Olivier Ihl ed.. La Tentation Populiste au Coeur de L'Europe. الإغراء الشعبوي يجتاح أوروبا. La Dژcouverte, Paris. 2003. 320 pages. هناك من يتحدث عن "جائحة". أو على الأقل عن "موجة". وهي على كل حال "ظاهرة" لا سبيل الى المماراة فيها: فصعود نجم الشعبوية هو اليوم الحدث الألفت للنظر في عدة من بلدان أوروبا الغربية. بيرلوسكوني الذي تحول بين عشية وضحاها من رجل أعمال شبه أمي سياسياً الى زعيم لحزب جماهيري والى رئيس لوزراء ايطاليا غير قابل للخلع رغم كل فضائحه المالية وتورطاته القضائية. يورغ هايدر، زعيم الحزب الشعبي النمسوي، الذي استطاع في سنوات قلائل ان يرفع رصيد حزبه الانتخابي من 5 في المئة الى 27 في المئة من اجمالي أصوات الناخبين، وأن يحوله من حزب منبوذ الى حزب حاكم. بيم فورتوين الذي استطاع هو الآخر بمثل لمع البرق قبل اغتياله مؤخراً ان يهزم الاشتراكيين في روتردام، كبرى مدن هولندا، وأن يجعل من اللائحة الحزبية التي تحمل اسمه الشخصي ثاني أكبر قوة سياسية في البلدان الواطئة. جان ماري لوبن، الذي هزم ليونيل جوسبان، زعيم الحزب الاشتراكي الفرنسي في الانتخابات الرئاسية لعام 2002، واضطر قوى اليمين واليسار، لأول مرة في تاريخ فرنسا السياسي، الى أن تتوحد تكتيكياً كيما تتصدى لصعوده المفاجئ الذي أثار هلع الجميع. والى هؤلاء جميعاً يضاف كرستيان بلوشيه، زعيم "اتحاد الوسط الديموقراطي" في سويسرا، وامبرتو بوسي، زعيم "رابطة الشمال" في ايطاليا، واندريه ليبر، زعيم "الدفاع الذاتي الفلاحي" في بولندا، وجوزيه بوفيه، زعيم "الاتحاد الفلاحي" في فرنسا، وفيليب ديفنتر، زعيم "الكتلة الشعبية" الفلاندرية في بلجيكا، وبيا كيرغارد، زعيمة "الحزب الشعبي" في الدانمارك. ما هو القاسم المشترك بين هؤلاء جميعاً؟ انه "الرجوع الى الشعب"، وهذا شعار كان أول من رفعه في التاريخ "النارودنيون" حرفياً الشعبيون الروس، أي تلك الشريحة من المثقفين ذوي المنزع السلافي ممن قنطوا من حكم السلالة القيصرية ومن الخلاص عن طريق التغريب والتأورب معاً، فعقدوا رهانهم كله على "الرجوع الى الشعب" كما كان أوصاهم بذلك عميد الانتلجنسيا الروسية في حينه الكسندر هرزن. ولكن أليس "الرجوع الى الشعب" هو ايضاً المطلب الأول للديموقراطيين كل الديموقراطيين وهذا على الأقل منذ ان اكتسبت كلمة "الشعب" دلالتها السياسية في أعقاب الثورة الفرنسية الثانية، ثورة 1830 ضد السلالة البوربونية المالكة، والتي وجدت شاعرها المنشد في شخص فيكتور هيغو الذي كان أول من أرسى، بين المثقفين الفرنسيين، "عبارة الشعب"؟ الواقع انه إن يكن من قاسم مشترك كبير بين الشعبويين والديموقراطيين فهو تبنيهم جميعاً للتعريف الشهير الذي كان أعطاه الرئيس الأميركي ابرهام لنكولن للديموقراطية: "حكم الشعب بالشعب وللشعب". ولكن إذ يلتقي الشعبويون والديموقراطيون عند هذا التعريف، فإنما عنده ايضاً يفترقون. فالديموقراطيون عندما يتحدثون عن حكم الشعب، فإنما يقصدون الحكم عن طريق المؤسسات التي تمثل الشعب، وفي مقدمتها بطبيعة الحال البرلمان. أما الشعبويون، فحكم الشعب عندهم هو حكمه المباشر لنفسه بنفسه من دون وساطة أية مؤسسات تمثيلية. ثم ان مفهوم الشعب عند الديموقراطيين مفهوم تعددي يقوم على تباين التيارات السياسية والايديولوجية وتعدد الأحزاب الممثلة للشعب ومعارضة الاقلية لأكثرية حاكمة موقتة من منطلق تداول السلطة. اما عند الشعبويين في المقابل فالشعب مفهوم اجماعي، والارادة السياسية واحدة بالضرورة، وبالتالي الحقيقة نفسها. وهذه الوحدة التي تجبّ كل ما عداها وتعتبر الاختلاف شذوذاً وانحطاطاً أخلاقياً، إن لم