لعل الشاعرة وكاتبة القصة العراقية مي مظفّر تختصر خوفها، بل رعبها وهي في مكانها بالقول "والأرض غزال/ تتقصى عين الرعب ولا تهرب". إنها الجملة الأخيرة في قصيدة"في أحوال الغربة والتغرّب"من مجموعتها الشعرية الجديدة"من تلك الأرض النائية"المؤسسة العربية للدراسات والنشر - 2007 حيث نعثر على مرات قصيرة كومضات حلم، يتجلى فيها ذعر العناصر مع قصائد الغياب، وتأتي الكلمات والصور والأوزان، شفافة خفيفة، لكنها تترك ما يتركه الرحيل من حزن في النفس، والموت من خوف وشغف بالتذكر، فثمة في قصائد الشاعرة، اشارات غالباً ما تأتي من ناحية الغياب أو الغربة، أي، هنا، وفي التجربة، من ناحية الموتى، وسيّد الموتى، في الديوان، من تهديه الشاعرة ديوانها"الى روح أخي نمير"... ما يجعل أحزان المراثي أحزاناً غير عامة، أعني أحزاناً أكثر ايلاماً، لأنها أحزان خاصة، محسسة، متعينة، مقترنة بأسئلة حول الأمكنة والأشخاص، وباستعادة لحظات منطوية من عيش محدد بشروطه وأشخاصه وتفاصيله. صحيح أن قصائد مي مظفّر سَفَر في الغياب، من خلال محطات صغيرة تسلم لمحطات أخرى، في ما يشبه قطاراً تركب فيه الشاعرة وتنظر من خلال النافذة، الى انطواء الحقول والمنازل والقرى أمام عينيها، وما الذي يبقى إذن، سوى اشارات من الراحلين، واستغاثات للذكرى، وطلب للعودة، من حيث لن يعود الموتى ولن تنفتح القبور عن ساكنيها... لتقوم القيامة. القيامة فقط في القصائد، والعائدون من أقصى البحار، لا يعودون إلا كأشباح وهم: "إنهم يأتون من أقصى البحار وينادونك من عمق المدى يقظ أنت... ولكن مغمض العينين، تصغي لرعود دمّرت من حقلك الفضيّ أغلى ما لديك قمراً سامر ليلاً خلوتك". المقطع هنا كأغنية حزينة تستذكر الغائبين... وربما تخيلتهم عادوا. وهم، في الحقيقة، كقمر مقلوع من خلوة. ذلك أن من رحل قد رحل، وأن الباب أغلق، مرة أخيرة، والى الأبد... تلبس الشاعرة خوفها للأماكن وللعناصر... ما يجعل الأماكن غير ما هي عليه، والعناصر مشحونة بما يفيض عن النفس الشاعرة من ألم. ثمة طائر عَطِش يحوّم حول ماء النهر ولا يشرب.."وعلى الأرض شتاء/ لبست فيه الشجيرات رداءً من وحول"، الأشجار تستنجد، والقطط تمد رؤوسها بريبة وتنسحب... مياه البحر أيضاً تنسحب مذعورة، وعين الشمس تفقأ... هكذا، هكذا، يحدث خراب ما... وتوقف أشياء على هذه الأرض، ويتم خلط بين أشياء، يسوّغه الحزن، وتكاد مخيّلة الشاعرة، تمزج بين ما لا يحدث وما يحدث... "شاهدت طيفك مرّة في شاطئ ناءٍ، على أرضٍ نأت ظلاً تمدّد تحت وهج الشمس عارٍ والفراش يحطّ يعلو ثم يدنو منك من شفتيك قل لي: كنت أحلُمُ أم تراك سريتَ حقاً في المدينة وهي غافلة وحرّاس الحدود تناوموا من بعد ما شهدوا ظلالاً منك تعبر وهي تقرؤهم تحيات المساء...". قراءة مقاطع وقصائد"من تلك الأرض النائية"لمي مظفّر، تسربل الذات بغلالة سوداء شفافة من حزن، ليس صاعقاً وقتّالاً في كل حال، بل هو مُعدٍ، أي أن الشاعرة استطاعت أن تسرّب الينا أحزانها الخاصة، لتغدو وكأنها أحزاننا الخاصة... وذلك من خلال قدرتها على تقديم صورة للرحيل أو الغياب، محمولة على المفارقة، من جهة، وعلى الذاتية من جهة ثانية. ذلك ما يقرّبها من قصائد الشاعر العراقي الراحل يوسف الصائغ، في مراثيه الشفافة لزوجته في