لم يكن من قبيل الصدفة أن يحتل الإلحاح الإسرائيلي باعتراف الفلسطينيين والعرب عموما بيهودية الدولة العبرية كشرط أساسي لإطلاق عملية التفاوض، موقع الصدارة في أجندة حكومة أولمرت، رغم اعتبار العديد من المراقبين الإسرائيليين أن ذلك ليس سوى عقبة يرغب أولمرت في استخدامها كهراوة لتحديد شكل وطبيعة المفاوضات التي يفترض أن يطلقها"مؤتمر أنابوليس"، وذريعة لتبرير عدم الاستعداد لتقديم أي شيء للفلسطينيين المطلوب منهم إشعال"حرب أهلية داخلية"تحت عنوان تنفيذ الشق الأول من خطة"خريطة الطريق"، وفق ما جاء في"وثيقة التفاهم"بين أولمرت وعباس، وربما أيضا بهدف"كسب القليل من الوقت"، حسب الكاتب ميرون بنفنستي، ذلك أن المأزق الفلسطيني الداخلي وفضائه العربي المطلوب"تدجين"نظمه السياسية تحت عنوان"تشجيع الاعتدال"في مواجهة"التطرف والإرهاب"، ونسف مسألة حق العودة للاجئين الفلسطينيين مرة واحدة وإلى الأبد، ووضع فلسطينيي 48 الذين ما زالوا يصرون على التمسك بأرضهم تحت سيف الإبعاد والتهجير، هي قضايا آن أوان حسمها تحت وطأة الشرخ الفلسطيني الذي يزداد عمقا، وحالة الضعف العربي التي تكاد تلامس عتبة الانهيار. ومع أن بعضا من طراز آخر يعتبر الشرط الإسرائيلي بمثابة"لزوم ما لا يلزم"كون طبيعة الدول تحدد من قبل أبنائها، ومن غير الطبيعي أو الواقعي أن يفرض على الآخرين الاعتراف بذلك، غير أن الأكثر منطقية، في خضم كل ذلك، هو أن عملية طرح هذه المسألة والاستمرار في التشديد عليها إنما يعبَر، في العمق، عن ارتفاع منسوب الهواجس والقلق الوجودي الذي بدأ يطفو على السطح الإسرائيلي تحت وطأة المتغيرات العاصفة التي تشهدها المنطقة على وقع نتائج حرب تموز يوليو 2006 ضد لبنان وتداعياتها، والمأزق الأميركي المتواصل في العراق، وحالة الاحتقان والتفجر في فلسطين التي أريد لها، عبر مؤتمر أنابوليس، أن تنحو باتجاه الاقتتال الداخلي باعتباره المدخل لتصفية ما تبقى من الحقوق الوطنية والتاريخية الفلسطينية. ولعل الملمح الأبرز لهذا القلق وهواجسه التي باتت تستوطن الوجدان الجمعي اليهودي في إسرائيل، في الآونة الأخيرة، هو تلك الحملة المسعورة التي شنت ضد عزمي بشارة وحزبه التجمع الوطني الديموقراطي وضد فلسطينيي 1948 عموما، للحفاظ على طابع الدولة"الديموقراطي اليهودي"وعدم السماح بتحولها إلى"دولة لجميع مواطنيها". هذا الطرح الإسرائيلي المرجح أن يحجز مكانا استثنائيا في أجندة الطبقة السياسية في إسرائيل، أثار سجالا صاخبا على مختلف المستويات رغم رفضه من قبل المستوى السياسي الفلسطيني الرسمي. إذ في مقابل تأييده من قبل معظم أطياف اللوحة السياسية الإسرائيلية، ولا سيما من قبل الأحزاب والكتل اليمينية التي أبدت ارتياحا شديدا لموقف أولمرت في أنابوليس، كونه لم يقدم"أي تنازل"للفلسطينين، وفق تعبير العديد من القوى، ما أفضى إلى إعلان حركة"شاس"الممثلة الرئيسية لليهود الشرقيين، وحزب اليهود الروس إسرائيل بيتنا نيتهما البقاء في الائتلاف الحكومي، سارع العيد من النخب وأصحاب الرأي إلى الدفاع عنه واعتباره بمثابة"ضرورة موضوعية"، ففي مقال نشره في صحيفة"هأرتس"العبرية يوم 27/ 11 الماضي، اعتبر بروفيسور علم النفس في جامعة حيفا دافيد نافون أنه"لو كان الشعبان معنيين بالعيش في دولة ثنائية القومية لما كانت هناك حاجة لتقسيم البلاد"، فيما اختار الكاتب يسرائيل هرئيل، في مقالة