لا شك في أن حياة محمود درويش وشعره يستحقان عدداً من الأفلام، لكن الفضائية السورية استطاعت أن تحقق سبقاً بفيلم وثائقي عن الشاعر بعد رحيله بمناسبة ذكراه الأربعين. والأهم من السبق أن الفيلم الذي كتب السيناريو له الشاعر علي سفر وأخرجه أحمد حيدر لا يعاني من عيوب الأعمال التي تطبخ على عجل. يستعرض الفيلم بشاعرية وبإسهاب غير ممل، حياة محمود درويش من الطفولة إلى الرحيل، إذ تتنقل الكاميرا بسلاسة بين المواد الوثائقية من فوتوغرافية ولقطات فيديو من أمسيات ومناسبات وأفلام، مع التعليق المصاحب، قبل أن يتوقف عند المرحلة الأخيرة من شعره برؤية نقدية تضيء جماليات القصيدة الدرويشية، أو ما صارت إليه هذه القصيدة عند شاعر هو استثناء بين الشعراء، من حيث إخلاصه للشعر وعدم الاعتماد على نجوميته أو إلى عدالة القضية التي يمثلها. اتخذ الفيلم من مقاربة لعنوان قصيدة"سأصير يوماً ما أريد"عنواناً له، وهو اختيار موفق"فدرويش هو صنيعة درويش، أبدع نفسه بنفسه، وحرص دائماً على التجاوز، واضعاً حياته كلها في خدمة الشعر. كل شيء في حياة درويش، باستثناء القصيدة، محسوب بمقدار. السياسة - التي لم يغفلها الفيلم - سيطر عليها درويش، ولم يجعلها تجرفه أو تحول بصره عن الشعر. كان درويش أول اثنين بوسعهما أن يكونا ما يريدان في الثورة الفلسطينية، وأن يشعرا بالرضا للمنصب الكبير. هو البداية، وإدوارد سعيد لاحقاً"في مرحلة أوسلو التي توقف عندها الجانب السياسي بالفيلم. كلاهما، على اختلاف السيرتين استطاع في تماسه مع السياسة، أن يحافظ على المسافة التي لا تحرق فراشات إبداعه أو تقصقص أجنحة الحرية في تفكيره. استعرض الفيلم أيضاً عطاء محمود درويش الصحافي، وهذه نقطة تحتاج إلى فيلم كامل، خصوصاً تجربته في"الكرمل"التي استطاع أن يجعل منها منبراً عربياً أخذ بأيدي الكثير من المبدعين، وكان النشر فيها جواز مرور أدبي لا يرقى إليه شك. الحياة ذاتها، وضعها درويش في خدمة القصيدة، فلم ينجب إلا الشعر، ولم يكن إلا ما أراد أن يكون. وهذا ما يقوله الفيلم من خلال تناغم عناصره التي توازت فيها شاعرية الكاميرا وانتقالاتها الناعمة مع شاعرية النص، لينتهي الفيلم بتراجيديا الرحيل. لكن من ترك كل هذا الجمال، حتماً لم يمت، وستبقى سيرته مجالاً لتنافس فني، كانت مقدمته هذا الفيلم، الذي جاء كتحية ليست عابرة لدرويش الشاعر.