جزء ثان واخير من تقديم الناقد منير العكش الشاعر محمود درويش الى القراء الأميركيين، عبر المختارات الشعرية الصادرة عن جامعة سيراكوس في نيويورك تحت عنوان The Adam of Two Edens. ولعل المقدمة الطويلة التي وضعها العكش للمختارات الشعرية هي اشبه بالمدخل النقدي الى عالم الشاعر الفلسطيني ولغته. وهنا مقاطع من التقديم نقلتها الى العربية كنده العكش. لا شك في أن استعادة المعالم الأثرية - الشعرية التي تسكن الذاكرة الفلسطينية صار مستحيلاً. فقد ضاع الكثير، ودمر الكثير، وإن الكثير مما نجا من آلة الدمار الإسرائيلية، ومن ذلك شعر درويش نفسه، ما يزال يتعرض للدمار. إن شعر درويش الجديد ليس مجرد دفاع عن النفس أو مجرد دفاع عن الذاكرة الشخصية، وإنما هو أيضاً "سفر تكوين فلسطيني" هو أشبه بالتحدي الشعري لمحاولات المحو المتعمد للذاكرة الفلسطينية. هكذا نجد في هذه القصائد ثروة هائلة من العاديات الإنسانية الحميمية المكنوزة تحت سطح الكلمات. إننا نعثر هنا وهناك على معالم الحياة الماضية، كما نعثر وراء منعطف هذه الجملة وبين ثنايا تلك الكلمة على شعاع من الأمل والتوقع. في خضم هذه الحرب الشعواء على الذاكرة الجماعية الفلسطينية، وفي معترك اقتلاع ثقافة إنسانية كاملة لاستبدالها بثقافة غيرها تتخذ "المقاومة" معنى وجودياً، ويصبح من الضروري أن يتسع معناها بحيث لا تقتصر على مجرد مقاومة الاحتلال. إن مهرجان الحزن الدرويشي ينبهنا هنا إلى بذار الدمار التي ينثرها الوقت، وإلى فقدان أي أمل أو ضمانة للبقاء الفلسطيني. مثل هذا الاستحضار الحي للعوالم المفقودة التي كانت تنداح في عروق الحكايا والمرويات التاريخية والقصص الشعبية أو تلك التي تحدثت عنها بعض الملاحم والأساطير لم يكن ممكنا لولا تقنية شديدة التعقيد أفادت كثيراً من مطبات الشعراء التموزيين. ومعروف أن الشعراء التموزيين ملأوا قصائدهم بكل ما وقع تحت أيديهم أوحوت مكتبتهم من أسماء أسطورية وأنصاف آلهة وأبطال ملحميين. ففي حمى تلك النزعة ذات الدوافع السياسية تخلى بعض شعراء تلك المرحلة عن أسمائهم العربية، وأطلقوا على أنفسهم أسماء أسطورية. هذه الاستعارات الفجة للكليشيهات والأسماء الأسطورية أصمت قصائدهم وجعل بعدها الأسطوري كأنه لزوم ما لايلزم، فهو عبء على القصيدة، لا يقول ولا يضيف. لقد أقامت قصائدهم جداراً بينهم وبين قرائهم حين اضطرت قراءهم إلى الاستعانة بمعجم أساطير الشعوب. وعلى نقيض ذلك فإن درويش لم يستخدم الأسطورة كحلية أو كعرض عضلات ثقافية، بل استخدم البعد الأسطوري كحقل من الحياة الحافلة باحتمالات الخلق اللانهائية. الأسطورة عند درويش تسكن روح القصيدة. وباستثناء تجربة "عبقر" الفريدة فإن قصيدة درويش فيما أعلم أول قصيدة عربية تتعامل مع الأسطورة بالروح التي صنعت تلك الأسطورة، وتنظر إليها باعتبارها فضاء متخيلاً لكثير من تجاربنا الانسانية العميقة. إن الإحساس بأننا نشارك فعلاً في رسم الصور التي تتوهج في مخيلة صانع الأسطورة هو ما ينفخ الحياة في قصيدة درويش. ولا شك في أن سحرها يدعونا دائماً إلى قراءتها من جديد. ولأنها تناور على توقعاتنا فإنها لا تكف عن دعوتنا إلى اكتشاف عوالمها الخبيئة. ولكن، لكي نكتشف الكنوز الرؤياوية لتلك العوالم الخبيئة