تنشغل الأوساط اللبنانية في تبيان ما إذا كان الصراع السياسي الجاري حالياً يهدف إلى تغيير في المعادلة الميثاقية القائمة بين الطوائف والمذاهب أم أن الأمور تقف عند حدود الصراع على السلطة بهدف تحديد موقع لبنان في المواجهة الإقليمية في وقت لا يمكن تفسير ما يجري، برأي كثير من اللبنانيين وبرأي معظم الجهات الدولية، إلا لناحية كونه صراع تحرر لبنان من دائرة السيطرة الإقليمية وممانعة استعماله في صدام دولي إقليمي يريد أن يبقي القوى والأراضي اللبنانية مسرحاً للحروب والنزاعات الخارجية، خاصة وأن التطورات الداخلية من جهة، والإقليمية المرافقة لمؤتمر أنابوليس من جهة أخرى، عجّلت في فرز القوى والأحلاف في المنطقة بشكل بات يبيح التساؤل عما إذا كان هناك عملية"شرعنة"أو"قوننة"ميثاقية لتكريس حضور قوى الرفض في لحظة تستبق جولة النزاع القادمة على المنطقة أكانت بشكل تسوية أم صراع مفتوح.! لا تتلخص الأسباب التي تصب في خانة التخطيط لإعادة تركيب الصيغة في لبنان بما يقوله ويبوح به بعض أقطاب المعارضة أو بما يسره هؤلاء في حديثهم أمام المرجعيات العربية وقادة الدول من أن المعادلة الحالية لا تصلح لحكم لبنان، وأن اللبنانيين غير قادرين على إدارة شؤونهم بأنفسهم وذلك بسبب الطائف الذي لا يعبر تعبيراً صادقاً عن حجم القوى، بل تتجاوز ذلك إلى حقيقة أن هناك دواعياً"موضوعية"تنزع وتدفع باتجاه تغيير المعادلة معادلة الطائف طبقاً وتعبيراً عن تجسيد النفوذ الإقليمي وترجمته في النظام السياسي وتحقيقاً لما يمكن أن ندعوه"أقلمة"لبنان على حساب كيانيته وعروبته وعلاقاته الدولية. فالنظام الإقليمي الحاضر أساساً في لبنان بشكل ميداني ينتصر على النظام الدولي"وفقاً لقراءته"بعدما أجهض تطبيق القرارات الدولية ورسخ حضوره بالساحة المسيحية وانتصر على إسرائيل في حرب تموز واستطاع تعطيل ماكينة الدولة في لبنان. إن العناصر التي تدل على ذلك هي مزيج من جنوح شيعي لتجسيد التحولات الديمغرافية وعناصر القوة الإقليمية التي تدعمها إيران في المنطقة من جهة ونزوع القوى المسيحية المتحالفة مع سورية في إعادة التوازنات لصالحها تحت شعار استعادة الصلاحيات التي كانت تتمتع بها الرئاسة قبل الطائف وإزالة التهميش الذي طبع مرحلة الوصاية حتى خروجها في العام 2005 . في دائرة التأثير التي تدفع في هذا الاتجاه تهدف سورية إلى إظهار استحالة القدرة عند اللبنانيين بحكم أنفسهم وذلك على قاعدة أن النفوذ السوري مطلوب دائماً للسيطرة على الاستقرار وتطبيق المواثيق بين اللبنانيين وهذا ما درج على ترداده المسؤولون السوريون، وهو ما يحفظ لسورية دوراً دائماً تستعيض من خلاله عن غيابها العسكري المباشر ثم تؤسس وتُحضّر لاستدعائها من جديد فيما إذا تطلبت الأمور ذلك أو إذا ما تم إبرام صفقة جديدة مع الأميركيين على قاعدة الحاجة الإسرائيلية لجهة قوية تمسك بالأوضاع على الأرض و"تضبط"سلاح حزب الله إذا استحال نزعه. إذاً لسورية مصلحة في إظهار عجز الطائف عن التطبيق إلا في حدود دعم آلة الضغط والقيادة السورية. وتهدف إيران إلى تأمين حضور أكبر للطائفة الشيعية في النظام السياسي اللبناني وذلك من وحي ما عبر عنه مرشد الثورة خامنئي بعد حرب تموز عندما اعتبر أن"الشيعة في لبنان يجب أن يكون لهم مواقع أفضل في المعادلة السياسية"، ومن ثم الكلام الإيراني الفرنسي عن المثالثة ثم كلام السيد حسن نصر الله بتصريحه مع سعد الدين ابراهيم من أن أجندة حزب الله واضحة ومحددة:"تحرير الجنوب اللبناني ورفع الظلم عن أبناء الطائفة الشيعية في لبنان". فهو يعيد إنتاج الشعارات التي تستثير العواطف لدى الشيعة