يختلف الروائيون المصريون الجدد والشباب حول الأثر الذي تركه نجيب محفوظ في تجاربهم. بعضهم يرى أن أثره ضئيل في أعماله والبعض الآخر يقول ان إثره عميق في اللغة الروائية الجديدة والمقاربات السردية والموضوعات. في الذكرى السنوية الأولى لرحيله، يبدو نجيب محفوظ حاضراً في ذاكرة الثقافة المصرية وفي وجدان المثقفين أنفسهم. هذا الكاتب الكبير الذي اختصر في أعماله الروائية والقصصية تاريخ مصر الحديث في تجلّياته المتعدّدة، الاجتماعية والسياسية والإنسانية والثقافية، يزداد اقبال القراء على رواياته ويزداد شغفهم بشخصياته الطريفة والفريدة التي عرف كيف يختارها من الواقع المصري. هل ترك نجيب محفوظ أثراً في الرواية المصرية الجديدة؟ هذا السؤال الذي طرحنا على روائيين مصريين من أجيال مختلفة آثر بعضهم تحاشي الإجابة عليه فيما أجاب روائيون آخرون متحدّثين بجرأة عن هذا الأثر في حجمه وطبيعته. جمال الغيطاني منذ غياب"الاستاذ"، أتعمد عدم الكلام عنه كثيراً، لكنني من خلال رئاستي لتحرير جريدة"أخبار الأدب"أقوم بواجبي تجاه كاتب كبير من الممكن أن ينسى، لأن آلية النسيان عندنا تطغى على التذكر والأمثلة على ذلك تشمل توفيق الحكيم ويحيى حقي ويوسف إدريس وغيرهم، فالمهيمنون على أجهزتنا الثقافية لا يكترثون بإحياء ذكرى نجيب محفوظ وأمثاله، لكن في بلد مثل فرنسا يحدث عكس ذلك عند إحياء ذكرى كاتب مثل فيكتور هوغو، إذ تعيد دور النشر إصدار أعماله وتقررها المدارس والجامعات على طلابها وتخصص دور السينما أسبوعاً أو شهراً لأفلام مأخوذة عن تلك الأعمال. عندنا تتجاهل الأجهزة الثقافية الرسمية ذكرى رحيل نجيب محفوظ مع أنه الكاتب العربي الأشهر في العالم، وحتى مشروع"المزارات المحفوظية"لم يكتمل على رغم تجاوب محافظ القاهرة معه. والسيد وزير الثقافة أعلن العام الماضي انه سيخصص متحفاً لنجيب محفوظ في"وكالة محمد بك أبو الذهب"الأثرية التي يطل مدخلها على حي الباطنية، معقل الحشاشين، في حين اختار الوزير نفسه منطقة"بين القصرين"لينشئ فيها متحفاً لصديقه الفنان التشكيلي آدم حنين. وهذه المنطقة الأخيرة لا علاقة لها بفن ادم حنين وهو مثَّال عظيم، فهي منطقة إسلامية يقوم فنها على"الأرابيسك". أما بخصوص تأثري بنجيب محفوظ فإنني ألاحظ أحياناً انني أتكلم مثله، وهذا ليس أمراً مستغرباً بعد العلاقة الإنسانية التي ربطتني به على مدى نحو نصف قرن. محمود الورداني لم أتأثر بنجيب محفوظ، على رغم أنني، لحسن حظي، قرأت"زقاق المدق"في الحادية عشرة بعد ان أوقعتها المصادفات في يدي في مكتبة مدرستي الابتدائية، ثم غاب عني أيضاً بسبب المصادفات خصوصاً بعد ان قرأت روايتين من رواياته التاريخية ووجدتها على قدر ملحوظ من السذاجة، فالقدر يلعب الدور الأساسي، ثم تضاعف نفوري منه بعد أن قرأت"خان الخليلي". وعندما بدأت الكتابة في النصف الثاني من الستينات أحببت بشدة ثلاثة كتب ربما