"كيد النسا غلب كيد الرجال" مثل شعبي تبدو رواية"كيد النساء"لخيري عبد الجواد - ربما بسبب عنوانها ومفتتحها - محفزة لتأمل ثنائية كيد النساء وكيّ الرجال، ف: "كيد النسا يِشْبِه الكي من مكرهم رحت هارب يتحزموا بالحنش حي ويتعصبوا بالعقارب" وهي مقطوعة من فن الواو تُنسب إلى ابن عروس، افتتح بها خيري روايته التي تُظهر حقاً جانبا من جوانب كيد النساء واكتواء الرجال به. وصحيح أن كثيراً من الدواعي يحفز القارئ على أن يركز على قيمة كيد النساء في رواية خيري عبد الجواد، ومن بين تلك الدواعي العنوان نفسه، وكذلك التداخل النصي العمد الواضح مع بعض حكايات ألف ليلة وليلة، التي تركز على كيد العجائز، لكن هناك من الوعي ما يدفع إلى الإضراب صفحاً عن تلك الثيمة، ووجوب الانتباه إلى ما يصنع الكتّاب من فخاخ تليق بالقراء الأبرياء، وغالباً ما يُنصب الفخ في العنوان على وجه الخصوص. العنوان الذي غالباً ما يضعه الكاتب بعد الانتهاء من عمله، غالباً ما ينطلق من تصور ذهني وقراءة فردية لمجمل العمل وفهم خاص له، وهذا كله لا يُلزمنا - نحن القراء غير الأبرياء - بأي التزام. نحن أحرار تماماً في الدخول إلى النص. بل إن مفتتح الرواية المقتبس من ابن عروس - الذي كان في بعض ما يروى عنه قاطع طريق وتاب، وهو في هذا يقترب من طبيعة إحدى الشخصيات المحورية في الرواية نور - هذا المفتتح يؤكد محورية كيد النساء في الرواية والعالم، لكن هذا الذي يسمى كيداً ويُنظر إليه - مجتمعياً - نظرة تأثيم، يمكن النظر إليه في الرواية بوصفه قيمة تعلي من شأن الأنثى، وتؤكد مركزيتها في العالم الذي ترسمه الرواية، فالكيد هنا ليس سوى ملمح من ملامح فعالية المرأة وقدرتها على التأثير في العالم من حولها، في مقابل رجال يستسلمون للإغواء والكيد والإقصاء وكل ما تمارسه المرأة من فعل. إن كيد النساء إذاً هو التعبير الشعبي عن اقتدار المرأة وعظمتها الحقيقية في مقابل الفخر الكاذب الذي يسم الرجال. وإذا كانت صفة الكيد النسائي وردت عرَضا في القرآن الكريم على لسان شخص واحد في سورة يوسف ومن ثم فإنها تعبر عن وجهة نظر فردية تجاه مجموعة بعينها من النساء، فقد تبنتها الجماعة الذكورية المهيمنة ووسمت بها النساء من دون أن تنتبه إلى ما في باطن تلك الصفة من معنى رجاحة العقل والحكمة الخفية التي قد لا تتوافر إلا للعجائز. الحكاية والتغريب السردي: ينتمي خيري عبد الجواد إلى الحكائين العظام من أمثال نجيب محفوظ وخيري شلبي وإبراهيم أصلان، ويماثله في هذا قليل من الروائيين الجدد أمثال حمدي أبو جليل وصفاء النجار. وينجح خيري في أن يقيم توازناً بين الولع بالحكي والرغبة الجامحة في التجريب وابتكار الشكل. الحكاية داخل الرواية شديدة التشويق والإثارة والبساطة أيضاً، لكنها تقدَّم من خلال تقنية"التغريب السردي"أو"تعرية أسلوب السرد"، وهي تقنية تحتاج إلى براعة فائقة - لا تُعوز خيري - حتى لا تفلت خيوط العمل من بين يدي الكاتب. تعتمد تقنية التغريب السردي هنا على الاستحضار العمد لكل أطراف نظرية التواصل، فالكاتب هنا يظهر داخل الرواية نفسها باسمه المدوّن على غلافها، وهو هنا شخصية تتعدد أدوارها