لم ينجح البيت الأبيض في إعلان رفضه لمخطط تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات في إبعاد شبح هذا الكابوس الذي شهد في الآونة الأخيرة الكثير من حالات التجاذب الحاد ليس لتحديد مصير العراق حاضراً ومستقبلاً، بل لإنقاذ ما يمكن انقاذه من المخطط الأميركي الذي كان معداً مع بداية الحرب على العراق وإدخال بعض التعديلات عليه وفق مقتضيات كل مرحلة من المراحل. وقبل صدور هذا الرفض سبق للكونغرس أن وافق على تقسيم العراق بأكثرية الثلثين بعد دراسات ومداولات واتصالات أجراها السيناتور الديموقراطي جوزف بايدن. ورغم أن هذا القرار ليس ملزماً للإدارة الأميركية من حيث المبدأ إلا أن تأييده من قبل شيوخ مرموقين في الكونغرس يتقدمهم المرشحون الديموقراطيون للرئاسة وبينهم هيلاري كلنتون وباراك أوباما ونواب جمهوريون بارزون مثل ريتشارد لوغار وجون ورنر وجون سنونو يعكس وجود تحول بارز في الكونغرس الأميركي وفي توجهاته حيال مستقبل الوضع في العراق. ولم يُحدث القرار الضجة في مستوى الحدث إلا بعد انقضاء ثمانية وأربعين ساعة عليه. ولهذا القرار بعض الخلفيات، إذ يُعتبر السيناتور الديموقراطي جوزف بايدن هو عرّاب هذا القرار بالتعاون مع ليزلي جيلب الرئيس السابق لمجلس العلاقات الخارجية وقدماه معاً قبل أكثر من عام عبر صحيفة"النيويورك تايمز". وطرح السؤال في حينه:"هل وصلنا إلى تلك النقطة ؟ فكان الجواب: لا". في حينه. ومنذ ذلك التاريخ قام السيناتور بايدن بحملة سياسية وإعلامية واسعة على الطريقة الأميركية اللوبينغ لكسب التأييد لهذا المشروع والذي يستند في أساسه إلى"البلقنة"وما جرى في البوسنة العام 1995 من تقسيم حيث تكون هناك ثلاث دويلات مربوطة بشكل ضعيف ببعضها بعضاً وهي:"كردستان"و"شيعستان"و"سنستان"، وكلها تحت مظلة"عراق كبير لكنه هزيل"، كما ورد في الشروحات المرفقة بالمشروع. وبتاريخ الأول من ايار مايو 2006 نشر الثنائي بايدن - جيلب مقالاً مشتركاً في"النيويورك تايمز"ورد فيه..."أن الفكرة تستند إلى ما تحقق في البوسنة حيث يدير الأكراد والشيعة والسنة والعرب شؤونهم بينما تركت الحكومة المركزية. ونحن قادرون على تحقيق ذلك مع إغراءات تمنح للسنة كي يشاركوا في الحكم من خلال خطة مصممة للانسحاب وإعادة نشر قواتنا الأميركية وعقد حلف عدم اعتداء على مستوى المنطقة". لكن الاقتراح تم رفضه في حينه وأجمع المحللون السياسيون المختصون بالشؤون الخارجية على أن تقسيم العراق قابل لأن يجر إلى سفك هائل للدماء في العراق والمناطق المجاورة، إذ بينما يعيش السنة العرب في غرب العراق، والأكراد في الشمال والشيعة في الجنوب تظل مدن العراق متميزة باختلاط وتمازج كياناته الطائفية والقومية والمذهبية. فبغداد وكركوك والموصل لا تمتلك خطوطاً واضحة تفصل كل فئة أساسية عن غيرها، بل إن المدن العراقية في الفترة الأخيرة اصبحت أكثر تجانساً من السابق من حيث الإثنيات، فيما عانت المناطق المحيطة ببغداد الكثير من التطهير العرقي والمذهبي. وهذه الآراء التي تم التعبير عنها قبل سنة من الآن كانت تقابل من جانب الإدارة الأميركية بأفكار الرئيس جورج دبليو بوش ومنها زيادة عدد وقوة الوحدات الأميركية في بغداد. وهذا ما تم الاقدام عليه قبل بضعة شهور بارسال 30 ألف جندي أميركي إلى العراق. على