في العلوم السياسية تستخدم كلمة الجماهير للدلالة على تجمعات بشرية كثيفة العدد تقع أسفل الطبقة الوسطى من النواحي الاجتماعية، سواء كانوا من أبناء الطبقة الدنيا ذوي النشاط الإنتاجي المنتظم الذي يدر عليهم دخلاً أقل في قيمته من مجهوداتهم أو كانوا من الفقراء ذوي النشاط الإنتاجي الموسمي أو المتقطع أو كانوا من المعدمين العاطلين عن العمل على غير إرادتهم، وهم جميعاً تعجز دخولهم عن تلبية احتياجاتهم الأساسية. وفي العلوم السياسية تستخدم كلمة النخب للدلالة على تجمعات بشرية محدودة العدد تؤمن كل نخبة منها بمنظومة عقائدية متكاملة من حيث الفكر والرأي والفعل، وتراها الأصلح ليس فقط للجماهير ولكن للوطن كله وفقاً لقواسم برنامجية مشتركة عظمى على كل النواحي والمستويات، وتنشئ كل نخبة اتجاهاً مؤيداً لها في المجتمع لتقوده وتستثمره في تنافسها السياسي على السلطة مع النخب الأخرى، وقد عرفت مصر في العصر الحديث بعض النخب السياسية ذات الملامح المميزة كالليبرالية والعروبية والإسلامية والماركسية وغيرها. ويتم إفراز النخب السياسية في أغلب الحالات من داخل الطبقات العليا والوسطى حتى لو كانت برامجها تتجاوز المصالح الضيقة والمباشرة للطبقات التي أفرزتها لتدعو إلى ما تراه النخبة هو الأصلح على نطاقات وطنية أوسع، وفي بعض الحالات يتم إفراز النخب من بين جماهير الطبقة الدنيا، ورغم اختلاف النخب فيما بينها إلا أنها تسعى جميعها لكسب ود الجماهير سواء بدوافع برنامجية حقيقية أو بدافع الحصول على التأييد العددي اللازم للنشاط السياسي، وفي الحالتين تقوم النخبة المعنية بتوعية الجماهير وتنظيم أفكارها وآرائها بعيداً عن الشطط والانحراف، ثم تقوم بتنظيم صفوفها وأنشطتها وأفعالها لتحقيق مصالحها وفقاً للقواسم البرنامجية المشتركة العظمى الواردة في المنظومة العقائدية المتكاملة والتي تراها النخبة أصلح للوطن كله. وتفرز الجماهير أيضاً الفئات التي يطلق عليها في العلوم السياسية اسم"الحثالة"كمصطلح اجتماعي علمي وليس كتوصيف أخلاقي للسلوكيات المتدنية وإن كانا يشكلان وجهين لعملة واحدة، فالحثالة عبارة عن أفراد متناثرين يتحرك كل واحد فيهم بدافع من رغباته الشخصية الأنانية لتحسين أوضاعه عبر استخدام مختلف المهارات الإجرامية، من دون أدنى مراعاة لحقوق ومصالح الشركاء الآخرين في المجتمع من أفراد وجماعات ومؤسسات وبصرف النظر عن اعتبارات السلامة أو العدالة على المستوى الوطني العام. ويقوم الأفراد المنتمون للحثالة باستثمار المسافات الواقعة بين مختلف أطراف الخرائط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للتخفي والتمويه حيناً وللتلاعب والتحايل والإجرام أحياناً، كما يلتصقون بكل الأطراف المتصارعة والمتنافسة في الوقت ذاته مثل نبات اللبلاب الطفيلي الذي يتسلق الأشجار الوارفة المثمرة ليمتص منها الماء والغذاء والهواء ثم يلتف حولها حتى يخنقها فتموت وحينذاك يتركها ليتسلق غيرها. وهكذا تجد الواحد من هؤلاء الأفراد يتحصل على عدة مكاسب حكومية باعتباره مرشداً للمباحث وتجده في الوقت ذاته يتحصل على عدة أنصبة من الزكاة والصدقات التي توزعها زوايا الإسلاميين ومساجدهم وتجده في الوقت نفسه ينضم إلى تظاهرات الماركسيين والعروبيين ليتمكن وسط الزحام من سرقة الأموال والسلع التي تقع تحت يده. وأخيراً تجده يتحصل على دعم وحماية الجمعيات الليبرالية التي ترفع شعارات حقوق الإنسان عندما يتعرض للعقاب بسبب شر أعماله!! ولما كانت المواجهات بين مختلف أطراف الخريطة السياسية هي بالنسبة للحثالة"موسم رزق"فإن الحثالة هي الفئة المحلية الوحيدة صاحبة المصلحة في استمرار المواجهات السياسية وزيادة حدتها وتصاعدها إلى حد الصدام الذي يدفع بالوطن كله نحو هاوية الفوضى لتتفق في ذلك مع الخارج المتربص شراً