يتساءل البعض عما إذا كانت الحكومات الأميركية المتعاقبة حكومات ديموقراطية حقاً أم أنها حكومات بلوتوقراطية حكومة الأثرياء لا تأخذ في الاعتبار حقوق الطبقات الفقيرة، بينما تراعي مصالح الأثرياء وكبار الرأسماليين الذين يتولون تمويل الحملات الانتخابية لاختيار رئيس الدولة بتقديم معونات وتبرعات قد تصل إلى مئات الملايين من الدولارات. ولا يتردد كتاب ومفكرون في ان يصفوا النظام الأميركي بأنه أكثر النظم فساداً لأنه يقوم على الرشوة المتمثلة في تلك التبرعات وغيرها. ولا تسلم حكومات العالم الثالث من مثل هذه الاتهامات والأحكام القاسية التي كثيراً ما تحمل معها قدراً كبيراً من السخرية من الزعماء ورجال السياسة والحكم نظراً لعجزهم الواضح عن التصدي لحل المشاكل المزمنة التي يزعمون أن حكوماتهم قادرة على مواجهتها وعلى تحقيق مستوى أفضل للحياة والمعيشة وتحسين الخدمات والقضاء على الفساد وضمان احترام حقوق الإنسان وغير ذلك من الوعود البراقة التي ضمنت لهم التفاف الجماهير حولهم، ولكنهم لم يلبثوا أن نسوا هذه الوعود وأسقطوا من اعتبارهم حقوق تلك الجماهير وانشغلوا برعاية مصالحهم الخاصة ومصالح أنصارهم. وعبرت الجماهير العريضة من مختلف الدول بوضوح عن رأيها في حكوماتها وفي الطبقات الرأسمالية الغنية المتسلطة بتنظيم المسيرات التي صاحبت انعقاد الاجتماعات والمؤتمرات الدولية في السنوات الأخيرة لبحث الأوضاع الاقتصادية في العالم والتي تخفي وراءها نزعات تسلط الدول الصناعية الكبرى على الدول النامية والشعوب والفئات الفقيرة عموماً. وليست هذه الاتجاهات الجماهيرية المناوئة للحكومات بالأمر الجديد وإن كان الاهتمام بتنظيمها بطريقة جادة ومؤثرة ظهر في أواخر القرن التاسع عشر بعد اندلاع تمرد الفلاحين في الولايات الجنوبية في أميركا على أصحاب المزارع والطبقات الغنية المستغلة مطالبين بإصلاح الأوضاع وتحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية. ووجد ذلك التمرد والعصيان مؤازرة قوية من عدد من المفكرين ودعاة الإصلاح وعرفت الحركة باسم الحركة أو الظاهرة الشعبوية Populist ولقيت لها سنداً في كتابات المفكر الاقتصادي الاجتماعي الأميركي هنري جورج صاحب كتاب "الفقر والتقدم". فقد كان جورج يؤمن بأن الأيديولوجيات المحافظة هي وسيلة لتبرير الجشع والاستغلال وتسويقهما. وترجم كتاب "الفقر والتقدم" إلى العربية منذ سنوات طويلة ولكن يبدو أن النسيان لحقه هو وصاحبه. وقد كانت هذه الحركة الشعبوية تنادي بتطبيق سياسات الإصلاح التي تكفل حماية الفقراء المعدمين من استغلال الأغنياء وجشع الرأسماليين وتطبيق مبادئ الديموقراطية الحقيقية في الحكم. وعبر ويليام جننجز برايان عن ذلك بقوله: "إنه حين جاء الإصلاح إلى هذه الدولة فإنه بدأ من الجماهير. فالإصلاحات لا تأتي أبداً من عقول العلماء الأكاديميين". وإن لم يقل صراحة إنها لا تأتي أبداً من الساسة والأغنياء والرأسماليين. والمهم هنا هو أن هذه الحركة - ككل الحركات الشعبوية التي ظهرت بعد ذلك وبخاصة في بعض مناطق العالم الثالث - تهدف إلى تحقيق العدالة السياسية والاقتصادية لكل أعضاء المجتمع كما أنها دعوة للحرية والديموقراطية ولذا كانت دائمة الاصطدام مع الأيديولوجيات المحافظة. وحين عادت هذه الحركة إلى الظهور في السنوات الأخيرة صدرت عنه كتب عدة لعل من أطرفها وأكثرها عمقاً كتاب ميكائيل كازين، الأستاذ في جامعة هارفارد عن "الإقناع الشعبوي". وصدر الكتاب العام 1995 وعلق عليه روبرت جونسون أستاذ التاريخ في جامعة ييل بقوله: "لقد عادت النزعة الشعبوية إلى الظهور نتيجة لشعور الأميركيين بالغثيان من زعمائهم السياسيين". واعتمد كازين في عرض تحليل هذه النزعة - التي توصف أحياناً بأنها ظاهرة أو حركة - على إبراز الخصائص المميزة لأسلوب الخطاب الذي يلجأ إليه من سماهم بالزعماء الشعبويين لاستمالة الجماهير والتمويه عليهم وكسب تأييدهم من دون أن يعملوا في آخر الأمر في شكل جدي وفعال على إنجاز ما وعدوا به، وبين كازين أن هؤلاء الزعماء الشعبويين يشتركون جميعاً في استخدام لغة خاصة لها قدرة غريبة على الإقناع وعلى تجاوز كل الحدود والفوارق الأيديولوجية والقفز فوقها سواء أكانت ليبرالية أم محافظة بحيث تبدو للجميع على أنها تعبر عن آراء الجماهير. وفي ذلك تنحصر براعة هؤلاء الزعماء الشعبويين - في رأيه - من توماس