كانت أصحاب تأثير عليّ، وهي"حيطان عالية"لأدوار الخراط وپ"لغة الآي آي"ليوسف ادريس وپ"القاهرة"لعلاء الديب. وقر في ذهني أن نجيب محفوظ كاتب كلاسيكي محكم لكنه ذهني. اعترف بأنني كنت غبياً ولم أدرك حجم تجربته الشاملة، ومع ذلك فربما لم يكن كل هذا شراً، لأن نتيجته كانت في صالحي لأنني لم أتأثر به على نحو مباشر. مهد محفوظ الطريق وبنى الرواية وظل يكدح على مدى سبعين سنة متواصلة من الكتابة. ويمكن القول إنني تأثرت بمن جاؤوا على الأرض التي مهّدها وحرفها وزرعها وحصدها، كما انني على يقين أنه لو لم يكن محفوظ شيّد الرواية العربية لما أمكنني الكتابة، والمؤكد أن تجربتي على النحو الذي جرت به أدين بها للطريق الذي مهّده، وأدين له بعدم تأثري به بسبب المناخ الذي نشأت في ظله. أدركتُ كم كنت غبياً في ما بعد، أي في النصف الأول من الثمانينات عندما أتيح لي أن اقرأه كاملاً للمرة الأولى، وباتت"الحرافيش"مثلاً أحد الأعمال القليلة التي اصطحبها في سفري وأثناء الملمات التي أتعرض لها، وفي الوقت نفسه هناك أعمال كثيرة له تسقط من الذاكرة، لكن إنجازه يجب النظر إليه جميعاً كأعظم إنجاز حققه كاتب عربي، فأعماله كلها، ما أعجبت به وما لم أعجب به، شاركت في صوغ هذا الإنجاز النادر، أي تشييد الرواية العربية، وفي اللحظة التي كنت أظن فيها انه كاتب كلاسيكي كان قادراً على أن يفاجئني بأعمال مزلزلة مثل"تحت المظلة"وپ"الحرافيش"وثلاثيته المتأخرة التي تبدأ بپ"أسعد الله مساءك"في ما أظن، ثم"أصداء السيرة الذاتية"وأحلامه الأخيرة التي ظل يمليها حتى فارقت روحه الحياة. بهذا المعنى يمكن النظر الى إنجاز محفوظ الذي ينتمي الى الجداريات الشاهقة التي تظل حية الى الأبد وقادرة على التأثير المباشر وغير المباشر. منتصر القفاش أتذكر أنني في بداياتي كنت أتابع روايات نجيب محفوظ التي كانت تنشر مسلسلة في جريدة"الأهرام"وأجمع حلقاتها مثل رواية"أفراح القبة"التي ظلت من رواياتي الأثيرة فترة طويلة، وشدتني إليها البراعة في استخدام تعدد الرؤى والإيقاع السريع في السرد الذي يصل الى هدفه بعبارات مكثفة، وفي هذه الفترة كانت قراءة الشعر هي الغالبة على قراءاتي وكنت أبحث في كل ما أقرأه عن التكثيف الشعري وتجاوز المقدمات التي لا لزوم لها، وربما لذلك أحببت المجموعة القصصية"تحت المظلة"بلحظات الجنون فيها والعكوف على أحداث تكون مفاجئة أكثر من أن تكون مبررة منطقية. تدريجاً ابتعدت عن عالم نجيب محفوظ بعدما شدتني أعمال كتاب ظهروا بعده خصوصاً يحيى الطاهر عبد الله والتي كان الحس الشعري فيها هو الغالب والمحرك لطريقة الكتابة وصار نجيب محفوظ في تلك السنوات - وهذا هو قدر الرواد - طرفاً أساسياً في أية مقارنة تعقد بين أشكال الكتابة المختلفة، بمعنى أن الحديث عن ما أحبه في الكتابة أوضحه بمدى بعده عن كتابة نجيب محفوظ، فإذا كان الحديث عن الراوي فهو مختلف عن راوي نجيب المهيمن