قبل مغادرتي الرياض متوجهاً إلى موريتانيا، كان أهم المحاور التي أثارت فضولي، "كعبة أفريقيا" التي ذاع صيتها إسلامياً وعربياً، وتردد صداها أينما حل مواطن موريتاني في أرجاء المعمورة أو أقام. أعني"شنقيط"التي خلعت حلتها على منطقة بأسرها، وألبست تاجها كل الموريتانيين، نسبة إليها أو انتماء. حتى غدت وسماً يفاخر به أحفاد"حمير"في تلك الناحية إخوتهم العرب في البلدان، وخاتم تميز ما يكاد يذكر حتى تحضر معه تلقائياً أمهات متون الفقه والشعر والمعارف. بل إنك إذا ظفرت بلقب"شنقيطي"، تغدو في ذهنية"العربي"العادي، مرجعاً لغوياً في الحد الأدنى، وإن كنتَ في حقيقة أمرك"ما تعرف شي قاع"أي جاهل بحسب تعبير الشناقطة. ولشدة جهلي ببلد المليون شاعر قبل رحلتي هذه، ظننت أن"الشنقيطي"التي نجدها"علامة جودة"في نهاية اسم معظم الموريتانيين، اسم قبيلة عريقة في تلك الصحراء تماثل في كثرة عددها قبائل في الجزيرة العربية، مثل قحطان وشمر وحرب وعتيبة، فإذا"شنقيط"قصة أخرى، ذهبت"الحياة"لترويها، ليس من وحي الأساطير ولا من"مختصر خليل"أو معلقة امرئ القيس، التي قيل إن الإماء يحفظنها فضلاً عن الغلمان والنبلاء هنالك، ولكن على أطلال المدينة نفسها التي سارت بعظمتها الركبان. زميلي الذي رافقني في موريتانيا عبدالله ولد بيه ردّ بضحكة ممزوجة بسخرية على سؤالي:"كم تبعد شنقيط عن نواكشوط"؟ بعد لحظات من الوصول إلى العاصمة، في ساعة متأخرة من الليل! وقال:"وش تبغ بشنقيط؟ مدينة بعيدة، والحر شديد، والطريق إليها وعر"! لم أتردد في تفسير محاولة عبدالله صرف نظري عن شنقيط بشفقته عليَّ، هو الذي أوصاه بي ابن عمه سفير بلاده في السعودية محمد محمود ولد بيه كثيراً، لكنني ظللت مصرّاً، مع ما انتابني من خوف جراء علامات الاستفهام التي لفت إليها عبدالله انتباهي، قبل أن تزيدني حسناء وزارة الثقافة والإعلام زينب بنت أعلي سالم علامات استفهام أشد، وهي تحرر طلبي الرحلة تحت مسؤوليتي، إلى جانب تعهد تكرّمتْ بأن يبقى شفوياً بأن أظل مؤدباً ومهذباً! ولكنها في نهاية المطاف تعهدت هي الأخرى أن تقرأ"الحجب"على إثري حتى أعود إلى نواكشوط سالماً! المفاجآت لم تبدأ حتى تنتهي، فعندما اتفقت مع زينب على أن"الرحلة لا بد منها ولا ريب"، وجهتني إلى مصلحة"المدن القديمة"، التي كان بالمصادفة مديرها محمد محمود ولد محمد الأمين، درس في جامعة الملك سعود، وتحدث إليَّ كما لو أنه من أبناء الرياض مشاعر ولهجة، غير أنه انضم إلى المخذّلين عن الرحلة إلى"شنقيط"شفقة ورحمة! عندها لا بدأت عزيمتي تتراجع، فالرجل مهمته تنمية"المدن القديمة"، ومن بينها"شنقيط"، وتنظيم رحلات للسياح المغامرين إليها. مع ذلك ما إن أخبرته بأن تلك المدينة سبب ولوجي مكتبه حتى تغير وجهه، فسألته عن سر التخوف:"هل سأكون مهدداً بالقتل، أو أنني عرضة للاختطاف مثلاً"؟ ضحك بسخرية، ذكرتني برد فعل والدي عندما أسأله عن أمر يظنه أكبر من حجمي في الصغر، وقال:"إنك يا أخي لم تتعود على الصحراء، ولم تدر أنها مقبرة تضم مئات ما قضوا قتلاً بالرصاص ولا رمياً بالسهام. كل زوار المدينة من السياح والصحافيين كانوا يذهبون في الربيع والشتاء، أما في شدة الصيف فتلك مغامرة لا أنصحك بها"! سكت الصحافي الخائف دقائق، ثم أردف:"طالما ليس في المسألة خوف من آدمي، ومحاكم تفتيش وبوليس، توكلنا على الله". علق الأمين بإحباط شديد:"أنت وذاك. لك علينا سيارة عابرة للصحراء مجهزة، ومرشد سياحي، وسائق ماهر، وأنت مسؤول عما عدا ذلك! ولكني أنصحك بألا تذهب، وبعد أن تتأمل اتصل بي، لتكون السيارة في انتظارك غداً". هكذا أعطاني حارس المدن فرصة التفكير الأخيرة، لكن الخذلان الأكبر جاء من رفيقي، الذي قرر أن يتخلف عني في اللحظات الأخيرة:"أنت لا تهمك نفسك، أنا في حاجة إلى صحتي. اذهب وحدك"! لولا أن المرشد والسائق والسيارة عند بوابة الفندق تلك الساعة، لقلت بتعبير أهلنا في السعودية"حيل الله أقوى"، وتنازلت - ربما - عن"طموحي"، ولكن سبق السيف العذل! في صحبة السديس والخليفة! ركبنا السيارة ثلاثتنا محمد المصطفى المرشد والحسن السائق وأنا، وانطلقنا قبل غروب الشمس بساعتين من نواكشوط، متجهين شمالاً، ولم ينس المرشد أن يشتري لي عمامة سوداء، قال:"إنها ضرورية في مثل هذه الرحلات، حتى لا تستنشق كمية كبيرة من الغبار والأتربة التي تذروها السيارة". وما بين كل مسافة ساعة تقريباً، نتوقف إجباراً لنقطة تفتيش، تعجبت من حدة بصر سائقنا الذي أبصرها، فلا كهرباء، ولا"ماكينة"تضيء ظلام ليال لا بدر فيها ولا نجوم. لا شيء عدا فانوس يدوي حاول رجال الشرطة مرات أن يقرأوا به البيان الذي يوضح مهمتنا، إلا أنهم في أكثر الأحيان يفشلون ويضطرون لسؤالنا عن الوجهة والغرض. في كل الطريق لا يكفي أن تبرز هويتك، بل لا بد من أن تسأل: ما الذي أتى بك إلى هنا؟ وأحياناً تسمع عبارات ترحيب وإن أتت متأخرة وبعد استجواب. لكن هذا السلوك المتعجرف أحياناً من العسكر اختلف في العودة، ربما لأننا ذهبنا ليلاً وعدنا نهاراً، والبدوي بطبعه يتذمر من الطارقين بالليل، وهو معذور بوصفه لم يعش في مدن عربية أو أوروبية، لا فرق فيها بين عشية أو ضحاها، ضجيجاً وحياةً. بل إن بساطة العسكر بدت في العودة أوضح عندما التمس أحدهم أن نوصّل قريبته معنا إلى القرية التي أمامنا، فتعجبت من ثقة مفرطة بهذا المستوى، ولكن رفيقي فسر لنا ذلك بأن"الحياة هنا كلها تسير على وجه البساطة والثقة المتبادلة". قبل منتصف الليل بساعة، رق السائق لحالنا، واسترحنا يسيراً في مدينة تدعى تجكجا، فإذا بالمحطة عبارة عن"بسط"على قارعة الطريق، والأطعمة شواء وحليب، يبيع كلاً منها مواطن من المدينة نفسها. ومع أن درجات الحرارة في نواكشوط لا تطاق، إلا أن أجواء مدينة استراحتنا كانت لا بأس بها. مارسنا الطقوس كما هي، فشربنا الحليب أولاً ثم أكلنا الشواء، وبعد ذلك ختم لنا