بدعوته إلى"الفوضى الخلاقة"! وحتى وقت قريب كان يمكن لقوافل الوطن والمجتمع أن تمضي في دروبها المختلفة رغم المصالح الأنانية الضيقة للحثالة باعتبارها تقبع في الدرك الأسفل لكل شيء من دون دعاية ومن دون تمكين، وبالتالي من دون تأثير إلى أن حصلت الحثالة منذ عقدين على مدد علوي تمثل فيما أصبح المشتغلون بالعلوم السياسية يسمونه"الشعبوية"وذلك عندما تعرض الماركسيون المصريون لأزمتهم الكبرى كمحصلة لمجموعة عوامل على رأسها أخطاؤهم الداخلية الجسيمة والضربات الأمنية والمد الإسلامي ثم انهيار المعسكر الشيوعي العالمي، فتسرب بعضهم إلى الأفنية الخلفية للحياة السياسية المصرية ليتحولوا بشكل مأسوي من المعارضة المشروعة لنظام الحكم والدولة إلى الكراهية البغيضة للوطن والمجتمع ثم عاودوا التجمع معاً ليشكلوا الحركة الشعبوية المعاصرة. وعلى خلاف النخبوية، فإن الشعبوية لا تسعى لتوعية الجماهير ولا لتنظيمها سواء على أصعدة الفكر أو الرأي أو الفعل كما أنها لا تسعى لإزالة ما لدى الجماهير من شطط وانحراف، وهي لا تسعى لضبط إيقاع الأداء الجماهيري مع أي قواسم برنامجية مشتركة عظمى لأنه ليس لدى الشعبوية برنامج وليس لديها أي منظومة عقائدية متكاملة تراها أصلح للوطن رغم تمسحها في الماركسية، وبالتالي فإن ما تقوم به ليس سوى التهليل للأفعال العشوائية المعبرة عن بعض الانفلاتات الغاضبة لبعض الجماهير هنا أو هناك والانسياق خلفها سواء كانت على حق أو على باطل. ولما كانت العشوائيات الجماهيرية تميل إلى الإعجاب بمغامرات الحثالة رغم أنها أسوأ إفرازاتها فقد التقطت الحركة الشعبوية هذا الخيط بانتهازية وذهبت به إلى حد تمجيد الحثالة على اعتبار أن أفرادها هم"أبطال العمل الجماهيري"، لتتجاوز بذلك كل حدود العقل والمنطق في أي وجه من أوجه العلوم السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، وهي الحدود التي يجب ألا تتجاوز الالتزام النخبوي بالعمل الجاد من أجل تحسين الأحوال المعيشية للحثالة الاجتماعية وتلبية احتياجاتها الحقيقية باعتبارها إحدى فئات الشعب المصري المحرومة، دون مزايدات أو مراهنات عليها ودون إعجاب بها أو تشجيع لها. وبالتالي فإن محاولات الحركة الشعبوية لتمجيد الحثالة ليست سوى انتهازية سافرة وفاجرة! وحتى وقت أقرب كان يمكن لقوافل الوطن والمجتمع أن تواصل المضي في دروبها المختلفة رغم دونية الفكر ونفعية السلوك لدى الحركة الشعبوية بتملقها الغريب للحثالة، طالما كانت هذه الانحرافات العشوائية محصورة في نطاق ضيق من دون دعاية وتمكين وبالتالي من دون تأثير، إلى أن حصل معسكر"الشعبوية - الحثالة"أخيراً وبشكل مباغت على مدد مؤسسي قدمته في البداية بعض الجمعيات التي ترفع شعارات"حقوق الإنسان"وبعض دور النشر التي تتولى الترويج لما يسمى بالكتابات"الجديدة"، ثم انضم إلى الركب حزب سياسي حديث يرفع الشعارات الليبرالية كان رئيسه الشاب المتطلع إلى"الغد"قد أثار عدة علامات استفهام خلال صعوده الصاروخي وخلال سقوطه المدوي، وفي مرحلة تالية انشقت الأرض عن بعض التجمعات الاحتجاجية العشوائية غير البرنامجية التي تعارض أي شيء بأي شكل في أي وقت، وهي ترفع شعارات متضاربة تكشف عن أفكار مراهقة غير مكتملة النضج وآراء غامضة غير واضحة المعالم حتى بالنسبة للسياسيين الذين يتحركون في إطار برنامجي جذري"ضد"الحكومة المصرية ويدعون إلى"التغيير"الجذري لنظام الحكم ويقولون له يومياً بشكل جذري"كفاية". وأخيراً تمكنت الحركة الشعبوية من امتلاك بعض أدوات الاتصال الجماهيري الواسع حيث أصبح لها جريدة يومية تدعي أنها تملك"البديل"الأصلح للوطن كما اخترقت المجال السينمائي عبر موجة الأفلام الجديدة التي تعبر بدقة عن الرؤية العشوائية للحركة الشعبوية مثل فيلمي"هي فوضى"و"حين ميسرة"وغيرهما. هذا وتسعى