احتل الريف في الرواية المصرية، ولا يزال، مكاناً واسعاً. كتب هيكل "زينب" مشدوداً إلى ريف جميل، وإلى فلاح عريق اختزن كيانه"روح مصر". وقاسمه الحكيم رؤيته حين اشتق، في"عودة الروح"، إبداع الشخصية المصرية من"ملائكية"ريفها. لن يشذ الشرقاوي ويوسف إدريس، لاحقاً، عن قاعدة متجدّدة، ولن يخرج عنها، على رغم اختلاف الأحوال، محمد البساطي ويوسف القعيد ويوسف أبو ريّا وغيرهم... بقي الريف مدخلاً لا بدّ منه للوصول إلى معنى المدينة. لم يقترب نجيب محفوظ، في أطواره المختلفة، من الريف المصري، شديد الجمال كان أم مثقلاً بالغبار والكدر. بدأ مساره بالبحث عن الهوية، ذاهباً إلى مصر القديمة، التي سبقت الفتح العربي، وأقلع سريعاً، عن بحثه زاهداً بعبق التاريخ، كما قال، وزاهداً، ربما، بموضوع الهوية. استعاض عن مصر الفرعونية بالمدينة في روايته"القاهرة الجديدة"، متوقفاً أمام الفئات الاجتماعية المختلفة، الممتدة من حضيض البؤس إلى أهل اليسر والبطر، والأحزاب السياسية الموطّدة للواقع أو الرافضة له، والجامعة والصحف والبوليس الملكي، وكل ما يجعل من التنافس واقعة لها شكل القانون. ومع أنّ الخطاب الروائي كان ينظر إلى مدينة أخرى مشتهاة تقف فوق المدينة الظالمة القائمة، فقد كان فيه ما يعرب عن انبهار بالفضاء المديني الذي تخفق فيه حركة دائبة، تعد كل يوم بأشياء جديدة. استقدم في"خان الخليلي"شخصيات جديدة، محتفظاً بمكان مديني، يتيح للموظف أن يتردّد، بانتظام، إلى المقهى، الذي هو نقطة عبور من مكان العمل إلى البيت وحيّز اجتماعي متعدّد الوجوه يخفّف من وطأة العائلة وأحاديثها الرتيبة. يتعيّن المقهى في"خان الخليلي"، كما في كل روايات محفوظ، مرآة للفضاء العام، فهو متنوّع في أحاديثه وشخصياته، تنفتح عليه النوافذ، وينفتح بدوره على الشوارع والساحات ووجوه العابرين. إنّه فضاء يوحي بالحرية ويطالب بتوسيع المكان، يتبادل الجالسون فيه الرسائل والكلام والأفكار، كما لو كان تعبيراً عن التعدّد ودعوة إلى إضافة تعدّد إلى آخر. المدينة المحفوظية هي: الخفاء، الذي يتيح للإنسان حرية بمعزل عن عيون الآخرين، وهي الوسيط المجاني الذي يسعف الإنسان المتوتّر على التخفّي. تحجب المدينة"المومس"عن العيون، فهي جسد يطمس الاسم والشهرة، وتؤمّن للباحث عن"المتعة"الستر والأمان، فهو مشترٍ يشتاق إلى سلعة معيّنة. إنها مجال"الإنسان الغُفْل"، الذي ينتقل من حياة إلى أخرى باسم جديد، كما هو الحال في"زقاق المدق"، أو يفعل ما دُفع إلى فعله بمعزل عن الفضيحة، كما هو في"بداية ونهاية". أمّا في"الثلاثية"فقد أثنى محفوظ على المدينة ثناء"أخيراً"غير مسبوق. فشوارع المدينة، التي تغص بالمتظاهرين، تقترح إعادة صوغ ملامح الوطن، وهندسة المدينة هي العائلة الرحبة الشاسعة الأطراف التي تحاور ساكنيها، حيث الجامعة والجامع والحدائق ومكان إصدار المجلة والصحيفة وأندية المثقفين والمقهى القديم الذي يسلم الروح إلى مخزن تجاري والمقهى الجديد الذي يوزّع الأغاني ويضج بأحاديث بذيئة أو مترصّنة. لا غرابة في أن تكون المدينة، المنقطعة عن القرية الساذجة الشفافة، موقعاً للفضيلة والرذيلة ولخير يباطنه الشر ولشر يلازمه الخير. وما أحمد عبدالجواد، في تناقضاته التي لا تنتهي، إلاّ صورة عن الإنسان المديني، الذي لا يتعرّف، ولا يمكنه أن يتعرّف، الى مخلوق قروي منغلق، يبدأ حياته بجملة خشنة ويُنهي حياته بجملة خشنة نظيرة. وما مدينة محفوظ، كما أرادها في ثلاثيته، إلاّ مرآة للزمن الحديث، المشبع بالتعدّد والتنوّع والتناقض، والمملوء بما ينقض فكرة بأخرى، منتهياً إلى سؤال مفتوح بعيد من اليقين. وحّد محفوظ بين المدينة، في دلالتها