فإن علينا أن نفلت من المحدود والمغلق ونتمرد على الإرادة المعجمية. إننا نستطيع أن نقرأ قصيدة "أطوار أنات" أو "هيلين، ياله من مطر" باعتبارهما قصيدتي حب عاديين. لكن الحب وحده لا يفسر إلا المستوى السطحي من معاني هاتين القصيدتين. إن درويش، ومنذ السطر الأول من "أطوار أنات" يهدينا مفتاح ذلك العالم الخيالي، أو يكشف لنا عما يسميه مرسيا إلياد بأقنعة الأساطير: "الشعر سلمنا إلى قمر" ... في منتصف الثمانينات، وفي مهجره بباريس بدأ درويش يرسم معالم جديدة للشاعرية العربية، فقدّم بدائل حقيقية وجريئة للأرثودكسية السائدة. كان بذلك ينتقل بمفهوم القصيدة العربية وراء حدوده المرسومة وأرضه التقليدية. في باريس استكمل درويش عناصر هذه الطفرة فكتب إحدى أكبر تحديات القصيدة العربية: مأساة النرجس، ملهاة الفضة. هذه القفزة بالشعر العربي خارج فضائه وتقليده هي صورة حديثة ومفاجئة لتقليد سابق على أرثودكسية الشعر العربي التي صار عمرها الآن حوالى ألفي سنة. تقليد يكتسب فيه الشعر أبعاد الملحمة وأبعاد النص المقدس وأبعاد التاريخي، كما هو الحال في جلجامش وإنانا وبوبل ه والإلياذة وشيء من إرميا. طبعاً، لم يكن ممكناً لقصيدة درويش أن تترك بصماتها على أجيال من الشعراء الجدد وبعض النجوم أيضاً لولا تقنيته المعقدة وغير المسبوقة، ولولا استيعابه لتيارات الشعر والكتابة الإبداعية سواء في تراثه العربي وتراث الحضارات الإنسانية أو في شعر الحركة السوريالية وتيارات الشعر الأوروبي والأميركي الحديث. إن الإحساس السيمفوني بالإيقاع في قصيدته لا يمكن العثور على ما يضاهيه في الشعر الأميركي الحديث. وقد ساعدته قراءاته بالانكليزية والفرنسية والعبرية على استيعاب الكثير من شعر هذه اللغات وما ترجم إليها. إنك تلمس هذا الكنوز تحت موج لغته الغنية بالإشارات والتلميحات، أو في إشاراته اللماحة إلى ييتس أو لوركا أو سان جون بيرس أو غيرهم. ثم إنه بحكم إشرافه على مجلة "الكرمل" الأدبية، محرراً ومؤسساً، فإنه في اطلاع واتصال مباشر ومستمر على ما يستجد من اتجاهات وحركات أدبية وثقافية في العالم. وبالتأكيد فإن اكتشاف درويش لتراث الهنود الحمر ساعده على بعث ذاكرة المكان الفلسطيني وعوالمها المفقودة، كما أعانه على إعادة تركيب الزمان الفلسطيني المتكسر. لقد أضاءت هذه "النظرة الهندية الحمراء" مساحات كبيرة من مشاهد طفولته، وكشفت عن التناغم البريء بينها وبين بواكير وعيه. إننا اليوم ولسوء الحظ لانستطيع أن نتعرف على الطبيعة الفلسطينية التي وصفها الغزاة الرعويون قبل ألفي سنة بأنها أرض السمن والعسل. فالطبيعة الفلسطينية اليوم عليلة وتعاني رعونة وجشع وإهمال وسوء تدبير الغزاة الجدد. لهذا فإن التعرف على تلك العلاقة النادرة بين الهندي الأحمر وبين "أمه الأرض" مكنت خيال المنفي لدى شاعرنا من إعادة الروحانية إلى الطبيعة الفلسطينية، كما مكنته من إعادة توطين الوعي الفلسطيني في طبيعة وطنه الساحرة وأمه الأرض. تحت خيمة الروح الهندية الحمراء صارت مشاهد الطبيعة أوراداً مقدسة وصلوات، وصارت تجسد حنين الروح الفلسطينية إلى الاتحاد بينابيعها. لقد وجد درويش نفسه في أسطورة الزعيم الهندي الأحمر سياتل، واكتشف شعبه في "شعب الغزال". لقد توأمَ غزةالفلسطينيةبغزة الهندية: شانون كاونتي، وتوأمَ دير ياسين بأختها الهندية "ووندد ني الركبة الجريحة"، وتوأمَ نزوح النكبة مع مثيله الهندي نزوح الدمع Trail of tears، وتوأم المخيمات الفلسطينية مع المخيمات الهندية المعروفة باسم reservations: جريمتان مقدستان - مذبح واحد، ومأساتان - حزن واحد: ... وكنا هنا/ نعمّر أكثر، لولا بنادق إنكلترا والنبيذ الفرنسي والانفلونزا/ وكنا نعيش كما ينبغي أن نعيش برفقة شعب الغزال/ ونحفظ تاريخنا الشفهي، وكنا نبشركم بالبراءة والأقحوان/ لكم ربكم ولنا ربنا، ولكم أمسكم ولنا أمسنا، والزمان/ هو النهرحين نحدق في النهر يغرورق الوقت فينا/ ألا تحفظون قليلاً من الشعر كي توقفوا المذبحة؟/ ألم تولدوا من نساء؟ ألم ترضعوا مثلنا ومن خلال الملحمة الهندية بتألقها واحباطاتها اكتشف درويش أن هناك كثيراً من التشابه المر بين ما تعرض له الشعبان، وأن عقيدة "القدر المتجلي" وصلت إلى "إسرائيل الله الجديدة" وأن "نيو انغلاند" ضمت إليها مستعمرتها الرابعة عشرة : فلسطين. وعلى غرار ذلك المصير الحزين للهنود الأميركيين فإن بقاء الفلسطينيين نفسه دخل حيز "اللايقين uncertainty". وجهاً لوجه مع التصفية العرقية يتألق هذا اللايقين الوجودي في قصيدة درويش. فبعد الاستنساخ الناجح لمكتب الشؤون الهندية في غزة اضطر درويش إلى إعادة النظر في جوهر مفهوم المقاومة ومفهوم شعر المقاومة: ... أيها اليأس كن رحمة. أيها الموت كن/ نعمة للغريب الذي يبصر الغيب أوضح من/ واقع لم يعد واقعاً... كان الواقع على الأرض أشد مأسوية من أجمح كوابيس موريس بلانشو أو إرنستو ساباتو. كيف يمكن لدرويش أن لا يكون مثل بول سيلان، يكتب ويفكر عن فاجعة تتحدى اللغة والكلام، تقهر الصمت، تحرق الكتب، وتمزق المعنى؟ كيف أكتب فوق السحاب وصية أهلي؟ وأهلي / يتركون الزمان كما يتركون معاطفهم في البيوت، وأهلي/ كلما شيّدوا قلعة هدموها لكي يرفعوا فوقها/ خيمة للحنين إلى أو النخل/ أهلي يخونون أهلي/ في حروب الدفاع عن الملح محاصراً بالكوارث، ومهدداً بها لم يجد خيال درويش بدا من اقتحام العالم الرؤياوي والنبوي. فلقد اتضح له أن بقاء "أهل البلاد" غير مضمون لأنهم بكل بساطة يتعرضون لحرب إبادة جماعية. إن ما يريد درويش أن يقوله ليس "لتذهب فلسطين إلى الجحيم" بل إنه يريد أن يقول: إن المسيح الذي انتظرناه طويلاً لم يكن إلا ملك الموت: "للحقيقة وجهان، والثلج أسود فوق مدينتنا/ لم نعد قادرين على اليأس أكثر مما يئسنا،/ والنهاية تمشي إلى السور واثقة من خطاها/ من سينزل أعلامنا: نحن أم هم؟ ومن/ سوف يتلو علينا "معاهدة الصلح" يا ملك الاحتضار". إن الظهور التدريجي ل"الاستعمار الذاتي" بين أهله وشعبه وضع ذلك الخيال الرؤياوي للشاعر على حافة الهاوية. كأنه يريد أن يوقظ الوعي بخطر الإبادة وينفخ الحياة في غريزة البقاء. إنها هي الصرخة الوجودية اليائسة التي أطلقها الزعيم الهندي الأسطوري سياتل: "لقد انتهت الحياة ولم يبق لنا إلا الدفاع عن غريزة البقاء". إن رَسل مينس وهو أحد أبرز زعماء الحركة الهندية المعاصرة يقدم تفسيراً رائعاً لهذه النهايات الحاسمة في تاريخ الشعوب حين يقول: "إن المهمة الأولى لكل كائن حي هي البقاء. وإن من أهم لوازم بقائنا هي المقاومة. إننا لا نقاوم لنطيح بالحكومة أو لنبسط نفوذنا على مؤسسات البيض، وإنما لأننا نمارس أبسط حقائق الطبيعة: حقنا في البقاء. هذه هي الثورة كما نفهمها". وكما هي الحال مع الهنود الأميركيين فإن ظهور "الإستعمار الذاتي" أدى إلى إعادة صياغة لمعظم مسلمات الشاعر. لقد انتهت كل الأشياء إلى "اللايقين"، ذاكرة المكان لم تعد يقينية، / بقاء المكان نفسه لم يقد يقينيا، / حتى معنى المكان لم يعد يقينيا!