والمسيطر على شخصياته الروائية والذي يحد من اندفاعهم وشططهم لمصلحة التأكيد على ما هو سياسي واجتماعي. وإذا كان الحديث عن حجم الرواية فإنه لن يكون في ضخامة روايات نجيب المحتشدة بالشخصيات وتتبع مصائرهم، وبعد ذلك كانت المفاجأة"أصداء السيرة الذاتية"وتراوح نصوصها بين القصة القصيرة والشعر والحكمة وكأنها تخففت من عبء التأسيس لمصلحة الكتابة من دون مقدمات. سحر الموجي إن قياس فكرة التأثر في حد ذاتها صعب جداً، ولكن عند نجيب محفوظ فالتأثر حاصل بالتأكيد، لأننا بإزاء كاتب صاحب منتج روائي هائل. بالنسبة إلي تأثرتُ بقدرة نجيب محفوظ على تصوير المشاهد، وإليه يرجع الفضل في انتباهي الى أهمية المكان الذي كان"البطل"في كل أعمال محفوظ. ربما يكون تأثري في بعض الجوانب الأخرى لدى نجيب محفوظ عكسياً، فمثلاً قررت ألاّ استعين أبداً بالبنية المتعددة للرواية عند محفوظ، لأنني أراها بنية تقليدية، وفي الرواية الحديثة يصعب اللعب بأساليب السرد كما كان محفوظ يفعل. أحب فكرة تقطيع السرد، عندما يضفي السرد صدمات أكثر إلى القارئ مع كل انتقالة للحدث في الرواية. أميل إلى السرد الذي لا يريح القارئ ويشركه في إعادة تكوين الرواية مرة أخرى، وربط الأفكار المتفرقة في العمل الروائي الواحد. لا شك في أن أعمال محفوظ شكلّت مدرسة قائمة بذاتها، وبإمكان الكتابة الحديثة أن تأخذ من محفوظ تقنية السرد بأصوات متعددة، أو فكرة العمل الروائي الذي يعتمد في الأساس على المفارقة والسخرية والتهكم الخافت، مثلما هو الحال في رواية"حضرة المحترم". فضلاً عن أن محفوظ يعد المرجع الأول في مسألة"التجريب في الرواية". التنوع من الرواية التاريخية الى الواقعية، أو فكرة حرية الكاتب بالدوران على أساليب متعددة للحكي. وهو ما أجاده نجيب محفوظ وأصَّل له. بما لم أكن واعية بالقدر الكافي بحجم تأثير محفوظ عليّ خصوصاً في روايتي الأخيرة"نون"على رغم استعانتي بالأسطورة، لكنني لم استخدم المنطق نفسه عند محفوظ، أردت إعادة كتابة الأسطورة بشكل ينفي تماماً أن تصنف روايتي على أنها رواية"تاريخية"، وعلى هذا الأساس يمكنني أن أقول إن"نون"ارتكنت على محفوظ وعلى بهاء طاهر وعلى غيرهما، لأن المسألة في النهاية"مسألة تاريخ". المهم أن تغزل كتاباتنا تاريخاً أدبياً مستقلاً بذاته ويفرز أساليبه المختلفة، وفي الوقت نفسه لا يوجد كاتب في جيلنا يتبرأ من تاريخه أو يتجاوزه. سعيد الكفراوي إن الراحل العظيم نجيب محفوظ هو الروائي الوحيد في أدبنا العربي الذي نستطيع أن نصفه باطمئنان بأنه من خلق في فن الرواية عالماً كاملاً مكتفياً بذاته، ابتعث مدينة من الماضي بأزقتها وطقوسها وخرافاتها وأشخاصها الأسطوريين، هذا العالم الذي أوجده الرائد العظيم من العدم لم يكن موجوداً ونحته محفوظ، فتوّات وحرافيش وأسبلة وتكايا وغانيات، ليصير ملاذاً راسخاً في الزمن مثل صورة المنشد تحت ظل التكية في روايته