الكرماء بالمسك وهو"الشاي الأخضر"، على الطريقة الموريتانية، ثلاثة أدوار، بين الواحد والذي يليه قرابة نص ساعة. بعد مغادرة الاستراحة، انتشى الحسن قليلاً، وقال مازحاً، الآن انتهى دور السعوديين، فأدار في مذياع السيارة موسيقاه المفضلة للسيد"الخليفة"إن لم أكن واهماً، وهو على أية حال مغن موريتاني شهير، وكان قبل الاستراحة اعتمد صوت إمام الحرم المكي الشيخ عبدالرحمن السديس رفيقاً لرحلتنا، وكان يملأ علينا الأرض المقفرة سكينة وأنساً. وفي تلك الديار لا يخلو مجلس من نغمة جوال واحدة على الأقل بصوت السديس، وخلفية بصورة أسامة بن لادن! على رغم أن الموريتانيين أكثر من رأيت اعتدالاً وبساطة في تدينهم، ولكن مثلما يقول صديقي المرشد أميركا صنعت من الرجل رمزاً. وأذكر أنه في إحدى جولاتنا في سوق المدينة المركزية، وجدنا محل"التسجيلات"يبيع أشرطة الوعظ الدينية والطرب، والديسكو، على رف واحد، فإلى جانب أشرطة الشيخ السديس، والشيخ محمد الحسن ولد ددو، هناك أشرطة المطربة الموريتانية الشهيرة المعلومة بنت الميداح، وسدوم، ومندى دندني، وعبدالحليم حافظ، إلى آخر القائمة المتاحة هنالك! حاول السائق أن يبرر نشوته بنغمات الخليفة، بتفسيره لي بعض مقاطع أغانيه لكنني ظللت غير مستلطف إياه، اللهم إلا على سبيل المجاملة، فرأيي في الموسيقى الموريتانية يوافق رأي زميلي معاوية يس وهو سوداني مغرم بالثفافة الموريتانية، وأخذ على نفسه عهداً أن يحدث تطويراً في موسيقاها! مضى الحسن ومحمد المصطفى على سجيتهما في الطرب، ومارست طقسي المفضل وهو النوم في السيارة، على أنغام الخليفة، وأصوات بهائم البدو، وهبوب الرياح الحارقة، التي لا صوت يعلو فوقها في ذلك الطريق، لولا إشارات رعاة الماشية على طول الطريق المعلنة عن"حليب إبل للبيع". وقبيل الفجر أردف المرشد: نحن الآن دخلنا مدينة"شنقيط"، فإذا بوابة المدينة أمامنا. ولأن فنادق المدينة ? كما يسمونها ? وهي في حقيقتها مجرد أكواخ، لا تعمل إلا فصل الشتاء، الذي يتقاطر السواح من أوروبا على المدينة بالآلاف، فإن الحل الوحيد أمامنا، هو أن نبيت في الشارع، أو نلجأ إلى أحد أهل المدينة ونسأله حقنا في الضيافة! لكن الله أكرمنا بأن صديقنا المرشد من أهل المدينة نفسها، فكانت مفاجأة بالنسبة إلي رائعة، لم أكتشفها إلا حين أوقف السيارة أمام منزله، وقال للسائق ادخلوا، وقدم لنا الفرش، وسط الظلام الدامس. رمينا أجسادنا المنهكة ولم يوقظنا إلا ضوء الشمس، فإذا بي وسط فيلا فاخرة بلا مبالغة، مزينة بأبدع أنواع الزخارف والسيراميك، والطلاء، لكن العسكر حرموا المدينة العريقة من الكهرباء مثل غيرها، فلا تطلق إلا"ساعتين"بعد العشاء فقط، من أجل أن يُمكّن المواطنون من سماع الأخبار عبر التلفزيون، ثم تقطع عنهم، ويبقى الحر بعد ذلك يكوي الشيوخ والأطفال! ما إن طلعت الشمس قيد رمح، حتى هبت سموم الحر العاتية، ولكن الوقت لدينا محدود، فخرجنا