جيفرسون حتى بيل كلينتون، بل بعض رجال الدين الشعبويين مثل القس جيسي جاكسون. وواضح أنه إذا كانت الحركة الشعبوية بدأت في الأصل من تمرد الجماهير على الأوضاع السيئة التي كانوا يعيشون تحتها وعلى تسلط الطبقات الغنية وكبار الرأسماليين فإنها تمخضت عن ظهور سياسيين يتخذون من الدفاع عن مطالب تلك الجماهير وسيلة للوصول إلى الحكم كما يجيدون استخدام لغة الخطاب الشعبوي في اكتساب حب الجماهير وإثارة الإعجاب بهم والتقدير لهم مما يساعدهم على تركيز كل السلطات في أيديهم. وهذا واضح خصوصاً في مجتمعات العالم الثالث وأفريقيا وأميركا الجنوبية بخاصة حيث ينتهي الأمر بالزعماء السياسيين الشعبويين إلى تغليب مصالحهم الخاصة والانفراد بالحكم على حساب الديموقراطية التي كانوا ينادون بها. ومن هنا يجد الكثيرون صعوبة في تصنيف الشعبوية وهل هي نظام سياسي وأين مكانه بين النظم السياسية المعروفة وهل الزعماء الشعبويون ديموقراطيون أم فاشيون. وهناك، على أية حال، شبه إجماع على اعتبارها ظاهرة اجتماعية ثقافية أفلحت في أن تفرض نفسها على الفكر السياسي، وبخاصة في ما يتعلق بالعالم الثالث، ويعترف بيير أوستيجي في ورقة تقدم بها إلى اجتماع رابطة دراسات أميركا الجنوبية المنعقد في واشنطن في الفترة بين 6-8 أيلول سبتمبر 2001 عن "الشعبوية والديموقراطية والتمثيل النيابي" بأن الشعبوية لا تزال تثير كثيراً من الجدل في أميركا وأوروبا نظراً الى غموض العلاقة بينها وبين الديموقراطية، ويرى أنه قد يكون من الأفضل اعتبارها "نظاماً" وسطاً بين الديموقراطية الليبرالية والنظم الفاشية المتسلطة وأنها على أفضل الفروض نظام شبه ديموقراطي. والمهم هو أن أهم ما يميزها هو الميل الواضح الذي يكاد يكون انحيازاً كاملاً لروح الجماهير غير المتعلمة والطبقات الدنيا والفئات غير الماهرة وبخاصة في العالم الثالث. كذلك يعتبرها بعض المحللين السياسيين والاجتماعيين إحدى صور التعبئة السياسية في المجتمعات التي يتمتع فيها الزعيم السياسي بشخصية كاريزمية قوية تساعده على كسب التفاف الجماهير حوله وحبهم واحترامهم وتقديرهم له وإعجابهم به وذلك من خلال إجادته لفن التقرب والتملق والإشادة بتلك الجماهير - وهو الأسلوب الخطابي الذي يعرف الزعماء الشعبويون كيف يستخدمونه في حذق ومهارة. وكذلك من خلال الإشادة في الوقت نفسه بالجهود التي يبذلها للارتفاع بمستوى المعيشة وحل المشاكل التي تعاني منها الفئات الفقيرة المعدمة ومداعبة خيالهم حول تحقيق مستقبل أفضل يخلو من المتاعب ويوفر لهم الرخاء مما يجعلهم يتعامون عن المثالب والمساوئ في شخصيته وطريقة الحكم، بما في ذلك إغفال القواعد والإجراءات الرسمية المحددة وعدم المبالاة بالقوانين أو تفسيرها بحسب أهوائه لتبرير سياسته العامة وتصرفاته الشخصية وعدم الالتزام بالنزاهة للحصول على تأييد غالبية الشعب لضمان الاستمرار في الحكم. ومن هنا كانت صعوبة أو حتى استحالة التخلص من الزعيم الشعبوي أو إزاحته إلا بالموت أو من طريق التدخل العسكري. وقد يجد النظام الشعبوي بعض النقد أو المعارضة والرفض من المثقفين الذين يكشفون عن تناقض الشعبوية مع المعايير الأخلاقية. وقد تجد أصوات المثقفين صدى لها في الخارج ولكنها لا تجد المؤازرة الكافية داخل الوطن ولذا قلما يعطيها الزعيم الشعبوي شيئاً من الانتباه أو الاهتمام. وثمة شواهد كثيرة حتى في عالمنا العربي والإسلامي تؤكد هذه الحقيقة. ولكن يبدو أن رياح التغير أخذت تشتد وتقوى في السنوات الأخيرة كما تكشف عن ذلك تحركات المنظمات غير الحكومية والمسيرات والتظاهرات والاحتجاجات الصريحة التي تطفو على السطح في عنف وقوة أثناء المؤتمرات الدولية الكبرى التي تناقش الأوضاع والسياسات الاقتصادية في العالم وتسيطر عليها الدول الصناعية والقوى الرأسمالية. وقد يكون في ذلك عودة إلى المبادئ المثالية التي قامت عليها الحركات الشعبوية في الجنوب الأميركي في أواخر القرن التاسع عشر. وليس من شك في أن تقدم وسائل الإعلام يسهم بنصيب وافر في إبراز الحقائق. ومثلما اكتشف إنسان الغرب المتقدم كذب بعض كبار المسؤولين حول غزو العراق - كمثال واحد - وبدأ يحاسبهم على هذا الخطأ السياسي والأخلاقي بدأت شعوب العالم الثالث تفيق من غفوتها أو غفلتها وتكتشف سوء الأوضاع في أوطانها وهذا الاكتشاف هو الخطوة الأولى نحو المحاسبة. * انثروبولوجي مصري.