/ لماذا سقط الشهداء؟ / صمت! في آخر أيام منظمة التحرير في تونس، وقبيل الانتقال إلى غزة عاش درويش ذروة هذا اللايقين. وكانت المخرجة السينمائية سيمون بيتون في فيلمها الوثائقي عن محمود درويش قد ضمنت الفيلم مشهداً مثيراً للشاعر وهو يتحشرج بالدمع ويمسحه أمام الجمهور وكاميرات التصوير. كان درويش يسأل عن مصير الشهداء ويوصي تونس بهم خيراً! في تلك اللحظة القاتلة من اللايقين كان الوقت ينهار أمام عيني درويش ويخترق غربة مضاعفة يحف بها الظلام والانهيارات، وكان الشاعر يكتشف الحقيقة المرة وهي أنه ربما كان يذرف الدمع على آخر الشهداء: المقاومة، ربة قمره، أنات التي أحبها ونذر لها حياته وموهبته. إن الشاعر لم يعد يعرف ما إذا كان شعره نفسه سيعيش بعد هذا التفسخ الشرس الذي يحمله السلام القرطاجني. هذا سلام لم يعرف كماله عندما محا جنود الرومان مدينة قرطاجنة عن وجه الأرض بل عندما بدأ الناجون من أبناء قرطاجنة يستخدمون لغة الرومان لوصف ما حصل في قرطاجنة. ولم يكتمل السلام الطروادي عندما محا الإغريق طروادة من على وجه الأرض بل عندما صار الطرواديون يستمتعون بقراءة هومير. هذا السلام القرطاجني لم يدم إلا لأن إبادة "وعي المقاومة" كانت أدمى وأوحش من إبادة البشر. هذا الإصرار على تناسي الماضي ومحوه من الذاكرة واجهه درويش بلغته اللاذعة "لقد استيقظ الفلسطينيون صباح أوسلو ليكتشفوا أنهم ليس لهم ماض"، أي إن عليهم أن يعيشوا بالقوة في حال اصطناعية من "فقدان الذاكرة". والحقيقة المؤلمة أن درويش يعرف أنه هو نفسه جزء من ذلك الماضي المطلوب نسيانه. لقد ماتت المقاومة، فليذهب شعر المقاومة إلى صقيع النسيان! ما الذي سيبقى في الذاكرة بعذ هذا المحو الإبادي للماضي؟ من سيعيش في ذاكرة الأجيال الفلسطينية المقبلة: الفلسطيني درويش، أم الاسرائيلي عميخاي؟ إنه اللايقين! أما ما هو يقيني، بالنسبة لي على الأقل، فهو أن محمود درويش ظل على مدى أربعة عقود يملأ سمع العالم بدوي الروح الفلسطينية، فلسطين الإستعادة والاستعارة. ولعل هذا من أهم الأسباب التي ستجعل درويش أكثر شعراء العرب المعاصرين حظاً في البقاء في الذاكرة العربية والإنسانية، والتي تشجعني على القول بأنه سيحتل مرتبة استثنائية في كل تقويم لشعر هذا الزمن المخضرم بين الألفين الثاني والثالث. لقد ترجمت أعماله إلى كثير من اللغات ونال عدداً كبيراً من الجوائز الأدبية الدولية. وفي تقديري المتواضع، إن هذا الشاعر الذي مجد الألم الإنساني، ألم كل إنسان على وجه الأرض، لا بد من تكريمه على مستوى إنساني شامل، فهو أحق الشعراء العرب المعاصرين بجائزة مثل جائزة نوبل. إن أعماله المتألقة بالرؤيا والصاخبة بروح الحرية والبحث عن الحقيقة قد تركت بصماتها الواضحة على نسيج زماننا.