دشنت زيارة الرئيس فلاديمير بوتين الأخيرة إلى الشرق الأوسط مرحلة جديدة في السياسة الخارجية الروسية تجاه المنطقة عموماً, وحيال إيران خصوصاً، على رغم أن الزيارة اقتصرت على مصر وإسرائيل وأراضي السلطة الوطنية الفلسطينية ولم تشمل إيران. إذ أن موسكو وبعد التغيرات التي عصفت بالمنطقة من جراء احتلال العراق، استهدفت بالزيارة - كما يبدو- الانفتاح على تل أبيب ومحاولة لعب دور في الشرق الأوسط, ولكن عبر البوابة الإسرائيلية هذه المرة، على عكس ما أرست موسكو عليه سياستها الخارجية في المنطقة طيلة الفترة الممتدة من قيام الدولة العبرية وحتى الآن. وفي حين جاءت المحطة الأولى لزيارة الرئيس الروسي إلى مصر في إطار العلاقات البروتوكولية بين البلدين بحيث اشتملت على دعم روسي للمساعي المصرية للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن الموسع في مقابل دعم مصري لانضمام روسيا إلى منظمة التجارة العالمية، اتخذت زيارته لإسرائيل طابعاً آخر. فهي الأولى التي يقوم بها رئيس روسي لإسرائيل، وهي التي تضمنت توقيع اتفاقات للتعاون الأمني ومكافحة "الإرهاب الإسلامي"، وتغطت بمبادرة روسية لمؤتمر دولي حول السلام في الشرق الأوسط، سرعان ما وأدتها تل أبيب وواشنطن بعد ساعات من إطلاقها. أما زيارة بوتين إلى أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية فلم تتعد التقاط الصور التذكارية مع الرئيس محمود عباس أو عند قبر الزعيم الراحل ياسر عرفات. يمكن النظر إذن إلى زيارة بوتين للمنطقة على أنها زيارة إلى إسرائيل بالأساس مع محطات توقف بروتوكولية في القاهرة ورام الله، وهناك في الدولة العبرية قدم بوتين بادرة لمضيفيه، الذين يحتكرون القدرات النووية في المنطقة، تمثلت بتصريح غاية في الأهمية مفاده أن "على إيران أن تطمئن العالم في شأن برنامجها النووي". كانت إيران الغائب الحاضر في زيارة الرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط، لأن الملف النووي الإيراني غدا بفعل الجهود الأميركية والإسرائيلية موضوعاً يتصدر أجندة العمل الدبلوماسي والإعلامي الدولي، ولأن موسكو هي أحد الداعمين الأساسيين لبرنامج التكنولوجيا النووية الإيراني، وهي فوق كل ذلك الحليف الأول لطهران على المستوى الدولي. وتكتسب تصريحات بوتين السالفة الذكر أهمية خاصة لأن إيران هي البلد الشرق أوسطي الوحيد ربما الذي ما زالت روسيا أحد اللاعبين الرئيسيين فيه، في حين أنها كفت عن أن تكون كذلك في الدول العربية منذ عقود خلت. كما أن توقيت الزيارة أثناء الحملة الإسرائيلية والأميركية على إيران وملفها النووي"والتلويح الإعلامي المتكرر بضربات عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، وتصريحات بوتين في هذا السياق وذلك المكان"تأتي لتشي بأن هناك تحولاً في مواقف موسكو إزاء طهران. تدعمت العلاقات الروسية - الإيرانية في الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم، بحيث صارت الروابط بين البلدين أحد ركائز السياسة الخارجية لهما في عالم ما قبل 11 أيلول سبتمبر، وحتى غدا التحالف الإقليمي بينهما علماً على المنطقة الجغرافية الممتدة بين منطقة بحر قزوين وآسيا الوسطى في الشمال وحتى أفغانستان في الجنوب. والتقت الأولويات الإستراتيجية لكل من موسكووطهران في مواضع جغرافية شتى ومسائل إقليمية ودولية متباينة، مما ساهم في رفع العلاقات الثنائية بين البلدين