أساس ان مثل هذا الإجراء من شأنه أن يوقف العنف ويخلق مناخاً سياسياً للشيعة والسنة والأكراد كي يصلوا إلى حل. لكن المقابلات التي جرت مع شهود من العراق أوضحت أن الظروف العامة راحت تدفع الإدارة الأميركية كي تتحرك نحو حل التقسيم. وأبدى بعض الخبراء المختصين في شؤون المنطقة آراء تقول إن التقسيم الناجح للعراق لن يكون سهلاً إذ يتطلب تشاوراً مع جيران العراق بمن فيهم إيران والمملكة العربية السعودية إضافة إلى هبوب رياح الحساسيات القومية وخاصة من تركيا. وكان تعليق السيناتور بايدن - في حينه - أن الولاياتالمتحدة ستجد نفسها عاجلاً أم آجلاً تتوسط لتنفيذ فكرة التقسيم. وتوجه إلى الأممالمتحدة وناقش الفكرة مع مسؤولين من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن لكسب تأييد المنظمة الدولية ومساعدتها على تنفيذ هذه الفكرة. واستخدم بايدن المنطق التالي لكسب التأييد لطرحه:"لماذا احتجتم كل هذا الوقت ؟ نحن أميركا سنصل إلى تلك النقطة إما من خلال إجرائنا أو من دونه وما نحتاج إليه هو إرادة التقسيم". وتابع السيناتور المرشح للرئاسة عن الديموقراطيين، وإذا لم يحالفه الحظ فربما تسند إليه وزارة الخارجية، جهوده الرامية إلى انتزاع موافقة عريضة لتقسيم العراق، وهذا ما حدث فعلاً قبل بضعة أيام. ولقيت فكرة تقسيم العراق معارضة من جانب العراقيين العاديين الذين لا صوت لهم إلا عبر بعض مايكروفونات بعض الفضائيات العربية، وأعرب عدد كبير منهم عن التمسك بوحدة العراقيين، لكن في المشاريع التقسيمية الكبرى من يأخذ آراء الناس العاديين بعين الاعتبار؟ ومن ردود الأفعال لدى بعض الأحزاب والهيئات ما قاله عبدالكريم النقيب القيادي في"المجلس الأعلى للثورة الاسلامية"الإسلامي:"إن الدستور يحكم العراق الجديد وهو ينص على أنه بلد فييدرالي قائم على أساس الأقاليم والمحافظات". يُشير النقيب الى"أن المشروع القاضي بتقسيم العراق إلى دويلات هو أقرب إلى الكونفيديرالية منه إلى الفيديرالية، ونحن مع عراق فيديرالي موحد". وكالعادة يتحرك العرب ل"مواجهة مخططات التقسيم"بعد فوات الآوان، ومعظم ردود الأفعال التي صدرت حتى الآن لا تزال خجولة ومن دون أهمية وخطورة حدث من هذا النوع. وحدها المملكة العربية السعودية عبّرت عن رفضها لتقسيم العراق عبر وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل الذي حذّر بوضوح من تداعيات الإقدام على مثل هذه الخطوة نظراً لما تنطوي عليه من مخاطر. ومع ذلك سيكتفي البعض الآخر بمراقبة الخطوات اللوجستية والعملية التي تصب في تقسيم العراق إلى ثلاث دول أو ثلاث مناطق على أساس فيديرالي أو كونفيديرالي، ولن تجدي نفعاً أصوات المواطنين العراقيين الذين ما زالوا يتمسكون بالعيش المشترك وسط هذا الاختلاط والتمازج رغم كل طوابير التهجير التي تغادر مناطق مختلفة من العراق إلى دول الجوار خوفاً من التطورات الآتية. أما رد الفعل الرسمي في بغداد فجرى الاكتفاء حتى الآن بطرح طارق الهاشمي نائب الرئيس العراقي مشروعاً سياسياً جديداً أطلق عليه"العقد الوطني العراقي"ويتضمن مجموعة من المبادئ ويهدف إلى"توحيد السياسيين وتبديد انعدام الثقة الشديد بينهم". لكن جدوى نجاح هذا المشروع تكاد تكون معدومة، حيث لم ينجح أي إجراء أو تدبير في وقف المذابح اليومية في