أطاح الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 الوجود السياسي والعسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية. انتهى بهذا الحدث السياقُ الحقيقي للحرب اللبنانية، وبات اللبنانيون عراةً أمام أنفسهم يتناتشون بصبيانية أمور بلدهم. واليوم يكتشفُ اللبنانيون أن الطائف كان آليةً سورية لحكم البلد، وأن الانسحاب السوري «النسبيّ» سحب من الطائف سرّ مفاعيله. ويكتشفون أن الطائفَ خلطةٌ معقّدة لا تُدركها قدراتهم وإمكاناتهم. يتمسك البعضُ منهم بالطائف إيماناً ساذجاً بأنه وصفة السلم السحرية التي ختمت احترابهم. لكن إذا كان كذلك، فهو أنهى احتراب المسلمين والمسيحيين، لكنه أسس وصفةً لاحتراب المسلمين، سُنّة وشيعة، في ما بينهم. يكره المسيحيون، بمختلف تياراتهم، الطائف وذكراه. وإذا ما كان مسيحيو 14 آذار يناورون في التعامل معه ويلمّحون إلى ضرورات إصلاحه (خصوصاً ما تعلق بصلاحياتهم في الحكم ابتداء من رئاسة الجمهورية)، فإن مسيحيي 8 آذار بقيادة ميشال عون يشيّدون خطابهم السياسي على أساس الاعتراض عليه واعتباره ذكرى سوداء في تاريخ لبنان. يدعو الشيعة بقيادة حزب الله إلى مؤتمر تأسيسي يطيح (في النهاية) كل الدستور، بما فيه تعديلات الطائف، لصالح تقاسم جديد للسلطة. وينبري السُنّة، بقيادة تيار المستقبل، مدافعين عن الطائف متمسكين بحروفه، لأسباب يتعلّق جُلها بالصراع مع حزب الله. ما يعيشه لبنان منذ اغتيال الرئيس الحريري وانسحاب القوات السورية، يعكسُ فشلَ الطائف في ضمانِ تعايش واستقرار اللبنانيين. وقد لا يكون الاتفاقُ بعينه مسؤولاً مباشراً بالنصّ، عن هذا الفشل، إلا أن ارتباط اللبنانيين بالقوى الإقليمية والدولية يسحبُ القرار الحقيقي منهم، وبالتالي يُفقد النصوصَ مضامينها. وبمعزل عن مدى مسؤولية الطوائف، فالفتنةَ الشيعية السُنّية في المنطقة، والمنسحبة آلياً على لبنان، أضحت تتحكمُ برقاب كل اللبنانيين (مسلمين ومسيحيين) وإلى أجلٍ غير مسمى. انتزع الطائف الحكم من المسيحيين وأوكله للسُنّة والشيعة. وجد المسلمون أنفسهم يتولون رعاية بلدٍ قلّما اعترفوا بكينونته، ولطالما عملوا على ربطه بمزاج الخارج مستخفين باستقلاله وسيادته. أفلتت الفكرة اللبنانية كما تخيّلها المسيحيون (منذ ميشال شيحا) من يد المسيحيين، وهبطت، بين ليلة وضحاها، في حضن المسلمين الذين لم يدركوا يوماً تعريفاً يرضيهم عن لبنان ونهائيته. لقد تمكّن رفيق الحريري من جرّ السُنّة إلى الفكرة اللبنانية الأصيلة، إلى أن استسلموا لها بعد اغتياله، فتحوّلوا مدافعين عن «الأولوية» اللبنانية. لم يحصل ذلك مع الشيعة، وهم الذين التصقوا، بقيادة حركة أمل وبعد ذلك حزب الله، بمزاجي دمشق ثم طهران ثم الاثنتين معاً. بدا المشهد الحالي تصارعاً سُنّياً شيعياً على هوية البلد وخياراته. تحوّل المسيحيون، للمفارقة، إلى متفرجين على العراك يناصرون هذا أو ذاك من المتعاركين. لا يتحمّل لبنان، ذو ال 18 طائفة، فتنة السُنّة والشيعة التي تمتد إلى أكثر من 1400 عام. ولا تستطيع تلك الفتنة أن تصل إلى اتفاق يحدد هوية لبنان ومستقبله. ولا يستطيع الخلاف السُنّي الشيعي، الذي لا شيء يمنع من استمراره 1400 عام آخر، من إحداث استثناء وفاقيّ في الحالة اللبنانية. المحصّلة، أن المسلمين عاجزون عن إدارة البلد وتأمين استقراره، ليس بسبب من افتقار لكفاءة أو موهبة، بل لعلّة الخلاف التاريخي التي ما برحت تفتك بالمنطقة تاريخاً وجغرافيا. من الخطأ التعويل على انتهاء المأساة السورية لإعادة الاستقرار إلى لبنان. فأياً تكن نتائج الصراع وميزان قواه، فإن السُنّة والشيعة سيشعرون بالنصر أو الهزيمة كلٌ بحسبَ ما سيستنتجُه من نتيجة النزال. وعليه فإن البلدَ أضحى محكوماً بفكرة الصراع العائدة إلى صفّين والحدث الكربلائي، ما سيطيح بأي غد أفضل للبنان. أما وقد أضحى الطائف عبئاً معلناً أو مضمراً، وفشل نظام الحكم في تجديد نُخَبه (بمسلسل التمديدات سابقاً) أو حتى الاتفاق على آليات التجديد (كقانون انتخابات جديد راهناً)، وأدخل الخلاف السُنّي الشيعي البلد في أتون دائم لا أفق له، فإن العودة إلى ما قبل الطائف، أي إعادة أرجحية الحكم للمسيحيين، قد تكون الحلّ الأمثل للبنان بمسلميه ومسيحيه كما لسُنّته وشيعته. ومع كل العلم أن المسألة ليست سياقاً سهلاً كما قد توحي بها هذه السطور، فالأمر يستدعي تأملاً حقيقياً وشجاعة استثنائية للاعتراف بواقع الحال والانتقال إلى واقع حال آخر. لقد أثبت المسيحيون منذ تأسيس الكيان تمسّكهم بلبنان فكرة حضارية مختلفة في المنطقة. واتخذوا لذلك خيارات في السياسة الخارجية اعتبروها تتسق مع مسعاهم (وهي سياسات انتجت نزاعات داخلية). على أن تجربة الطائف وخواتيمها المؤسفة قد تقود كل اللبنانيين إلى الاتفاق على صيغة أخرى يقودها المسيحيون تقي البلد جنون أبنائه وتحميه من أهواء جيرانه. الأمر يحتاج إلى تسليم إقليمي دولي يعيد احترام خصوصية البلد (اتفاق عبد الناصر وفؤاد شهاب سابقة في ذلك). طوالأمر يحتاج أيضاً إلى جاهزية المسيحيين لإدراك طبيعة المهمة وفهم ما طرأ على لبنان واللبنانيين من تطوّر وتغيّر. يحتاج الأمر أيضاً إلى تفقّد مدى إجماع المسيحيين على فكرة لبنان الأصيلة وهم الذين انقسموا راهناً بين معتدلين وممانعين. ولربما احتاجت تلك الجاهزية إلى نقاش أكبر وسطور أخرى. * صحافي وكاتب سياسي لبناني.