عمر ندم ودموع اختار ج م كوتسي شبيهاً بطلاً لروايته الأخيرة "يوميات سنة سيئة" الصادرة في بريطانيا عن دار هارفل سيكير. خوان كاتب وأكاديمي جنوب أفريقي يعيش في أستراليا ويعامل كشخصية عامة مميزة"تؤخذ من المخزن وينفض الغبار عنها لتقول بضع كلمات في حدث ثقافي ... ثم توضع مجدداً في الخزانة". تطلب منه المساهمة في كتاب بعنوان"آراء قوية"فيكتب مقالات جافة تهتم أساساً بعلاقة الفرد بالسلطة. يذكر قول ماكيافيلي 1469 - 1527 عن هزيمة الحاكم المتمسك بالأخلاق على يد خصم لا يأبه بها. لكي تتمسك بالسلطة، قال المفكر الإيطالي، عليك أن تتقن الخداع والخيانة وتستخدمهما عند الحاجة. تبرر هذه مخالفة القانون الأخلاقي الذي تنادي به الدولة العصرية أساساً لوجودها، الى جانب الدين والقانون الطبيعي، مع استعدادها لخرقها جميعاً عند التهديد. تلطف جارة شابة حياة الكهل المصاب بباركنسون وتهددها في آن. تصعقه بفستانها الأحمر"الموجز"عندما يلتقي بها:"وأنا أراقبها زحف ألم، ألم فيزيقي، لم أفعل شيئاً لأكبحه. علمت به بحدسها، علمت أن العجوز في كرسي البلاستيك في الزاوية يمر في حال شخصية تتعلق بالعمر والندم ودموع الأشياء. لم تحب ذلك أو تفعل شيئاً لتثيره مع انه كان تقديراً لها، لجمالها ونضارتها ولقصر فستانها أيضاً. لو أتى ذلك من شخص مختلف، لو كان معناه أبسط وأكثر فظاظة، ربما كانت أكثر استعداداً لترحب به، ولكن مجيئه من عجوز كان أكثر إطناباً وكآبة في يوم جميل على المرء ان يستعجل فيه لإنهاء المهمات المنزلية". يتداخل الوعظي والرغائبي والإجرامي مع غلبة الأول عندما يوظف خوان آنيا الغبية سكرتيرة له. لم يؤهلها عملها في مأوى قطط للمهمة، لكنها تدخل رقة الى حياته ونظرته الى الأشياء."يا له من هراء ديكارتي أن نعتقد أن تغريد الطير صراخ مبرمج للإعلان عن وجوده للجنس الآخر، وما إلى ذلك". كل صرخة طير هي إطلاق، من كل القلب، للذات في الهواء، مصحوبة بفرح بالكاد نستطيع فهمه."أنا"تقول كل صرخة."أنا. يا لها من أعجوبة". على أن خوان الذي يحس بذاته مجدداً بفضل آنيا يدفع ضريبة على وجودها في حياته. صديقها آلان النابغة في الكومبيوتر يخطط لسرقة مدخراته بمساعدتها. ترك كوتسي بلاده بعد سنوات على انتقال السلطة الى السود، ويهاجم في روايته الصواب السياسي وأثره في حرية التعبير وغيره. يشكو من موسيقى الراب وتحويل أساتذة الجامعة، مثله سابقاً، من معلمي أجيال وناقلي حضارات الى موظفين تابعين للمديرين عليهم الخضوع للأهداف والحصص الإدارية. يهاجم النفاق في شأن العنف سواء في غوانتانامو أو مركز باكستر للمهاجرين في أستراليا."إلقاء القنابل من علٍ على قرية نائمة لا يقل إرهاباً عن تفجير المرء نفسه وسط حشد". عنف الذكور جهلت جويس كارول اوتس، أو قالت انها جهلت، ماضي أسرتها الى أن كشفته سيرة عنها. جنّ والد جدها وجرح زوجته بالبندقية وهدد ابنته بلانش قبل أن يطلق النار على نفسه. بدأت أوتس تكتب"ابنة حفار القبور"الصادرة في بريطانيا عن"فورث استيت"منذ عقد، لكن ناشرها الأميركي أجّل إصدارها مراراً لمصلحة روايات أكثر إثارة للجدل مثل"الأم المفقودة". هاجر