ديوان"سيدة التفاحات الأربع"، كما يقرّبها من بعض مناخات الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس الذي كان يذيب في مقاطعه عناصر المفارقة واللطف، ويسربل هذه المقاطع بسريالية عذبة، أي سريالية غير فظّة أو غير قاسية، وهذه السريالية أعني سريالية ريتسوس والصايغ ومي مظفّر قادرة على أن تغمر الآخر كما يغمر الضباب تضاريس الجبال والأشجار والسهول والكائنات. في قصيدة"صورة"لمي مظفّر، تظهر هذه الخصائص: "في الصورة سيدة/ باص أزرق في دكان أزرق الصورة تبعث صورتها: المرأة تحشر كفاً بين حديد الشباك المغلق من بين وجوه مرهقة ووجوه أخرى لم تسحق في زحمة باص من خشب أزرق المرأة تبحث عن مقعد لتجاور شباكاً مغلق"... وهي تظهر أيضاً في قصيدة تليها، تصف فيها حال شاعر يجلس محنيّ الظهر يراقب من خلال الشباك أفقاً يوشك على الغياب. يمدّ الشاعر يده ليلامس أطراف الغيم الوافد من شهر كانون، لكنّ يده لا تستطيع الامساك بشيء. كل شيء تسرّب مثل دخان..."هَجَرَ الغرفة والبستان/ كنا: كتباً/ ورقاً وبقايا شاي في فنجان". لا أستطيع أن أؤكد أو أنفي أن الشاعرة، في هاتين القصيدتين، بخاصة في الثانية منهما، قد قرأت قصيدة ليانيس ريتسوس، يصوّر فيها امرأة في حال انتظار أمام الشبّاك... يذكر ريتسوس وضع المرأة المنتظرة وهي تغزل الصوف على مغزلها، قاعدة أمام نافذة مفتوحة... الزمان يمر، والمغزل يغزل، والمرأة تنظر من خلال النافذة منتظرة قدوم أحد ما... ما هو؟ لا ندري. الصورة التي يقدمها ريتسوس، تستكمل كما يلي، ثم تنفجر فجأة... فالمرأة التي تجلس أمام النافذة، تغزل الصوف وتنظر الى البعيد، تشرب الشاي أيضاً. وتنتهي القصيدة بالجملة التالية: "فجأةً انفتح للمرأة مجرى من الشاي في الجدار". التشابه بين قصيدة ريتسوس وقصيدة مي ملموس... أو قصيدتي ميّ معاً، لجهة الانتظار والنافذة ومرور الزمان، ثم أخيراً، ذكر الشاي في الفنجان. فالتشابه كائن بين العناصر، والسريالية الخفيفة، والمفاجأة... لكن، لا شيء يمنع من التقاء شعراء في مناخات متقاربة أو متشابهة. فالشعر ابتكار، وتجربة حياتية ولغوية، ولكنه أيضاً عدوى، بل أكاد أشبهها بالأوعية المتصلة. ميّ مظفر غنائية في أشعارها. ولعلها حين تختار بعض الأوزان لتكتب على تفعيلتها بعض القصائد، تتوخى ذاك التناسب بين الايقاع في ما هو موسيقى وزمان، والحال في ما هو عليه حال القصيدة. فنواة وزن الرمل تناسب الرحيل والتغرب، وتحمل شحنة ايقاعية من انسياب وحنين. كما ان نواة المحدث تحتمل وصف الأشياء والعناصر، وتتعداها الى وصف الأحوال"أغلقت الباب ورائي/ لم أترك غير الجدران ترافقني... في غرفة بيت مسكون". لكن الشاعرة، أحياناً ما تخلط بين وزنين مثل قولها: "تفرّق شملنا وبقيت وحدك تحرس الشجر المعفر من جنون الموت من رمية صائد". أما في المقطع التالي:"بسلام تنزلين الأرض تمسين بعيداً في ضفاف البحر تحتلين ركناً هادئاً في صخرة محارة أو قلب نجمة". فلا يستقيم الوزن إلا اذا شددنا حاء محارة أي لفظناها"محّارة"بالحاء المشددة لا الحاء المهملة... وهكذا... فإذا وصلنا الى نصوص جزء"ما بين بين"في الديوان، فإننا نقع على نصوص نثرية تبدأها الشاعرة بقولها"شايك جاهز هذا الصباح"، ولعل هذه الصيغة تخدمها في مسألة نثر الذكريات.