الحركة الشعبوية المصرية ذات الأصول الماركسية حالياً بكل قوة لتسخير ما لديها من أدوات الاتصال الجماهيري الواسع للإشادة بالحثالة الاجتماعية وتمجيدها ودعوة المصريين إلى الالتفاف حولهم باعتبارهم أبطال العمل الجماهيري الذين يملكون خلاص الوطن من مشكلاته ودعوة الخارج المتربص شراً إلى التدخل لدعم الحثالة وحمايتها. وإذا كان الاستقواء بالخارج يتسق مع اعتبارات التمويل الخارجي المشبوه الذي تحصل عليه المؤسسات الداعمة والتابعة للحركة الشعبوية سواء بشكل مباشر أو عبر بعض الوساطات المريبة، والذي يتسق بدوره مع اعتبارات خرائط الطرق الخاصة بالفوضى الأميركية غير"الخلاقة"، بما تحتاج إليه من مرتكزات محلية تسعى للدفع بمجمل أوضاع الوطن نحو الفوضى، فإن تمجيد الحثالة باعتبارهم أبطال العمل الجماهيري يتناقض جذرياً مع الخبرات الميدانية للماركسيين المصريين المعاصرين، والذين يذكرون جيداً كيف كانت احتجاجات كانون الثاني يناير 1977 الاجتماعية المنضبطة تتقدم نحو الأمام لتحسين أحوال الوطن والمجتمع حتى هجمت الحثالة على الشوارع كالجراد فأزاحت الجماهير الحقيقية الغاضبة والمنظمة جانباً وحلت محلها لتسرق وتحطم وتحرق وتعتدي وتغتصب، مما أثار مخاوف القطاعات المحايدة والذين يشكلون غالبية المجتمع المصري ودفعهم نحو دعم الحكومة وتأييدها في مواجهة ما أسماه الرئيس السادات آنذاك"انتفاضة الحرامية"، وكان ما كان بعد ذلك من انتكاس مهين للعمل الجماهيري الحقيقي. والأهم من ذلك كله أن تمجيد الحثالة الاجتماعية باعتبارهم أبطال العمل الجماهيري يتناقض جذرياً مع الأسس النظرية للعقيدة الماركسية التي يدعى الشعبويون بتفاخر أنهم يؤمنون بها، متناسين أنه في أيار مايو 1852 نشرت مجلة أميركية غير دورية تصدر في"نيويورك"اسمها مجلة"الثورة"بحثاً كتبه كارل ماركس عن الحركة الانقلابية التي قام بها الرئيس الفرنسي لويس بونابرت في كانون الاول ديسمبر 1851 للإطاحة بخصومه في مؤسسات الدولة والمجتمع، وقد تم نشر البحث تحت عنوان"الثامن عشر من برومير، لويس بونابرت"، ثم أعيد نشره بعنوانه نفسه على شكل كتاب في مدينة هامبورغ الألمانية العام 1869، وبعد ذلك أعيد نشر آلاف الطبعات منه بلغات العالم المختلفة، وتولت دار"التقدم"في موسكو مسؤولية نشر ترجمته العربية وأصدرتها في طبعات متعددة على امتداد القرن العشرين في ما يفترض معه"نظرياً"أن يكون الماركسيون المصريون قد طالعوه! وحتى لا يغمض الشعبويون منهم عيونهم كعادتهم نعاود تذكيرهم بأن كارل ماركس في كتابه"الثامن عشر من برومير"هاجم بشدة تسييس الحثالة الاجتماعية بواسطة الشعبويين الذين يراهنون عليها لتحقيق مصالحهم السياسية الضيقة، وننقل لهم باختصار شديد بعض النماذج مما قاله في هذا الصدد. "تتكون الحثالة الاجتماعية من الأشخاص المشكوك في أصولهم الاجتماعية والذين يحصلون على دخولهم بشكل مشبوه عبر ممارسة الأنشطة الإجرامية أو العشوائية أو عبر التسول أو الشعوذة أو عبر الامتناع عن تأدية أي أنشطة والتنطع على غيرهم وهم يبددون هذه الدخول المشبوهة بسهولة في مغامرات مشبوهة ويتسمون بالانفلات الفاجر في سلوكياتهم ... الهمّ الأول للحثالة الاجتماعية هو العيش كما يحلو لها من دون قواعد أو معايير، وهو تحقيق الثراء بالغش أو بالمقامرة على حساب خزائن الغير حتى لو كانت خزائن الدولة". وإذا كان الشعبويون المصريون ذوو الأصول الماركسية يتعمدون التنصل من ذاكرتهم السياسية الميدانية المعاصرة كما يتعمدون التنصل من الأسس النظرية للعقيدة التي يدعون الانتماء إليها، فقد يكون ذلك بدافع من شهواتهم نحو المال والشهرة وسعيهم نحو السلطة، وقد يكون بدافع من شهوات ومساعٍ أخرى لا يعلمها سواهم، إلا أنها تطيحهم بعيداً عن أحضان الوطن الذي يبقى دوماً من وراء القصد. * كاتب مصري.