الهائلة"الحرافيش". عمنا وولي أمرنا نجيب محفوظ الذي شكّل الأماكن، وراقب بصبر كهنة آمون مجمل المتغيرات في حياتنا عبر معرفة بشرية تنبع من ذلك المشهد المحلي الذي يطرح أسئلته على الكون كله. أذكر أنني عندما قرأت رواية"الطريق"أوائل الستينات أدركتُ عبر نصها الحداثي أن هذا المعلم عاكف على اكتشاف بحيرة للزمن، فنبهني للإحساس بالزمن، نبهني الى صوته في الرواية الذي يمضي حاملاً أصداء تتمرد منذ عمله الأول حتى"أحلام فترة النقاهة"، يهدر حيناً كما في أصداء السيرة الذاتية، أو يخفت قليلاً كما في"ثرثرة فوق النيل"لكنه صوت المنشد العظيم. علمني هذا الصوت وأعانني على اكتشاف الحقيقة، وقيمة الصدق مع الناس ومع النفس، تعلمتُ منه ان الكتابة انتصار للإنسان على أهوال الحياة والموت. وآمنت من خلال معرفتي المتواضعة به أن الإخلاص لما يؤمن به الإنسان طريق لمعرفة الحقيقة. إبراهيم عبدالمجيد لمحفوظ تأثير شديد فيّ حادث في انجذابي الى كتابة فن الرواية، وهو صاحب الفضل في تعرفي الى عالم القاهرة الغريب، فقد كانت أعماله هي أولى الروايات التي قرأتها، وهي أيضاً دليلي في التعرف الى القاهرة. فقد تصورت القاهرة كما كتبها محفوظ، تصورتها"كمال"في الثلاثية، ثم كان اشد ما لفت نظري في محفوظ هو التجديد، لقد حافظ محفوظ على أن يكون مجدداً منذ قصته الأولى"تحت المظلة"، ثم بداية التأصيل في التجديد في رواية"اللص والكلاب"، ومن بعدها لم يتخلف عن التجديد في الرواية العربية. لقد كان تيار الشعور واستخدام اللغة الشعرية والرواية المتحركة من أبرز أساليب التجديد عند محفوظ. مع الوقت بعد تعمقي في القراءة عن محفوظ، اكتشفت انه دارس للفلسفة، وبالصدفة تخرجتُ أنا في كلية الآداب - قسم الفلسفة في جامعة الإسكندرية، ثم كانت أطروحتي للماجستير في علم الجمال، وأعتقد بأنني قرأت عن محفوظ الشيء نفسه، ومن هنا أدركت التأثير الشخصي لمحفوظ فيّ كإنسان قبل الأديب، وعلى رغم أنني قابلته مرات قليلة لكن كانت عميقة، أتذكر من مقابلاتي معه المرة الأولى وكانت عام 1979 بعد أسبوع من صدور روايتي الأولى. ثم المرة الأهم والحاسمة في عام 1996 بعد حصولي على جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأميركية في القاهرة. أتذكر كيف تقابلنا في منزله وكيف دافع عني وعن الجائزة ضد الذين يهاجمونها من الصحافيين، وقال وقتها بخصوص رواية"لا أحد ينام في الاسكندرية":"لم اقرأ رواية في ذلك الوقت وأتممتها مثلما قرأت رواية عبدالمجيد". الشيء العظيم في محفوظ هو احتفاظه بهذا التأثير حتى آخر يوم في حياته، فپ"أحلام فترة النقاهة"مثلاً تمثل درساً في كيفية توظيف الأديب لآلامه وإصابته وكيف تصبح اللحظات القصيرة كالحلم أقوى اللحظات إلهاماً. حمدي أبو جليل أرى أن نجيب محفوظ من أعظم الروائيين في العالم، وهو مؤسس الرواية العربية الحديثة ومشروعه ضخم، لكنني لم أتأثر به لا كروائي