والد جدها مع أسرته من ألمانيا الى أميركا في نهاية القرن التاسع عشر. عمل حفار قبور وغيّر اسم العائلة اليهودي من مورغنشترن الى مورننغستار. لم تعرف الكاتبة، تقول، أن جدتها كانت يهودية لأن الأسرة تجنبت الموضوع، على انها تعرف أن علاقة الجدة بوالدها كانت شبيهة بتلك التي خبرتها ريبيكا، بطلة الرواية، مع والدها. تولد البطلة على الباخرة الراسية في ميناء نيويورك، قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بأيام، لأب علّم الرياضيات في ألمانيا وأم عزفت على البيانو. أرض الأحلام لا تقدم له إلا حفر القبور فيدفعه الإحباط والذل الى إدمان الكحول ثم قتل أفراد أسرته، باستثناء ريبيكا، والانتحار. ترفض هذه دور الضحية وتشعر بالذنب لأنها لم تنقذ والدها. تتزوج شاباً شبيهاً به"آمنت انها قوية كفاية لإنقاذه كما لم تكن قوية كفاية لإنقاذ جاكوب شوارت". تهرب من الزوج السكير وعنفه وتغير اسمها الى هيزل جونز. تتزوج ثانية عازف بيانو مدمناً الكحول، لكنها تتخلص من آلام الماضي عندما يعتني هذا بابنها البارع في العزف ويمكّنه من الاشتراك في مسابقة دولية. إذ تراقبه يعزف"اباسيوناتا"لبيتهوفن التي كانت والدتها تعزفها في ألمانيا، تعرف انها تواجه الماضي وتتحرر منه في آن. اوتس من أبرع الكتّاب في رسم العنف الذكوري ضد النساء، ويبدو هذا كأنه ينتقل بالوراثة من جد ريبيكا الى والدها فابنها. حتى زوجها العازف اللطيف يعاني ميلاً الى تدمير الذات، ويتمرد على والده الفاحش الثراء ليعزف على البيانو في ردهة فندق. الرواية تتمدد ستمئة صفحة يمكن اختزال نصفها، وشخصياتها مسطحة. وهي أحد ثلاثة أعمال فقط صدرت لأوتس هذه السنة في مقابل ستة العام الماضي. الغزارة من خطايا الكاتبة التي أصدرت منذ 1964 نحو خمسين رواية، ست وثلاثون منها باسمها والبقية باسم روزاموند سميث ولورين كيلي. أتاح نظامها الصارم كتابة ألف قصة قصيرة أيضاً وأكثر من دزينة كتب في المسرح والشعر والمقال. كانت الجدة التي أوحت شخصية ريبيكا من أهدتها آلة كاتبة وهي في الرابعة عشرة. كتبت منذ ذلك الحين ولم تتوقف ونالت في 1970 جائزة الكتاب الوطنية عن"هم"ورشحت مراراً لجائزة بوليتزر المرغوبة."شقراء"من أحب كتبها إليها وتناولت فيه مارلين مونرو التي رأى النقاد انها تستطيع لعب دور واحد هو نفسها. أوتس رأت أن مونرو بقيت نورما جين بيكر، اسمها الحقيقي، وأن مارلين/ نورما جين بقيت تعمل على الدور حتى باتت هي الشخصية. زميلها الأميركي جون أبدايك قال إنه وأوتس كاتبان من الطبقة العاملة. توافق وتشير الى تشابه الخلفية وعملهما يومياً."كتّاب كثر أشخاص حزانى يحبون القراءة ويرتاحون الى الكتابة. لكن الكاتب على صلة بالناس، ووظيفته كوسيط أن يحترم هؤلاء لا أن يسخر منهم. على الرواية أن تتعاطف معهم". من له عينان مرة أخرى يقول فيديا نيبول كلامه ويمشي. كتابه الأخير"كاتب شعب: طرق النظر والإحساس"الصادر عن"بيكادور"، بريطانيا، يضرب شمالاً ويميناً ولا يأبه. لم يفهم"الأميركي الهادئ"لغراهام غرين."