والمرشد يعلق:"نحن الآن في شنقيط الجديدة. هنا بيوت حديثة فلتان فقط، أما البقية فهي بيوت من حجر، ويفصل بيننا وبين المدينة القديمة وادٍ، والحياة في المدينة القديمة أكثر هذه الأيام، أما في موسم السياحة الشتاء والربيع فإن المدينة القديمة هي صاحبة الحضور الأقوى". جثث الحضارة والمخطوطات بدأنا الجولة الصباحية بصعود تل من الرمل جنوب المدينتين معاً، فبدت هنالك صورة"شنقيط"كاملة غير منقوصة. وهنالك تسلل إلي الإحباط، وقلت في نفسي:"تسمع بالمعيدي خير من أن تراه". لم أكن أنتظر أن أرى ناطحات سحاب في البلدة التي تحاصرها الرمال من كل الجهات، سوى الغربية، وإنما ظننت أنها في أسوأ الأحوال مدينة تزخر بالسكان والمدارس والكتاتيب، وإن قلّت فيها البنايات الحديثة. لما اقتربنا من المدينة القديمة، انتهى دور"السيارة"، وذهبنا نغوص في الرمال الملتهبة بأرجلنا، وندور في أزقة المدينة، ومبانيها التي تشع جمالاً وأنوثة على رغم قِدمها الذي تهاوى على إثره عالي البنايات. والمرشد يتحدث: هاهنا قبر الولي إبراهيم. هذه دار آل فلان. إلى جوارنا مكتبة آل أحمد. تلك محضرة الشيخ ولد فلان. حتى وصلنا إلى الجامع الكبير العتيق الذي أسس قبل نحو 600 عام، فإذا فراشه الرمل، وسقاؤه قربة أوقفها أحد الأخيار على المصلين. شربنا جرعة من مائها مع العصافير، في تلك الأجواء الحارقة. صعدنا المنارة، وكانت أعلى محل في المدينة القديمة، فإذا بالمدينة من تحتي أشبه ب"جثث موتى". يثير منظرها القشعريرة ويهيج على البكاء. أسقف تتساقط. جدران تتهاوى، وحجارة متناثرة، وبنايات في رمقها الأخير. نساء حافيات يتنقلن في سرعة مذهلة من هول الحر. أطفال يسيرون بقطع خزف وأواني حديد، بها قليل من طعام. فتيات في عمر الزهور يبحثن عمن ينظر إلى بضاعتهن المزجاة بعين الرغبة أو العطف سواء. جبال من الرمال المتسارعة بكل قوتها تزحف نحو المدينة. طمراً وإهلاكاً وتشويها. فوق المنارة ترمق واحات النخيل، وهي تئن تحت وطأة الرمال، فالنخيل التي كانت بالأمس شماء، لا تبصر اليوم عدا رؤوس أغصانها، وقد أعلنت كثبان الرمل وفاتها. وتركت مصير أهلها للهجرة والضياع والحرمان. سألت صديقي: أين المخطوطات؟ أين المحاضر الكتاتيب أين"شنقيط"التي ملأت دنيانا في المشرق علماً وجلالاً، ورونقاً وبهاء؟ بكلمة واحدة أجاب: ماتت! ثم استدرك:"قد نتفاءل وأقول هي في الرمق الأخير". ماذا بقي من"شنقيط"؟ انتقلنا إلى المكتبات التي تتسابق أسر المدينة في اقتنائها، ليس فيما يبدو من أجل الحفاظ على مخطوطاتها ونفائسها، وإنما بغية المدخول المادي الذي باتت وسائل تحصيله محدودة في مدينة عتيقة أشبه ما تكون بالسجن هذا اليوم للمعتصمين بها، إذا ما قورنت بمدن في البلاد أقل شأناً من الناحية التاريخية والثقافية. لكن المهم أن خصلة"السباق"والتنافس في عدد المخطوطات، وفتح أبواب المكتبات أمام السياح لا يزال سلوكاً شائعاً في