«هل أتاك حديثي؟» هي الرواية الرابعة للكاتبة السعودية زينب حفني، بعد «ملامح»، و «سيقان ملتوية»، و «وسادة لحبّك» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر). هذا العنوان/ السؤال يشكّل مفتاحاً مناسباً للدخول في الرواية، فضمير المخاطب المذكر «الكاف» في «أتاك» يبيّن أن المخاطب هو الرجل، وضمير المتكلم «الياء» في حديثي يبيّن أن المتكلم هو المرأة/ الكاتبة. وبالإيغال في القراءة يتبيّن لنا أن الرواية مجموعة حكايات لنساء وقع عليهن ظلم الرجل والمؤسسة الاجتماعية والقدر، ولم يبقَ لهن سوى الحديث/ الرواية، الأمر الذي تقوم به زينب حفني بالوكالة عن غيرها، وبالأصالة عن نفسها. تجري أحداث الرواية بين القاهرة وجدّة ولندن، أي في مكان روائي مديني من دون أن يعني ذلك مدينية جميع الأحداث، فبعضها يتحدّر من أنماط ما قبل مدينية. وتحدث، في شقّها الوقائعي، في مدة سنة تبدأ من انطلاق التظاهرات في ميدان التحرير. وتعود، في شق الذكريات، لسنوات طويلة خلت ترتبط بطفولة بعض الشخصيات. على أن علاقة تكامل تقوم بين الذكريات والوقائع، بين الماضي البعيد والقريب، فما تعيشه الشخصيات، خلال سنة هي زمن الوقائع، هو نتيجة لسنوات هي زمن الذكريات. مع العلم أن بعض الوقائع سيشكّل نقاط تحوّل عن السياق ليضع نهايات مختلفة. تقول زينب حفني حكايات المرأة العربية، مصرية كانت أو سعودية، من خلال حكايتين اثنتين هما الأطول في الرواية؛ حكاية فائزة راوية الأحداث، وحكاية صفاء ابنة خالتها، ومن خلال حكايات أخرى، متوسطة أو قصيرة، كحكايات فاطمة والخادمة شريفة والطبيبة النفسية والمرأة المسنّة. وفي جميع هذه الحكايات، تبدو المرأة في موقع الضحية، يقع عليها الظلم من الرجل، أو الهيئة الاجتماعية، أو القانون، أو الأعراف والعادات والتقاليد، أو القدر. على أن المرأة قد تكون شريكة في الظلم، والرجل قد يكون هو الضحية. وبالتالي، فإن معيار التمييز بين الجلاد والضحية، بين الظالم والمظلوم، ليس معياراً جنسيّاً، بل معيار عقلية ذكورية موجودة عند الجنسين. تعهد زينب حفني إلى فائزة، إحدى شخصياتها، رواية الأحداث، فتحكي حكايتها هي، وحكاية صفاء ابنة خالتها، وحكاية فاطمة صديقتها، وحكاية تهاني أختها، وحكاية شريفة الخادمة، وحكاية الطبيبة النفسية، وحكاية المراة المسنّة... وهي تفعل ذلك من موقع المشارَكة في الأحداث والانخراط فيها، أو من موقع الشهادة عليها والعلم بها. وهنا، تمارس تقنية الراوي العليم متضمَّنة في إطار الراوي المشارك. والحكايات المروية تتفاوت في طولها وقصرها، وتتفق في أن المروية حكاياتهن جميعهن ضحايا، في شكل أو في آخر، مع اختلاف في درجة الظلم الواقع على هذه الضحية أو تلك، وفي الجهة الظالمة. فائزة الراوية المتحدّرة من أسرة موسرة تعاني تعدّد علاقات زوجها النسائية، واقترانه بأخرى غيرها. وحين تضعه أمام الاختيار بينهما يختار الأخرى. تحسّ بعدم دعم ولديها الشابّين لها، يعتمل في داخلها شعور بالعجز عن الفعل والتأثير: «شعرت أنني صرت مثل رمال الشط الناعمة، يلعب معها البحر لعبة المد والجزر وهي صاغرة لا تقاوم طيشه» (ص 73)، تتردّى في مشاعر الوحدة والخديعة، يقتصر اتصالها بالعالم الخارجي على مجموعة قريبات وصديقات. وصفاء، ابنة خالة فائزة، تعاني الجمال الصاخب والحظ العاثر، تبدو ضحيّة الأب والزوج والقدر؛ أبوها يقرر تزويجها ببن أخيه حفظاً لإرث العائلة، فتمتثل لقراره حتى إذا ما اكتشفت مثليّته لاذت بالطلاق تحمل صدمتها. وحين تتزوج ثانية رجلاً يكبرها بعشرين عاماً تكتشف مرضه وعجزه عن الإنجاب يتدخل القدر ليريحها منه، حتى إذا ما التقت صدفة