لكن الأهم من بينها الشهادة على أحداث الرواية والتماهي الكامل مع الراوي. ويبدو من خلال تقنية التغريب السردي الحضور الطاغي للشفرات الجامعة بين الكاتب والقارئ حيث يكشف الكاتب عن ما يقوم به من عمليات إبداع تتشكل أمام عيني القارئ، بل يتم تخصيص فصول كاملة للكشف عن كيفيات تشكل خيوط السرد بين يدي الراوي الذي نعرفه نحن القراء من خلال اسمه ككاتب، ومن خلال وجوده الحي بين شخوص الرواية. لكن الراوي لا يعتمد على تلك الأساليب المعتادة في التغريب السردي فحسب، بل يلجأ إلى وسيلة بلاغية أكثر رهافة"حيث يتبنى أساليب لغوية وبلاغية تنتمي بطبيعتها إلى الحكايات الشعبية وإلى حكايات ألف ليلة وليلة، ليؤكد للقارئ أننا أمام نص تخييلي على الرغم من كل العناصر الواقعية الواردة فيه. ومن تلك الوسائل طريقته التقليدية في اختتام الرواية: "أما نصر وصفاء فعاشا عمراً مديداً أنجبا خلاله أربعة أولاد وثلاث بنات، وكانت له مثال الزوجة الصالحة حتى أتاهما هادم اللذات ومفرق الجماعات، فسبحان الحي الذي لا يموت، صاحب الملك والملكوت"ص 152. كذلك يتم استخدام التعبيرات السائدة في ألف ليلة وليلة، والاعتماد على طريقتها الأثيرة في تداخل الحكايات، واستثارة الرواية فضول المتلقين لأن يقصوا حكاياتهم. إن الكاتب يعي أن ما لديه من إرث حكائي شعبي عربي، خصوصاً في ألف ليلة وليلة والسير الشعبية وسير المتصوفة - لا تنقضي عجائبه، ومن ثم يمتح من ذلك الإرث ما شاء ما دام يراه قابلا للاندماج في نسيج السرد. ويرصد النص الوعي الشعبي وما يحفل به من اهتمام بالغيبيات والعجائبي من الأحداث، ومن ثم يقدّم ذلك الوعي من دون أن يحكم عليه بالقيمة، بل يتعاطف مع الشخصيات ومواقفها تاركا الحكم للقارئ. ويظهر حرص الكاتب على انتماء الرواية إلى النص العجائبي حين يجعل من الراوي/ المؤلف شاهداً على بعض الأحداث العجائبية"كرؤيته جسد نور المسجى في القبر منذ عشرين سنة وكأنه مات لتوه، بل يعتمد الراوي على تقنية التغريب السردي فيفرد فصلاً من فصول الرواية لتأكيد أن ما هو خارق إنما هو ظاهرة لا تقبل التكذيب. نص أم نصوص؟ تتعدد الطبقات النصية داخل الرواية، وهو ما يحدث تنوعاً في الأصوات والإيقاع، ويقوم الكاتب بهذا مجترئاً على التقاليد الأدبية حتى إننا لنجد نصاً شعبياً شعرياً مطولاً يحكي حكاية السيد أحمد البدوي مع خضرة الشريفة التي أسرها الكفار واستعادها معتمداً على دراويشه ومريديه وربما يبرر وجود ذلك النص أنه جاء في منام بديعة التي تحلم بأن تتماهى مع نموذج أنثوي مبتغى يحظى برعاية البدوي الذي قد يعادل موضوعياً حبيبها نور، وإن كان النص مبالغا في طوله قياسا إلى حجم الرواية، كما نجد استحضاراً مباشراً لكرامات الحلاج حين نسبها إلى شخصية"نور"الذي رسم مركبا وهو في سجنه وجعل من في السجن يركبون فيه، كما نجد حضورا قويا لكتب الأحلام وخصوصاً حين أفرد الراوي فصلا لمنامات"نور". وعلى رغم أن الراوي يوهمنا بأنه واحد، فإن الأصوات تتعدد"حيث نجد الراوي أحيانا شاهدا أو نجده ناقلا لحكايات عن غيره، كما نجده أحيانا راويا عليما. كذلك قد يستعير الراوي صوت الشخصية، فنجده يحكي