أبشع أنواع القتل والإبادة في التاريخ المعاصر. وفي خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الجديدة التي باشرت أعمالها الثلاثاء الماضي، شدد الرئيس جورج بوش على"ضرورة قيام الأممالمتحدة بدور أكبر في العراق"، الأمر الذي يؤكد سعي واشنطن وفي ظل الإدارة الحالية تحديداً إلى تدويل أزمة الوجود الأميركي من جهة ومنح نوع من المظلة الدولية للخطوات التي ستعقب تسريع مشروع تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات. وضمن عمليات التجاذب السياسية والحزبية القائمة بين"الجمهوريين"والديموقراطيين"والتي تتصاعد مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في نهاية عام 2008، يلاحظ أن الرئيس بوش قد ألزم الحزب الديموقراطي منذ الآن بتدابير بعيدة المدى تتصل بمستقبل العراق وبالوجود العسكري الأميركي والملاءمة بين مصالح أميركا على المدى البعيد وخاصة النفطية والاستراتيجية منها، وبين خسائر وتضحيات القوات الأميركية المرابطة في العراق والعمل على كيفية التقليل من هذه الخسائر التي ضاق الرأي العام الأميركي بها ذرعاً، وهو يعبر عن ذلك بشتى الوسائل ومنها الحملات في الصحف وتنظيم التظاهرات الشعبية في مختلف أنحاء الولايات وآخرها وأكبرها ما شهدته العاصمة واشنطن وأمام البيت الأبيض بالذات. وحيال هذا الوضع يطرح العديد من الأسئلة من دون العثور على إجابات محددة، ومنها: ? ان مشروع تقسيم العراق لم يعد شائعة ولا خطاباً ولا دعوة... بل أصبح"طموحاً أميركياً واضحاً"يدعمه الكونغرس بأكثرية الثلثين والمراحل الأخرى التي ستلي، رغم إعلان الرئيس بوش المعارضة من حيث التوقيت ربما - فقط لا غير. وهذا يعني أن"العرقنة"هي التيار الجديد الزاحف إلى المنطقة وعليها، فكيف سيتم التعبير عنه في مناطق أخرى متاخمة للعراق أو في دول الجوار العراقي القريب منها والبعيد؟ ? هل ستتم مقاومة هذا المخطط بشكل فعلي أم أن المقاومة - إذا وجدت - لن تكون مؤثرة ولا فاعلة في المسيرة الفعلية في سياق مخطط التقسيم؟ ? عندما قامت الحروب اللبنانية في منتصف السبعينات سادت موجات من الخوف والقناعة بأن تقسيم المنطقة سينطلق من لبنان، وعزز هذه المشاعر اعداد الكثير من الهيئات والمراجع التقسيمية. والسؤال: بعد القضاء على إرهابيي نهر البارد الذين استخدموا أسلوب"العرقنة"، باعتراف المراجع الأمنية الرسمية، فكيف يمكن حماية لبنان من العرقنة، أو من صيغة أخرى لا تزال تنفخ في أبواق التقسيم، إذا لم يتم التوصل إلى وفاق حقيقي يبدأ باختيار الرئيس الجديد للجمهورية والسعي إلى تقريب فجوات الخلاف القائمة بين"الموالاة"و"المعارضة"؟ فهل أن عرقنة العراق تجري الآن على مرأى ومسمع من الجميع، والبقية تتبع؟ أما رفض البيت الأبيض الموافقة على التصويت الذي جرى في مجلس الشيوخ فلا يشكل التطمين الكافي أوالمستند إلى صدقية في المواقف بل إلى اضطرابات خطيرة في الرؤية المهيمنة على أفكار ومخططات التوجهات الأميركية خاصة في عهد الإدارة الأميركية - الحالية. لذا فإن موقف البيت الأبيض مشكوك في صدقيته وفي نسبة إعلانه الحقيقة، إلى أن يثبت العكس. لأن الرئيس جورج دبليو بوش وسياساته مشكوك بجدواها وصحتها وهي دائماً في قفص الاتهام خاصة في العراق وفي منطقة الشرق الوسط برمتها. * إعلامي وكاتب لبناني