية. وهذه "الثورة" بدلاً من أن تعتمد على الشعب، جعلته يعتمد عليها وفق صيغ "التفرغ"، ما خلق مجتمعاً فصائلياً على هامش المجتمع الفلسطيني في الداخل كما في الخارج. هكذا تضخمت الأجهزة على حساب التنظيم، وبات العسكر وأصحاب المال والنفوذ، في نظام من الفساد والمحسوبية، هم الذين يقرورون في السياسة وفي الإدارة، ما أوصل الأمور إلى الدرك الذي وصلت إليه. وعلى رغم ما يتحمله الرئيس عرفات من مسؤولية عما آلت إليه الأمور، بسبب طريقته في العمل والقيادة وانتقاء المحسوبين، فإن الآخرين يتحملون مسؤولية، كل بالقدر الذي يدعيه لنفسه. ف"الأبوات" في "فتح"، كما في كل الفصائل، ما زالوا يتربعون على عروشهم منذ انطلاقة الثورة. وكل واحد منهم يدعي الإصلاح أو يطالب بالتغيير، لا ينطلق في ذلك من إطاره أو تنظيمه، وإنما يقصد بذلك غيره أو هو يرغب بزيادة أسهمه أو اعلاء شأنه في النظام الفلسطيني. وبالنظر إلى كل المنعطفات والأزمات والتراجعات والهزائم التي عاشتها الحركة الوطنية الفلسطينية، من الغريب فعلاً أن هذه الساحة لم تشهد أحداً يُحاسب على أي قضية سياسية أو مسلكية! على ذلك، فإن الحركة الوطنية الفلسطيني، في ما يجري في الداخل، تدخل مرحلة الانهيار. والمطلوب: تنظيم هذا الانهيار وتقليل خسائره، وفاء لدماء الشهداء وكفاح المناضلين... على الأقل.