ولا كإنسان، فتجاربه الروائية تتجلى فيها مصر كلها، بل أحياناً الوجود كله، في حين ان هموم الرواية الجديدة التي انتمي إليها بسيطة ومناسبة لإمكانات كُتّابها، كما ان الرواية الجديدة في العالم كله تسير في اتجاه مغاير تماماً للاتجاه الذي سارت فيه رواية نجيب محفوظ وهذا امر طبيعي جداً. وعلى المستوى الإنساني كان نجيب محفوظ شخصاً منظماً ودقيقاً، وهذا أمر صعب المنال بالنسبة إلي، فضلاً عن أنه نجح لسنوات طويلة في مهادنة النظام فوصل الى منصب رئيس جهاز الرقابة على المصنفات الفنية واكتفى بقول ما يريد أن يقوله عبر أعماله الأدبية. وأنا أرى أنه لو دخل نجيب محفوظ في صدام مع الديكتاتوريات التي عاصرها لما أنجز مشروعه الأدبي. الخلاصة هي أنني مع كونديرا الذي يرى أن الرواية هي نثر الحياة، في حين كان نجيب محفوظ مهتماً بقضايا كبرى تخص الوجود. العالم الكبير، على مستوى المكان والناس والهموم لم يعد له وجود، ولذلك تسير الرواية الجديدة في اتجاه الإنسان البسيط. لوعة الفراق يوسف القعيد بعد غيابه انفرط عقدنا، كنا نلتقي حوله من السادسة من مساء الثلثاء حتى العاشرة. كان موعداً ثابتاً ومؤكداً، خصوصاً أنه كبير"القعدة". اشتهر بأنه"الانسان الساعة"تضبط عليه أوقاتك ومواعيدك أكثر من السكة الحديد، التي كانوا يضربون بها المثل في الانضباط قبل أن تلتهم نيران الفوضى واقع مصر بكل ما فيه. كان ثابتاً في مواجهة كل المتغيرات، بعده لم نعد نلتقي، حاول بعض أصدقاء الثلثاء أن نستمر في اللقاء، ولم أتمكن من الذهاب إلى هناك، لأن حضوره الغائب أو غيابه الحاضر، قد يحوّل الجلسة محاولة لتحضير الأرواح، أو استحضار الغائب من غيابه، وتعلمت من منظر مقابر قريتي تلك الحقيقة الأزلية: الزمن يذهب ولا يعود أبداً، يبقى فقط ما تركه لنا يذكرنا به كل بطريقته الخاصة. في آخر عيد ميلاد له، قلت له بأعلى صوت: كل سنة وأنت طيب، أعاد صوغ الجملة:"بل قل كل ثانية وأنت طيب". والمسافة بين السنة والثانية تماثل المسافة بين الأرض التي تدفق فيها، والسماء التي لا نكف عن طرح أسئلتنا عليها. وفي أيامه الأخيرة وعندما كان يتعكز علي، أدركت للمرة الاولى قسوة قانون الجاذبية، فالرجل كان يجد صعوبة في مقاومة الجاذبية ورفع قدميه عن الأرض، كان يجرّهما جراً، وكنت أسمع صوت احتكاك نعل الحذاء بإسفلت الأرض. خلال هذا العام تعاملت مع غيابه، ورأيت عبر الغياب كثيراً من المزايا الإنسانية الغريبة، في إنسان وهب الكتابة كل عمره وقبلها كانت القراءة. عندما كفّ بصره وكنت أعزيه بأنه يمكن أن يملي ما لديه، قال لي إن متعة القراءة تفوق آلاف المرات متعة الكتابة. وأشهد أن التدريب على عملية الإملاء استغرق وقتاً طويلاً، عند روائي كانت الحكاية عنده الأحلام والأوراق أساساً حتى عندما كنا نقرأ له، لم يقل رأيه في نص سمعه منا، لأن القراءة تبقى سر من يقرأ ولحظة التقاء العقل بالخط المكتوب