المكانية، وبين قيم الحيّز العام الذي تمثّله المدينة. لامس موضوع التنافس في روايته"القاهرة الجديدة"، التي تلت مباشرة"المرحلة التاريخية"، مميّزاً بين التنافس المنطوي على القيم الأخلاقية، وپ"التسلّق الانتهازي"، الذي يقايض، في شكل رخيص، بين المصلحة وإهدار مبادئ الأخلاق. وعاد إلى موضوع التنافس الاجتماعي في روايته"بداية ونهاية"، مندّداً بالأنانية المغلقة التي تبني مصلحة إنسان على حساب إنسان آخر. كان، في الحالين، يتأمّل معنى العمل في بناء الشخصية السوية، وهو ما تعرّض له في"زقاق المدق"، ومعنى الكرامة الإنسانية، التي لا تنفصل عن الاعتراف بكرامة الآخرين، وهو ماعالجه في روايات كثيرة. وربما تعطي"مرحلته الفلسفية"، بلغة البعض، والتي تضم: الطريق، اللص والكلاب، الشحاذ، السمان والخريف، وثرثرة فوق النيل، مجالاً واسعاً لتأمّل الأسئلة الأخلاقية لدى محفوظ. تحدّث في هذه المرحلة عن مغترب يموت من أجل فكرة الحق والعدالة، وآخر يتمرّد على المعايير السلطوية التي تنكر الكفاءة وتحتفي بالتملّق والخضوع، وعن ثالث يشجب بيروقراطية عاتية، تختصر الإنسان إلى"أرشيف"أو مقعد أو طاولة."الصفحة الوحيدة الصادقة في الصحافة هي صفحة الوفيات"، يقول بطل رواية"الشحاذ"، الذي واجه مجتمعاً معطوباً بالبحث عن الحقيقة ومعنى الوجود. وإذا كان محفوظ رسم، روائياً، المدينة كما يجب أن تكون، فهو أنتج شخصيات روائية تمثّل قيم المدينة أو تتنكّر لها، معتبراً المدينة، في الحالين، مرجعاً للقيم والمعايير والتصوّرات التي تختصر إلى: احترام الإنسان والعقل والعمل. يتراءى في هذه العلاقات احترام القانون، الذي هو أساس المجتمع المدني، الذي لا مدينة من دونه، ولا متخيّلاً روائياً، بالمعنى المستقيم للكلمة. أقام محفوظ تصوّره الروائي على المزج بين الفضيلة الذاتية والخير العام، أو بين الشخصية الواعية لمسؤولياتها ومجتمع يربي أفراده على الحسّ بالمسؤولية. ومع أنّ محفوظ كان مسكوناً بفكرة التاريخ، التي ترجمت اهتماماً بالسياسة لا شفاء منه، فقد كان الخلاص الإنساني، المؤجل أبداً، هاجسه الأساس، الذي يحوّل التاريخ، في التحديد الأخير، إلى موضوع جليل مدثّر بالتقديس، أو إلى موضوع زائف الهيبة جدير بالسخرية. جاءت عظمة محفوظ من إيمانه الشامل بحداثة شاملة، مقولاتها: الديموقراطية، المساءلة، التحرّر من الماضي، المجتمع المدني، المدينة، والكتابة الروائية كترجمة خالصة للحداثة المتعددة الأبعاد. كأنَّ في تصوّره للعالم ما يقول: لا مدينة بلا رواية ولا رواية بلا مدينة، مستلهماً، ربما، توماس مان قبل غيره. ولهذا كان عليه، بعد سقوط النظام الملكي، أن يغادر مدينته القديمة وروايته"القديمة"معاً. ومع أنّ"أولاد حارتنا"، تحمل في بعد من أبعادها سمات"أدب المقموعين"، فقد كان فيها، من وجهة نظر محفوظ، رحيل عن مدينة حديثة إلى"قاهرة متسلطة"تقطع مع المدينة التي كانت. فشخصية"الفتوّة"، التي أدرجها الروائي في"أولاد حارتنا"وپ"الحرافيش"وغيرهما من الروايات، ملائمة لمكان قريب من العصور الوسطى، حيث المكان يسيطر عليه متسلّط مستبد إقطاعي، يعبث بالبشر والمقاهي والجدران وكل ما يُرى ولا يرى. وعلى هذا، فإنّ رواية"أولاد حارتنا"، كما روايات لاحقة مثل:"ألف ليلة وليلة"وپ"رحلات ابن فطومة"، لا تعبّر عن تطوير شكلاني للكتابة الروائية، كما لو كان على الشكل الذي استُنفد أن يفضي إلى شكل جديد، بل تعبّر، قبل أي شيء آخر، عن وعي تراجيدي بتحوّلات المجتمع المصري، الذي فقد مدينته وروايتها القديمة، وفرض على الروائي أن يبدع رواية أخرى، توائم أمكنة يسوسها"الفتوات"وتقودها القيم الإقطاعية، التي أخذت لباساً جديداً.