يكن خيانة، تجد تجسيدها في الزعيم الشعبي الذي هو على تواصل مباشر ودائم مع الشعب، من دون وساطة أية مؤسسة تمثيلية ومن دون رجوع الى أي تحكيم انتخابي فعلي، وعند الضرورة القصوى الاكتفاء باستفتاء ال"نعم" أو "ال"لا". ولأن الشعبويين يعتبرون أنفسهم ممثلين للشعب بأسره، لا لتيار من تياراته أو طبقة من طبقاته، فإنهم يتحاشون ما أمكنهم اطلاق اسم "حزب" على حركاتهم وتنظيماتهم السياسية. ذلك ان كلمة "حزب" باللغات الأوروبية Parti, Party، كما باللغة العربية، تعني الجزء من الشيء، وليس كل الشيء. والحال ان التسميات التي يختارها الزعماء الشعبويون لحركاتهم هي تسميات ذات طابع كلي. فالفرنسي لوبن ينسب حركته الى الوطن أجمع: "الجبهة الوطنية"، والايطالي بيرلوسكوني يجعل من حركته ناطقة بلسان ايطاليا بأسرها: "فورزا ايطاليا" أي اندفعي الى الأمام يا ايطاليا. وحتى عندما يسمي امبرتو بوسي حركته ب"رابطة الشمال"، فإنه يحيل الى كيان كلي هو الشمال الايطالي الذي يريد تأسيسه دولة قومية مستقلة عن الجنوب الايطالي. على أن هذه التسميات الكليانية هي في الغالب مجرد واجهة. فالحزب الشعبوي هو حزب زعيمه. فمع الزعيم يكون كل شيء، ومن دونه لا شيء. وبالفعل، وعلى العكس من الاحزاب السياسية التقليدية، فإن الحزب الشعبوي غير قابل للوراثة، لأنه متماهٍ لا مع برنامج سياسي محدد، بل مع شخص زعيمه. وبرحيل هذا الأخير، فإن مآل الحزب الى اضمحلال. وبالفعل، انه لمن الصعب ان نتصور بقاء "فورزا ايطاليا" بعد وفاة بيرلوسكوني. وكان يمكن أن يقال الشيء نفسه عن جبهة لوبن الوطنية لولا ان هذا الأخير تدارك الأمر فرشح ابنته لتكون وريثته بعد وفاته. وهذا التماهي بين الحزب الشعبوي وزعيمه يفسر، في ما يفسر، دور العامل الديني في البنية التنظيمية للحزب الشعبوي. فمن دون ان تشكل الشعبوية ديناً، فإن طريقة اشتغالها دينية اكثر منها سياسية. فالزعيم، تماماً كما لو أنه إله، هو موضوع عبادة، وفوق النقد. وفي الغالب يتصوره اعضاء حزبه ملهماً ومعصوماً عن الخطأ، ولا يسري عليه بالتالي مبدأ النقد والمحاسبة. وبالفعل، فإن الحزب الشعبوي، خلافاً للاحزاب السياسية البرنامجية، اليسارية واليمينة منها على حد سواء، لا يعرف المعارضة الداخلية ويجهل وجود التيارات الكتلوية والاجتهادات الشخصية. فهو كتلة متراصة ومتلاحمة مع الزعيم، وكل خلاف في الرأي يفسر على انه عصيان وهرطقة عقابه الفصل، أي الطرد من جنة الحزب. ونستطيع أخيراً أن نلمس أثر هذا النمط الديني في طريقة اشتغال الحزب الشعبوي في استراتيجيته التعبوية. فكما ان الرسالات النبوية والحركات الدينية الجديدة تجعل قاعدة انطلاق أولى لها الانذار بوشكان وقوع الواقعة ونهاية العالم، كذلك فإن الاحزاب الشعبوية تجعل رهانها الأول في تعبئة الانصار على مفهوم "الأزمة". فهي تغالي في "تأزيم" الاوضاع الى حد تصوير وجود الأمة نفسها وليس فقط الدولة وكأنه مهدد بخطر الانحطاط، بل الانقراض. وعامل هذا التهديد هو اما الطبقة السياسية الحاكمة المتهمة برمتها بأنها "خائنة" للشعب، واما العنصر الخارجي المتمثل بغزو الغرباء والمهاجرين للمجتمع المعني، واما أخيراً طغيان العنصر الاثني المضاد في الأدبيات الكارثية للأحزاب الشعبوية الانفصالية الطليان الجنوبيون "الكسالى" بالنسبة الى "رابطة الشمال" أو الفالونيون الفرانكوفونيون بالنسبة الى "الكتلة الشعبية" الفلاندرية. وفي الاحوال جميعاً، فإن الشعبويين إذ يهولون من شأن "الأزمة"، فانهم لا يسعون أبداً الى ايجاد حلول فعلية لها. فهي لاستراتيجيتهم التعبوية كالماء للسمك. ومن دونها تقف صنّارتهم عاجزة عن أن تصطاد شيئاً.