بطريقة الأطفال ولغتهم حين يحكي من الذاكرة ما عاشه وهو طفل، وهذا النوع من الرواة أسميه"الراوي الممسوس بالشخصية"، وهو اصطلاح أظنه يحتاج إلى فضل تأمل وتدقيق. ومن الطبقات النصية كذلك بعض الأجزاء الواردة في رواية سابقة للكاتب نفسه، وكذلك نصوص السحر والتمائم، بل إن بعض أجزاء الرواية يستلهم على نحو مباشر بعض ثيمات ألف ليلة وليلة حين رأينا شاباً يُسخَط قرداً ويدخل على امرأة فتصك وجهها وتلوم من رافقه لغفلته، وكذلك إنجاب امرأة قرداً لأن عشيقها كان على هيئة القرد حين نام معها. الحكاية والبناء تحكي الرواية عن تداخل مصائر شخصيات عدة تنتمي إلى جيلين، يدخل آخرها القرن الجديد بلا هوية، ولا تنفصل تلك المصائر عن مصير المكان الذي تدور فيه الأحداث، وهو حي بولاق الدكرور الذي كان منطقة ريفية تتاخم العاصمة وتحول إلى منطقة عشوائية ليس ثمة شيء أصيل مؤسساً على قيمة حقيقية يهبها هويتها. قسّم الروائي روايته إلى أربعة أقسام، وهو ما قد يؤوله البعض بالأقطاب الأربعة أو الجهات الأربعة أو العناصر الأربعة، وكلها احتمالات تحتاج إلى قرائن أخرى لتوكيدها، لكن المهم هنا أن نحاول أن نكتشف أهم الملامح المميزة لكل قسم، وهو ما يعطي مشروعية للتقسيم. والمتابع لإبداع خيري منذ بداياته مع مجموعته القصصية غير العادية"حكايات الديب رماح"يعرف أن علاقته بالتراث تقوم على أسس يحكمها الوعي والتقدير والانتماء، فهو مفتون بالتراث لكن تلك الفتنة لا تصل به إلى حد الاستلاب، فهو - من قبل ومن بعد - باحث أيضاً وذو بصيرة تقيه الزلل. والمتابع لأعماله أيضاً يعلم - وكما يصرح هو نفسه في روايته - يكتب عن ما يعرف: عن قريته كوم الضبع حيث أصوله وعن بولاق الدكرور حيث تربى وترعرع، وعن الشخوص التي عرفها عن قرب: الذات والأهل والجيران، وكما يقول في الرواية: "أكتب عن نفسي في كل ما كتبت، ليس حبّا فيها إنما نفسي هي الوحيدة التي أعرفها وعشت معها وخبرتها في كل أحوالها"ص 15. تتداخل مصائر أسرة حفني وإخوته مع آخرين، ومن خلال ذلك نرى صورة تفسخ مجتمع من خلال مجموعة هامشية تنتمي إليه. بديعة أخت حفني - وهي أكثر الشخصيات حضوراً في الرواية وبها تفتتح الرواية - بديعة تحب البلطجي الوسيم"نور"، وتحتال باستخدام السحر للزواج منه، وتنجح في إخراجه من السجن والزواج منه، ولا يلبث نور أن يتوب ويعمل ويسير سيرة حسنة إلى أن يموت تاركا كراسة كتب فيها منامات تنبأ فيه بموته، وبعد سنوات تذكر بديعة أنها رأت منامات يطالب فيها نور بأن ينقل من مدفنه ويقام له ضريح، وتنجح بديعة مرة أخرى في تحقيق أحلامها. وتتكرر تجربة بديعة مع ابنتها فتحية التي تخرجت من مدرسة التمريض، وأحبت رمضان الموظف في وزارة الزراعة، فتزوجته معتمدة على معرفتها بالسحر. أما الأخ الأكبر حفني الذي يعمل نقاشا فإنه يتعشق فاتنة تدعى صفاء. ولم يكن كفئًا لها، لكنه يتزوجها، ولا تلبث صفية أن تخونه مع محمد عبدون سواق النقل مفتول العضلات وزوج صَدِّيقة أخت حفني وبديعة، وتكتشف صَدِّيقة دليلاً على تلك العلاقة الآثمة وهو شريط سجله محمد عبدون للحظة عشق جمعته مع صفاء من دون علمها، وكانت فضيحة مدوية. صفية لم