ضباط وجنتلمن"لإيفلين وو أزعجه. صداقته بأنطوني باول طالت ربما لأنه لم يمحّص أعماله، وإذ فعل بعد موت صديقه الوحيد في جامعة اكسفورد أصيب بپ"الذعر". على أن نيبول تذكّر دائماً ما قاله باول في لقائهما الأول. على رغم عيوب الرواية الأولى تتمتع هذه دائماً بغنائية تفتقر إليها أعمال الكاتب التالية. يقارن نيبول الفائز بنوبل في 2001 بين"سالامبو"وپ"مدام بوفاري"لغوستاف فلوبير. كتب المؤرخ اليوناني بوليبياس قصة سالامبو في القرن الأول الميلادي ببساطة ومباشرة من رأى الحدث. فلوبير قرأ وبحث وزار اليونان، لكنه ابتكر ماضياً لم يعرفه فكدّ في الكتابة. الفارق بين الرؤية وغيابهما يجعل قصة بوليبياس حديثة ويحول رواية فلوبير الى"مسرح"."مدام بوفاري"في المقابل غنية بالتفاصيل الحياتية التي نسميها وصفاً، أمر تستحق عليه مديح نيبول. يذكّر بديفيد هربرت لورنس الذي دهش وسر بالتفاصيل الفيزيقية المباشرة في"موبي ديك"لهرمان ملفيل وأعمال فينيمور كوبر. بلغت حساسية لورنس البصرية ذروتها في"أبناء وعشاق"، لكنه وعد أصدقاءه بعدها بالتخلي عن البصري وفعل في"قوس قزح"والأعمال التالية. شكا نيبول دائماً من افتقاره الى التاريخ."وعيت باكراً وجود طرق عدة للنظر، لأنني أتيت الى المدينة من مكان ناء. قد يكون السبب الآخر انني لا أملك ماضياً متاحاً لي، ماضياً أستطيع أن أدخله وأفكر. هذا النقص يحزنني". في الخامسة والسبعين اليوم، وولد لعائلة هندية في ترينيداد حيث ابتكرت الجالية الهندية وطناً خيالي المجد والعظمة. يذكر نيبول زيارة والدته الهند حيث قدمت لها امرأة الشاي بعد أن مسحت أعلى الفنجان براحة يدها وحركت أخرى السكر بإصبعها. انتهى الوهم الهندي وتوقفت والدته عن كتابة يومياتها. تصور الهندوس الهند بلداً نظيفاً لتركيزهم على الطهارة، لكنها لم تكن كذلك. أغضب مضيفيه في زيارة لها لرفضه خلع حذائه قبل دخول معبد. السير حافي القدمين فكرة جميلة، قال، لكنه فعل ذلك في الهند في 1962 وأصيب بمرض جلدي معد. يغضب الهنود مجدداً في"كاتب شعب". يقول ان غاندي كان رجلاً عظيماً بالفعل، لكن ارتداءه ملابس الفلاحين كان مدروساً. وعظمة غاندي لا تكمن فقط في نضاله من أجل الاستقلال، بل في بقائه في الهند وتحوله مصلحاً بدلاً من أن يشمئز ويتركها بعدما رأى شعبها ومشاكلها. لو تعلق الأمر بنيبول لكان تركها ونسيها وعمل محامياً. الضمير أصيب الممثل البريطاني دانييل داي - لويس بالذعر عندما أخبرته زوجته، ابنة المسرحي آرثر ميلر، عن شقيقها الأصغر دانييل الذي ولد مصاباً بأعراض داون. أرسله الى مصح وتجاهله فلم يعرف العالم بأمره إلا عندما كشفت مجلة"فانيتي فير"أمره في عددها الأخير. بعد ولادة دانييل بأيام، في 1966 ربما، اتصل ميلر بصديق قائلاً إن الطفل"ليس صحيحاً"وپ"مونغولي"وأن عليه أن يضعه في مؤسسة. عارضت الزوجة، المصورة انغ موراث، لكن الأطباء دعموا الكاتب الذي أخفى وجوده لمزيج من الشعور بالخزي والخوف. دافع ميلر عن حريات الأفراد والشعوب وحقوقهم، لكنه لم يستطع القبول بابن متخلف عقلياً ربما لأنه لم يستطع التحكم بالعقدة وفق البعض. لكنه حاول التعويض قبل موته بشهر ونصف الشهر في 2005. أعاد كتابة وصيته ومنح دانييل جزءاً من ثروته.