نشرها في الصحيفة نفسها يوم 22/ 11، أن يوجه الاتهامات لفلسطينيي 1948 بشأن مواقفهم من مطلب الاعتراف بيهودية إسرائيل. إذ وفق رأيه أن"هؤلاء الذي يؤمنون بأنه يوجد فرصة لحل الدولتين للشعبين، يجب أن يتوجهوا في هذه اللحظة الحاسمة إلى عرب إسرائيل ويقولوا لهم: تجاوزتم الحدود. لا يمكن التوجه إلى كيان غير إسرائيلي ومطالبته بعدم الاعتراف بهوية الدولة التي أنتم مواطنون فيها، وفي نفس الوقت مطالبتها والحصول منها على كافة الحقوق... لا يمكن للأحزاب العربية التي يحظى أعضاؤها بحصانة، المس بشكل صارخ بالقانون الذي يعرَف إسرائيل بأنها دولة الشعب اليهودي"! أما عضو الكنيست عن حزب"كاديما"الحاكم عتنيئيل شنلر فقد ذهب أبعد من ذلك عندما أعدَ خطة بديلة عن خطة زعيم حزبه ورئيس الحكومة ايهود اولمرت،"التجميع"لرسم حدود الرابع من يونيو حزيران 1967 التي تضمن ضم المستوطنات لإسرائيل، قوامها ضم منطقة المثلث التي يسكنها فلسطينيو 48 للسلطة الفلسطينية، في اطار ما يطلق عليه"تبادل الاراضي"وذلك ل"الحفاظ على بيت قومي لليهود"وفق تعبيره. وبموجب الخطة، لن يكون بإمكان الفلسطينيين الذين تشملهم نقل اماكن سكناهم الى مناطق اخرى داخل إسرائيل، كما لن يكون بإمكانهم إقامة مصالح وأعمال اقتصادية فيها. في كل الأحوال، ثمة حاجة ماسة لمقاربة موضوعة"يهودية إسرائيل"من زوايا أخرى لها علاقة بطبيعة الكيان الإسرائيلي، بما هو تجمع مهاجرين- مستوطنين من أصول عرقية وثقافية مختلفة، وكذلك بارتفاع منسوب هواجس الوجود لدى أبنائه اليهود الذين لم يتمكنوا من بلورة هوية موحدة في إطار ما سمي"بوتقة الصهر"التي حلم بها المؤسسون للحركة الصهيونية ومشروعها، وأيضا بعلاقة يهود إسرائيل بيهود العالم الذين تؤكد الدراسات المختلفة انخفاض أعدادهم بشكل مضطرد، بسبب انخفاض نسبة المواليد في التجمعات اليهودية، وتحوَل أعداد وازنة منهم عن اليهودية، وارتفاع منسوب الزواج المختلط، فضلا عن إشكالية تآكل الدعم الذي تقدمه الكتل البشرية اليهودية في مناطق العالم المختلفة لإسرائيل. ناهيك عن ارتباط كل ذلك بتواصل واحتدام الصراع العربي- الإسرائيلي الذي ما زال مفتوحا حتى إشعار آخر. ولا بد من الإشارة إلى أن إسرائيل تعرَف نفسها ك"دولة يهودية". ووفق هذا التعريف فهي"ملك"لأشخاص تعرَفهم السلطات الإسرائيلية ك"يهود"، بغض النظر عن المكان الذي يعيشون فيه. أما مصطلح"اليهودي"وتوابعه، فثمة جدال واسع متواصل حوله ما بين اليهود الأرثوذكس والآخرين من المحافظين والإصلاحين والليبراليين الذين يشكلون غالبية كاسحة في إسرائيل وفي الخارج، وخصوصا في الولاياتالمتحدة. ولعل المفارقة المحيطة بسوريالية المشهد اليهودي المعقد الذي يلف هذه المسألة تتجلى في حقيقة أن نحو نصف مليون إسرائيلي فقط هم من الأصوليين، وأن أكثر من ثلث الذين هاجروا من الاتحاد السوفييتي السابق في أوائل التسعينات هم من غير اليهود، أي نحو 250 ألف شخص، وأن أقل من 300 ألف فقط من يهود الولاياتالمتحدة يرون أنفسهم ك"يهود حقيقيين"، فيما يصل عدد المتحدرين من والدين يهوديين هناك إلى نحو مليون وعدة مئات من الآلاف فقط. ويمكن القياس على ذلك في دول أوروبا الغربية والشرقية. ويبدو من المفيد الإشارة هنا إلى أن الصعود المتدرج الوثيق اجتماعيا واقتصاديا لما يمكن تسميته"المجتمه اليهودي الأميركي"أفضى إلى تجاذب في اليهودية الثقافية السياسية لمعظم الأميركيين اليهود بين ولاءات متضاربة، حيث أرست الخلفية العمالية اليديشية اقتناعل ب"تقدمية"بديهية في الثقافة اليهودية عبرت عن نفسها في الاتفاع نسبة المشاركة في النشاط التقدمي على اختلاف أشكاله، لكن"التثقيف"الصهيوني في سعيه إلى إلى ترجمة رواسب الانتماء الديني كهوية قومية ملتزمة نجح إلى حد ما في تثبيت الهوية"اليهودية"هوية أساسية، مع ملاحظة استمرار المعضلة المتمثلة في التوزع بين المذاهب الرئيسية الثلاثة وتفريعاتها المتشعبة: الإصلاحي الذي يطوَع الموروث التقليدي لمتطلبات العصر، والمحافظ الذي يحتفظ بالمضمون ويقبل بتبديل الشكل، والناموسي الذي يتقيد بالتقليد قلبا وقالبا. في موازاة إشكالية"أزمة الهوية اليهودية"، ثمة مأزق من طراز آخر بدأ مع عملية االتحول الأساسي العميق الذي حدث في إسرائيل بعد عام 1967، وانتقال النظام السياسي من مرحلة توافقه مع طريقة أدائه لوظائفه ، وقدرته العالية على قيادة المجتمع، وتحليه بإمكانية اتخاذ القرارات الحاسمة، إلى مرحلة العجز عن التوافق مع المتغيرات بعد أن فرضت نتائج الحرب نقاشا ذا صيغة جديدة بشأن القضايا الآنفة الذكر وأساليب تحقيقها، ما أضعف القدرة على حسم مصير الأرض المحتلة، وأثار أزمة في أهم القواعد الأساسية المتوافق عليها في السياسة الإسرائيلية. وقد ترافق هذا التحول مع مجمل التطورات التي شهدها المجتمع الإسرائيلي في كافة المجالات، بما فيها العسكرية والسياسية والاقتصادية، وبالأخص منذ أواسط السبعينات والانقلاب السياسي الذي دفع بتكتل ليكود إلى سدة السلطة في العام 1977. هذه التحولات النوعية عكست نفسها على المجال الفكري والايديولوجي، حيث فقدت الصهيونية الكثير من حيوتها، خاصة وأنها بنيت، من الأساس، على توليفات متناقضة الخصوصية القومية"العالمية"التقليد"التحديث"الدين"العلمانية وبات عليها، ومنذ عام 1967، مواجهة فكرة الدمج بين ما سمي بالتحرر القوي- العلماني وبين الخلاص الديني الذي كسب أوراقا إضافية بعد حرب تشرين الأول أكتوبر 1973. ومنذ ذلك الوقت، بدأ يبرز الانقسام الديني- العلماني على السطح على حساب الانقسامات الأخرى التي كانت تظهر بين الحين والآخر. وقد ساهم ذلك كله في تلاشي الملزمات الايديولوجية، وتكريس الجمود السياسي الذي أفسح المجال أمام تكوين بدائل فكرية وسياسية واجتماعية أفرزت عددا من التيارات التي تشذ عن كونها توليفات جديدة بين المتناقضات التي جمعت بينها الفكرة الصهيونية، مع بعض الرتوش المنعكسة عن التطورات الداخلية والخارجية. وكان من الطبيعي أن تحل، في هذا المجرى، البراغماتية، وإن كان بشكل جزئي، محل النظريات القديمة. وكان الخاسر الأكبر تلك الأحزاب الكبيرة التي تضطر، ومنذ العام 1984، إلى تشكيل حكومات ائتلافية، وتخضع لابتزازات الأحزاب الصغيرة التي تعززت قدرتها على المساومة ومكانتها الاستراتيجية في النظام، الأمر الذي ساهم بدوره في إضعاف الايديولوجيات في الأحزاب الكبيرة وتحولها إلى"أحزاب سوق"يمكن أن يجد المرء فيها كل ما يريد الحصول عليه. كما أدى إلى بروز أهمية الصفات الشخصية للسياسيين، وهي التي تصنعها عادة وسائل الإعلام، وذلك في مقابل ضعف أجهزة الأحزاب. وكان هذا سببا رئيسيا في تقليص عدد الانشقاقات على أساس أيديولوجي، وتسهيل عقد الصفقات الائتلافية، وبالمقابل تسهيل هذه الانشقاقات على أسس شخصية. * كاتب فلسطيني.