مدينة شنقيط، إذ يوجد في المدينة نحو 20 مكتبة، تتفاوت في عدد مقتنياتها، فهناك مكتبة مولاي ولد أحمد الشريف التي تضم حوالى 1300 مخطوط نادر، يعود تاريخها إلى حقب متفاوتة، ومثلها مكتبة أهل حوبت، وحافي، وآل أحمد محمود، وأحمد البشير، وغيرها، تزخر بأعداد أقل وأكثر من المخطوطات النادرة، وهكذا تظل العائلات محافظة على تقليدها وهواياتها القديمة في هذا الصدد. غير أن ذلك التنافس أعاق جهود الحكومة في ضم المخطوطات المتناثرة في مكتبة وطنية واحدة كبيرة، ذات قانون معين، يمكّن الباحثين والجهات العلمية من الاستفادة منه، كما أنه يحد من فقدان مخطوطات مهمة، لم تسلم من سرقة بعض الأجانب الغربيين. كما يقول مدير المصلحة في المدينة. وإذا ما انتقلنا إلى دور الطين والحجر، التي هي بمثابة"لحد"لأنفس المخطوطات، فإننا نجد مباني خاوية على عروشها، لا تصمد قطعاً أمام مطر شديد. المخطوطات في جلود تفتك بها دابة الأرض. وألقي بعضها جثثاً هامدة في ملفات كرتونية بدائية، تتعرض للتلف كلما همّ أحد بإخراجها والاطلاع عليها، هذا لو سلمت من الهوام. ضحايا المطر، والأرضة، والتمزق، من المخطوطات موضوعة في صناديق حديد متهالكة. على رغم ذلك يوجد بين المخطوطات نفائس، قلّ مثلها في العالم، كما يرى أحد الخبراء الموريتانيين. أما الآثار الأخرى من المحابر المصنوعة من معدن الرصاص والأقلام القديمة، ووسائل حياة البدو الماضية، مثل حذائهم وآنية طعامهم وبنادقهم، وآلات صيدهم، وكل ما يترجم حياتهم الاجتماعية في القرون الماضية، بما في ذلك آلة"تسمين الفتيات"قسراً آظيار. كل ذلك في العراء، بلا عناية أو اهتمام! بالنسبة إلى دور المدينة التاريخي في احتضان المحاضر، والعلوم والمعارف، فإن الشيخ محمد آل محمود الذي يدير مكتبة آل محمود، اعتبر تاريخ المدينة الذي أسأل عنه أصبح شيئاً من الماضي، وإن كانت الحكومة بإنشائها مصلحة"المدن القديمة"تحاول أن تعيد لشنقيط بعضاً من وهجها. وأضاف:"اسم المدينة انتشر في الآفاق بسبب طلاب العلم الذين كانوا يقصدونها من تونس والمغرب والجزئر، وقوافل الحجيج التي تلتقي عندها قبل أن تسير إلى الديار المقدسة، كل تلك الأسباب غدت اليوم غير موجودة، ولكننا نفتخر بأن هذه المدينة لم يكن في أرض العرب محل إلا واستفاد شيئاً من إرثها العلمي، سواء تعلم فيها مباشرة، أو درس على بعض علمائها، أو استفاد من مؤلفاتهم المنتشرة". وحول ما إذا كان يرى ممكناً أن تستعيد المدينة نهضتها مجدداً عبر مواكبة الحداثة، أضاف المحمود:"اسم شنقيط العريق، والنفائس التراثية التي ما زالت تحتفظ بها، يجعلان مهمة إحياء المدينة مسألة ممكنة، متى توافرت إرادة وطنية وعربية وعالمية لإنقاذ المدينة من الفناء والرمال". حملات للمناصرة أما المدير العام لمصلحة المدن القديمة ولد محمد الأمين، فحمّل المحتلين الأوروبيين مسؤولية"تهميش"المدن العريقة، وذلك لأنه"حوّل مراكز الثقل من