وينقلهم من مرتبة المحرومين إلى المظلومين من النظام السياسي.! لقد وضع السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير اللبنانيين أمام خيارين إما خيار الشرق الأوسط الأميركي الشبيه بحالة أفغانستان والعراق أو الشرق الأوسط الإسلامي بحضور الثلث المعطل في الحكومة واستبدال اتفاق الطائف بتسوية تترجم انتصار حزب الله في تموز إلى معطى سياسي داخلي يفرض نفسه على الصيغة الميثاقية فتقوم سلطة تنفيذية تعكس حجم الكتل التمثيلية للسلطة التشريعية ويتم حسم كل المسائل خارج إطار المؤسسات لكي تُترجم إذ ذاك عملية منسّقة لنسف الدولة والصيغة والديمقراطية التي ميزت النظام اللبناني حتى في أوج أزماته السياسية. لقد كانت"فلسفة"التحالف الرباعي، بحسب ما يقول حزب الله، تُختصر بضرورة الاتفاق على كل شيء قبل الدخول إلى البرلمان أو إلى مجلس الوزراء وذلك كان بمثابة تعبير عن استحالة تعايش هذا الحزب مع أي صيغة تُقيّد حركته وتمنعه من تحقيق التزاماته الإقليمية. أضف إلى ذلك الكلام الذي اعتبر فيه أن"من علامات لبنان غير الأميركي أن يتمتع بحضور دائم لسلاح المقاومة وثقافة المقاومة"! تبدي الجهات المتعاطفة مع الحركة السورية الإيرانية في المنطقة تعاطفاً مع مطلب المعارضة اللبنانية بضرورة المشاركة وتوافقها رأيها في أن المشاركة لا تتأمن إلا من خلال ما دُرج على تسميته الثلث المعطل، لقد آثرت المعارضة اللبنانية التركيز على شعارات كبيرة بالمعنى السياسي كالمشاركة والاستئثار وغير ذلك مما يرفع من وتيرة الصراع السياسي لينقله بحكم طبيعة هذه الشعارات إلى مستوى ميثاقي يتعلّق بضرورة تغيير الصيغة واللافت أن من يطلب المشاركة السياسية يحوز لنفسه على مجمل الامتياز الأمني والعسكري في البلاد وتُعد جيوشه من أفضل الجيوش الإقليمية في المنطقة.! ثم هناك رفض مضمر للطائف استمر منذ نشأته واستفحل عند لحظة الانسحاب الإسرائيلي وذلك لأن مضمون الطائف لا يختلف عن مضمون أي قرار دولي يتعلق بلبنان فهو يطالب بحل الميليشيات ودمج سلاحها بالدولة وبسط سيادة الحكومة على كل الأراضي اللبنانية وهذا ما لا يتوافق مع"شرعية"سلاح حزب الله ذات الدور الإقليمي ولأن الطائف يُحدد حدود الأراضي اللبنانية ب"المعترف بها دولياً"، فحتى احتلال إسرائيل لشبعا بحسب الطائف"إذا ما تم تثبيت لبنانيتها في محافل الشرعية الدولية"لا تبيح وجود أي ميليشيا أو مقاومة. لقد تحولت قوى 8 آذار من معارضة سياسية داخلية إلى تحالف أقليات"إقليمية"تستمد من تكوّر الشيعة حول حزب الله قوتها على الأرض وتأخذ من تحلِق جزء من المسيحيين حول ميشال عون مشروعية لقلب اتفاق الطائف. بعد تحالفه مع حزب الله تحوّل ميشال عون من حالة علمانية في الوسط المسيحي إلى حالة تدفع لتعديل صيغة التعاقد الميثاقي مع المسلمين وهذا ما عبرت عنه وثيقة الطروحات المسيحية التي تدعو إلى"توضيح"صلاحيات رئاسة الجمهورية وتختصر الأخطار الديمغرافية المحدقة بالمسيحيين بمسألتين: التوطين و"المديونية"وذلك من ضمن توجه عام يؤشر إلى المخاطر المتأتية من أداء الطائفة السنية فقط.! تقف صيغة الطائف أمام استحقاقات مصيرية داهمة ويبدو أن عليها الصمود في مواجهة معارضة تتعطش لأدلجة الصراع وأقلمته، فيما تبرز عدة أسئلة من الصعب الإجابة عليها فهل من السهل إعادة البحث بالصيغة من دون المرور بجولة جديدة من العنف أو من دون أن تعمل كل واحدة من الطوائف على عرض ما لديها من عناصر قوة؟ وأمام"ترسانة"المؤسسة الشيعية وصحوتها بشكل عام من جهة وأمام الأكثرية السنية في المنطقة من جهة ثانية ما الذي تستطيع المؤسسة المسيحية تقديمه؟ * كاتب لبناني.