تخذل صدّيقة في الزوج فقط، بل في الابن كذلك"فقد جمعتها علاقة آثمة بنصر ابن صَدِّيقة وتاجر البانجو، ثم تزوجته. ويبقى من أفراد أسرة حفني أخته محاسن التي عاشت عانساً. تنتهي الرواية بتأكيد أن البشر آفتهم النسيان، حيث نقل رفات بديعة إلى جانب زوجها وصارت وليَّة وشهيدة عشق زوجها الولي الصالح،"وابنتها فتحية التي قاربت الستين ذهبت إلى الحج وعادت لتقيم طوال الوقت بجانب أبيها وأمها مرتدية جلابية بيضاء والمسبحة لا تغادر أصابعها، وانحفرت فوق جبينها علامة داكنة من أثر السجود"أما رمضان زوجها ففوض أمره إلى الله معتبراً زوجته ماتت، فعكف على تربية عياله بهمّة لا تعرف الكلل"محاسن أصابها الخرف بعد أن تخطت الثمانين فأخذت تهذي في آخر أيامها، وتنادي على كل الميتين حتى لحقت بهم... ولم تمر سنة حتى لحقت صدِّيقة بأختها من أثر إصابتها بداء السل"أما نصر وصفاء فعاشا عمراً مديداً أنجبا خلاله أربعة أولاد وثلاث بنات، وكانت له مثال الزوجة الصالحة حتى أتاهما هادم اللذات ومفرق الجماعات، فسبحان الحي الذي لا يموت، صاحب الملك والملكوت"ص 151- 152. حرص الكاتب على حكاية تلك الحكاية معتمدا على تقسيم الرواية إلى أربعة أقسام، مع الحرص على تحقيق بعض التوازنات المهمة في السرد على نحو يحفظ تناسق العمل وجماله"فقد احتوى كل قسم على جانب من الحكاية وبعض الشخصيات"فالقسم الأول يركز على بديعة ونور، والثاني يركز على فتحية وصديقة، والثالث على محمد عبدون، والأخير على حفني وعلاقة صفاء بنصر، وإقامة مقام نور. كذلك احتوى كل قسم على جزء نصي غير سردي"ففي القسم الأول نجد كراسة تحتوى على منامين لنور كتبهما بخطه، وفي الثاني نجد نص حجاب لتسخير وجلب محبة رمضان لفتحية، وفي الثالث نجد نصا من"التوهمات"للمؤلف، وفي الرابع نص قصة السيد البدوي مع خضرة الشريفة الأسيرة. يتحقق توازن آخر من خلال حضور المؤلف نفسه باسمه وشخصه داخل كل قسم من أقسام الرواية بلا استثناء"فقد ظهر بوضوح في الفصل 2 بالقسم الأول، وفي"حرب السحرة"بالقسم الثاني، وفي الفصلين 5، 6 بالقسم الثالث، ثم بدءا من الفصل 6 من القسم الرابع حتى نهاية الرواية. ووصل حضور المؤلف راوياً داخل الرواية إلى حد رصد مصادره المعرفية خصوصا ما يرتبط بالواقعية السحرية من نصوص شعبية وصوفية، بل قدّم رؤيته لشخوص الرواية وأسباب رصد علاقاتها، حين يقول: "أدركت أن حقبة كاملة كانت ولّت والى الأبد، وأن هذا الجيل كله يوشك أن يستسلم لموته مع من مات: نور الذي يريد أن يصبح وليّاً من دون جدوى، أم حفني التي أضحت أسطورة موتها المتكرر تروى جيلا بعد جيل، حفني الذي ناضل نضالا معجزا مع مرضه، محمد عبدون الذي ترك بصماته على جسد صفاء ومضى، وحتى أمي التي كانت في وقت من الأوقات جزءاً من هذه الأحداث. أما من بقي منهم، فقد دخل القرن الجديد بلا هوية. ومحاسن توحّدت بعنوستها وبدأ ماء الحياة يجف في بدنها فتذوى بلا أمل في النجاة من مصيرها المحتوم"صفاء.. تزوجت نصر ابن صدِّيقة، وصديقة التي أحست أن زواج ابنها الكبير ... مصيبة وحطّت على رأسها، أما بديعة، فقد دخلت في شرنقتها الخاصة وتوحدت مع نفسها"ص 134. * كاتب مصري.