المسالك الصحراوية نحو المحيط الأطلسي والموانئ المتوسطية، إضافة إلى ما صاحب ذلك من زحف الرمال وتهديدها للواحات والمساكن والعمران، وهو ما أدى إلى نزوح هائل للسكان عن تلك الحواضر. وكان على تلك المدن التي ظلت فترة من الزمن درر الصحراء أن تمر بمبيت شتوي طويل لم ينتشلها منه إلا تدخل السلطات الموريتانية مع تسعينات القرن الماضي بتحويلها تلك الحواضر إلى مقاطعات على رغم ضآلة عدد سكانها. وأنشئت للنهوض بها الهيئة الوطنية لحماية المدن القديمة وأطلقت حملة مناصرة لمصلحتها على المستوى الدولي توجت بتصنيف تلك المدن في كانون الأول ديسمبر 1996 ضمن قائمة التراث العالمي من منظمة اليونيسكو. وأسندت الدولة إلى الهيئة حماية هذه المدن وإعداد وتنسيق وتنفيذ البرامج الرامية إلى صيانتها والحفاظ على موروثها، وبدأت في إعداد الدراسات وتنفيذ البرامج و المشاريع المتعلقة بإعادة التأهيل المادي وبترميم التراث الحضري والمعماري لهذه المدن، وترقية مختلف التدخلات ذات الطابع الثقافي فيها، وتخطيط وتطوير المشاريع الاجتماعية والاقتصادية لمصلحة سكان هذه المدن". لكن الهيئة تعلق آمالاً كبيرة على أدوار الشركاء الدوليين في المؤسسات الثقافية والإسلامية في الدول العربية الشقيقة والعالم أجمع، بأن تسهم في النهوض بتراث الحواضر العريقة، التي تعدها المصلحة إرثاً للعالم كله بنحو أكبر. وتقوم الهيئة بتنفيذ مشاريعها وخططها التنموية بالتعاون مع شركائها في التنمية وهم: اليونيسكو الخبرة والتأطير، البنك الدولي، الاتحاد الأوروبي، التعاون الإسباني، التعاون الإيطالي، البرتغاليون، البنك الإسلامي للتنمية. غير أن أدوار كل تلك الجهات تظل متواضعة إذا ما قورنت بالتحديات المهددة لپ"شنقيط"وأخواتها،"ودان، وتشيت، وولاته". لماذا كل الموريتانيين"شناقطة"؟ عرفت موريتانيا قديماً باسم"بلاد شنقيط"، نسبة إلى مدينة"شنقيط"التاريخية، التي كانت مركز إشعاع حضاري وعلمي، طغى على ما حوله من الأسماء في منطقة الصحراء الكبرى، فأطلق على أهل"القطر"كلهم لقب"شناقطة"، سواء من أهل المدينة نفسها أو من أي إقليم مجاور. وتروي الكتب التاريخية وسكانها اليوم، أن حجاج البلاد المجاورة، كانوا يتجمعون فيها، قبل أن ينطلقوا في قافلة واحدة لأداء فريضة الحج. ولا تتفق الروايات حول تأسيسها، والأكثر شيوعاً أنها تأسست في موقعها الحالي سنة، 660ه/ 1372 على أنقاض مدينة قديمة، تدعى آبير كان تأسيسها في عام 160ه / 770 على يد حفيد عقبة بن نافع الفهري، قيل إن اسمه حبيب بن أبي عبيدة. وظل ما يعرف بپ"موريتانيا"حالياً كله يطلق عليه اسم"بلاد شنقيط"، حتى جاء المستعمر فألبس البلاد اسمها الجديد، الذي رجح الكاتب المصري محمد مطر في كتابه"موريتانيا.. أحلام تتحقق"، أن"الرومان هم أول من أطلق على سكان أفريقيا الشمالية اسم مور كما سموا بلادهم موريتانيا، وفي هذا المعنى يذهب أحد الباحثين إلى أن الاسم