برأفت، وعثرت فيه على حب عمرها، يتدخّل القدر، هذه المرّة، ليحرمها منه بالموت. وهكذا، يذوي جمالها الصاخب على الأيام، وتطوي النفس على جراح لا تندمل. - وتهاني، أخت فائزة، كانت دائماً قوية، متماسكة، تعرف ما تريد، تتعاطى مع أختها ببرودة، تقترن بسفير هو كل حياتها حتى إذا ما أصيب بجلطة دماغية وشلل نصفي تحس بالانكسار، وتتحوّل إلى شخصية أخرى، فتعود الأخوّة بينها وبين أختها على أرضية الاحتياج والوجع. على أن الضحية التي تُمارَس عليها أقسى درجات الظلم، من جهات عدة، هي فاطمة صديقة فائزة؛ هي ضحية الأخ، والأعراف، والقانون، والقدر، والفوضى، ونزيلات السجن الضحايا... تتزوج فاطمة بشيعي، يرفض الأخ الزواج، يُبطل القاضي الزواج، ترفض فاطمة التنفيذ، فيزجّ بها في السجن فتذبل حتى الموت، بعد أن تخلى عنها العالم الخارجي، وتألّبت عليها قسوة الأخ، وعنصرية القاضي، وفوضى السجن، وسخرية القدر. إلى ذلك، ثمة في النص ضحايا أخريات تمرّ حكاياتهن مروراً عابراً؛ فالخادمة شريفة يُغرّر بها أحدهم فتحمل منه، وحين يرفض الاعتراف بفعلته وتحمّل المسؤولية، تنتحر. والطبيبة النفسية يُعرض عنها زوجها بعد إجرائها جراحة لاستئصال الثدي. والمرأة المسنّة يتخلى عنها وحيدها ليتزوج بأسترالية، ويهاجر معها. في نهاية الرواية، يتدخّل العامّ ليشكّل خشبة خلاص من الخاص وتداعياته؛ فحين تشاهد صفاء ما يجري في ميدان التحرير، تقرر الانخراط في مساعدة الآخرين، فتعرف سلامها الداخلي. وتقرر فائزة وضع يدها بيد جعفر والاستعانة بصديقاتها للدفاع عن قضية فاطمة وحقها في الاختيار والحياة، بمعزل عن الحواجز الطائفية والأسرية والعادات والتقاليد، فتدرك أن الأحلام يمكن أن تتحقق، وأن القدر يمكن أن يستجيب. هكذا، تقول زينب حفني روائيّاً إن الانخراط في القضايا العامة النبيلة خير علاج لجراحات النفوس، وإن المشاركة في حركة الواقع تشفي من وجع الذكريات. لكن ثمة مفارقة تتعلق بصفاء حين تجمع بين خيارين متضادّين، تنخرط في حركة الواقع ومساعدة الآخرين من جهة، وتعكف على اهتماماتها الصوفية من جهة ثانية. هذه الحكايات/ الحديث تقولها زينب حفني، على مدى تسع عشرة وحدة سردية، تُسند رويها إلى راوية واحدة، تجمع بين وظيفة الراوي المشارك والراوي العليم، حين تروي ما خبرته وشاركت فيه، وما تناهى إليها وعلمت به. والعلاقة بين الوحدات السردية تجمع بين التسلسل والتداخل، بين التكامل والاستقلال النسبي. فثمة وحدات لاحقة تتناول أحداثاً سابقة ما يجعل خط السرد متكسّراً لا سيما في بدايات الوحدات السردية. وثمة وحدات يمكن انتزاعها من النص لتشكّل قصصاً قصيرة مستوفية الشروط. أما العلاقة بين حركة السرد وحركة الأحداث فليست علاقة طردية دائماً، وقد تكون عكسية أحياناً، فتقدّم السرد إلى الأمام قد يعني عودة إلى الوراء في تناول أحداث لم يسبق تناولها. وهنا، تمارس الكاتبة حقها في حرية التحرك بين الأزمنة والأحداث هي من الضرورة بمكان، ومن مقتضيات اللعبة الفنية الروائية، وما تستدعيه من تقديم، وتأخير، وتداعٍ، وتذكّر، وحذف، وإضافة، وإجمال، وتفصيل... في لغة السرد، تستخدم زينب حفني لغة سردية سلسة، تُؤثر الجمل المتوسطة والقصيرة، تُغلّب الجمل الفعلية على الاسمية، تقطع التقرير بالاستفهام، تُنوّع بين الخبر والإنشاء، تُقلّ من أدوات الربط وحروف العطف، فيتدفّق النص كموجات متعاقبة، ما يجعل منه نصّاً حركيّاً، حيّاً، يأخذ بأنفاس القارئ من أوّل الرواية حتى آخرها. لعل هذه المواصفات وسواها هي ما يجعل من «حديث» زينب حفني حديثاً ممتعاً يطرح موضوعاً مفيداً، فلا تملك إلّا أن تُصغي له حين يأتيك.