لا تعوض عنها أي قراءة أخرى. فقط كان يبدي بعض الآراء العابرة لصاحب النص إن كان صاحبه في إحدى جلساته. لكن الجديد حقاً هذا العام هو رحلة نصوصه وإبداعاته، عندما تعاد الآن قراءة بعضها، وقد تحرر النص من حضور صاحبه، وانطلق يؤسس طريقة جديدة في وصوله إلى المتلقي. لا أعتقد أنني أقرأه بعد الغياب كمثل قراءتي لتولستوي أو تشيكوف. فالمعرفة الإنسانية بصاحب النص حاضرة مع كل حرف أتذوقه، ولكنه يوشك أن يصبح مثل المبدعين الكبار الذين عرفهم المرء معرفة إنسانية، ثم قرأ لهم بعد الرحيل عن الدنيا، وبدأت نصوصهم تشق طريقها بعيداً من اصحابها مؤسسة لها نسقاً جمالياً في الوجدان. هو عندي الآن مثل طه حسين الذي أملى كل نتاجه الأدبي والفكري، ولذلك من الأفضل قراءته بصوت عال، وهو مثل صلاح عبدالصبور الذي امتزج دمه بكل حرف خطه في حياته، مؤكداً أن الصدق والصدق وحده أسهل الطرق الى الخلود، وهو مثل يوسف ادريس بصخبه الذي أخذه معه. عندما أجد نفسي أمام حقيقة الصلة الجديدة بكتاباته، أتساءل: هل يعيد الناس قراءة نجيب محفوظ واكتشافه من جديد؟ هل يقرأونه في غيابه كما لو كانوا لم يقرأوه في حياته أو يتذوقوا قراءة الغياب في شكل مختلف عن قراءة الحضور؟ الحضارة المصرية القديمة تمحورت حول فكرة جوهرية هي محاربة النسيان. فالأهرامات تذكرك في شكل أبدي بأن كانت هناك حياة قبل آلاف السنين. هذا على رغم أن العبارة التي تتكرر كثيراً في روايات نجيب محفوظ، خصوصاً عمله المظلوم الذي لم يقرأ جيداً في حياته"حكايات حارتنا"ربما لتشابه الاسم مع روايته الأكثر شهرة"أولاد حارتنا"في هذه الرواية الغريبة الأقرب إلى الترجمة الذاتية يحوم طيف عبارة تتردد كأنها لحن القرار:"آفة حارتنا النسيان". وأتمنى لو أن المصريين والعرب قاوموا هذا النسيان بفعل بسيط هو القراءة، ومن سبقت له القراءة عليه ان يعيد القراءة لأنها قد توصله الى اكتشافات كثيرة، وهذا ما حدث معي. سألتني صحافية شابة: هل تشعر باليتم بعد رحيله؟ قلت لها: لوعة الفقد، لوعة الغياب ربما كانت أشمل من اليتم. فاليتيم قد يتعذب لغياب من كان يعوله، وقد شعرت باليتم فعلاً عندما مات أبي قبل رحيل محفوظ بإثنتي عشرة سنة، وخلال حياته مات لي شقيقان، وجاء موت أمي بعد موت نجيب محفوظ بثلاثة أشهر وستة عشر يوماً. قلت لها إن الحزن على الأحبة يبدأ كبيراً جداً ولكنه يتضاءل مع مرور الوقت. نحن نتذكر ما قد ننساه أحياناً، وسمي الإنسان إنساناً من النسيان. وكان نجيب محفوظ يعتبر في حياته أن النسيان نعمة من الله أنعم بها على الإنسان، لكنه كان يقصد النسيان الإيجابي. لم يكن موته هو الموت الأول في حياتي. لكن غيابه تحول عندي الى تدريب على موتي أنا. أعتقد أن موته أو موت أهلي من قبله ومن بعده نظرت اليه باعتباره قد يسهل عليّ موتي. هل هناك حقيقة مؤكدة في الحياة أكثر من الموت، نقيضها المتربص بها وبنا في كل وقت وفي أي مكان؟