مؤلف من كلمتين: الأولى إسبانية، والثانية لا تينية، ذلك أنه لما فتح العرب إسبانيا أطلق عليهم أهلها اسم مور، وتعني"الأسمر"، أما كلمة تانيا، فإنها تعني"بلاد"باللغة اللاتينية". فكان المعنى بلاد السمر. أما اشتقاق اسم"شنقيط"، فإنه يقال يرجع إلى اسم إناء فخاري اشتهرت به المدينة. وهناك رواية أخرى تقول إن كلمة"شنقيط"ذات أصل"بربري"ومعناها باللغة البربرية"عيون الخيل". وعرفت البلاد أيضاً بپ"صحراء الملثمين"، وهو لقب يعتز به الموريتانيون كثيراً. ويرى مطر أن"بلاد شنقيط ما نسبت إلى الملثمين إلا لأنهم كانوا في قرون الإسلام الأولى سكانها الغالبين عدداً ونفوذاً". لكن الملثمين لقب أطلق على"المرابطين"أيضاً الذين خرجوا من تلك الصحراء بقيادة أبي بكر عمر اللمتوني، وبنوا مراكش، وقادهم يوسف بن تاشفين في عملية بناء الدولة المعروفة بهذا الاسم. مقبرة السياح والغزاة لا يزال الموريتانيون يتذكرون قصص رجال المقاومة الأشداء، الذين كبدوا المستعمر خسائر فادحة انتهت بمغادرته بلادهم رغماً عنه قبل عقود. وترجم الموريتانيون مجدهم النضالي أخيراً، بإقامة"مجسم"على هضبة أماطيل التي شهدت واحدة من أشهر المعارك التي خاضها رجال المقاومة، ضد الكونيل الفرنسي غوروا وانتهت بانتصار أهل الأرض. وحين مررنا بالمجسم ونحن عائدون من"شنقيط"، فتح شهية صديقي المرشد لرواية قصص غربيين، قلّما تمضي سنة إلا ويقضي أحدهم، على هضاب أدرار الصخرية، أو كثبان شنقيط و ودان الرملية. ويتذكر في موسم السياحة الماضي، شقراء فرنسية، هبطت بها الطيارة مع مجموعتها في آطار على بعد 300 كلم شمال العاصمة نواكشوط، فراحت ضحية فرحة عارمة، تملّكتها، وهي تحقق حلمها بالوصول إلى موريتانيا متجهة إلى"المدن القديمة"، المصنفة ضمن التراث العالمي. وهي تيشيت، وولاتة، وودان، وشنقيط. وقال:"المجموعة مثلما اعتادت، لما فرغت من إجراءات المطار، اتجهت إلى ناحية في المدينة وبدأوا يرقصون على موسيقاهم، احتفاء بوصولهم. وبينما هم كذلك سقطت بينهم شقراء جميلة في الثلاثين بسكتة قلبية! لكن الأغرب من فرحتها التي جلبت لها الموت أن أحد أصدقائها في الرحلة مسح على وجهها بأسف وقال:"لم تكن محظوظة، ماتت قبل أن تشاهد تشيت وشنقيط"! ومثل الشقراء عجوز فرنسي في عقده السادس، لم يتحمل وعورة الطريق، فلفظ أنفاسه على رحلة"الجمال"المتوجهة من شنقيط إلى ودان، ولما توفي تسلمت الإدارة المحلية جثمانه، حتى جاءت مروحية فرنسية نقلته إلى مدينة آطار، ومن ثم حملته طيارة خاصة إلى باريس، أما زملاؤه في الرحلة فمضوا على طريقهم، وما كأن شيئاً حدث! وفي فصلي الشتاء والربيع، تنظم هيئة السياحة بالتعاون مع مصلحة"المدن القديمة"رحلات للسياح الذين يعشقون تلك المدن، على برامج تتناسب مع كل مجموعة، سفراً بالسيارة العابرة للصحارى، أو ركوباً للجمال، أو مشياً على الأقدام، وربما احتوى البرنامج على الخيارات الثلاثة جميعاً.