إلى مصاف التحالف الإستراتيجي, وذلك على رغم عدم الإعلان عن وجود إطار مؤسسي لهكذا تحالف، وعلى رغم الإرث التاريخي المرير والحروب التي خاضها البلدان، تلك التي جعلتهما على طرفي نقيض في جبهات القتال في القرن التاسع عشر. تجذر التحالف الروسي - الإيراني في تسعينات القرن المنصرم، بسبب ما أفرزته الإدارات الأميركية المتعاقبة حيال البلدين من سياسات، وهو الأمر الذي جعل التقارب بين الجارين اللدودين تاريخياً ضرورة استراتيجية لحفظ مصالح كل منهما. إذ دفع الحصار الأميركي المفروض على إيران صانعي القرار في طهران إلى المزيد من التوجه نحو موسكو. وزاد في تمتين التحالف الروسي - الإيراني انخراط الولاياتالمتحدة في منطقة آسيا الوسطى ومزاحمتها للنفوذ الروسي هناك في تعزيز مواقع الجناح المؤيد للتقارب مع إيران داخل السلطة الروسية، وهو الجناح المتشكل أساساً من المجمع العسكري الصناعي الروسي وقطاعپ الطاقة ممثلاً بشركات النفط وشركة "غازبروم" العملاقة، على حساب الجناح المعارض لخصوصية هذه العلاقات، الذي يتكون عموده الفقري من الكومبرادور الروس وكتل مهمة من رأس المال التجاري الروسي وممثلي المصالح الأجنبية في موسكو، وهو الجناح الذي يتأثر بمواقع أصدقاء الولاياتالمتحدة في روسيا واللوبي اليهودي النافذ التأثير هناك. لكن صورة العلاقات الروسية - الإيرانية اختلفت بعد أحداث 11 أيلول بشكل حاد، إذ أن غالبية نقاط الالتقاء الروسية - الإيرانية اهتزت بفعل التغيرات التي تلت حربي أفغانستانوالعراق، وبفعل تغليب كل من موسكووطهران لاعتبارات المصلحة الوطنية على تحالفهما الذي دام أكثر من عقد. وأصبح هذا التحالف عائقاً أمام كل من طرفيه للانطلاق نحو الالتحاق بركب التغيرات الحادثة في المنطقة، وللمفارقة بسبب نقاط الالتقاء التي شددت من تحالفهما. فلم تعد هناك حركة "طالبان" تحكم في أفغانستان، ولم يعد هناك تهديد جدي قادم من أفغانستان لزعزعة استقرار دول آسيا الوسطى، وهو التهديد الذي حكم الموقف الروسي المعادي لحركة "طالبان". كما أصبحت مسألة تقسيم الثروات في بحر قزوين من النفط والغاز الذي يطل عليه البلدان موضوعاً مؤجلاً من وجه ثان، خصوصاً بعد إبرام موسكو لاتفاقات ثنائية مع غالبية الدول المطلة على البحر لتقسيم ثرواته وبما يخدم مصالحها الوطنية في مقابل موقف إيراني محاصر دبلوماسياً وقانونياً في قضية تقسيم البحر إلى قطاعات وطنية. ومن وجه ثالث هبطت وتيرة التوتر في القوقاز وبضمنه النزاع الأرميني - الأذربيجاني، بسبب تبديل واشنطن لتحالفاتها هناك، بحيث أمست أذربيجان مرتكزاً أساسياً للولايات المتحدة أمنياً ونفطياً وسياسياً في منطقة القوقاز، وزادت حظوظها الإقليمية بالتالي في مقابل غريمتها أرمينيا المدعومة روسياًوإيرانياًً. والحال أن روسيا نجحت مرحلياً وبالوسائل العسكرية في قمع حركات الاستقلال في الشيشان، واستمرت بالتالي في الاحتفاظ بإطلالتها الرئيسة على منطقة بحر قزوين عبر الشيشان وداغستان. وهنا كفت جمهورية إيران الإسلامية، والصامتة على ما يجري في الشيشان حرصاً على تحالفها مع موسكو، أن تكون غطاء إعلامياً ودبلوماسياً لروسيا.كان من شأن كل هذه التطورات أن تساهم في تراجع أهمية التحالف الاستراتيجي مع إيران من المنظور الروسي، بحيث أصبح الملف النووي الإيراني عاملاً مشجعاً على التقارب بين البلدين، ولكن بصورة منفردة وليس عاملاً في حزمة من العوامل كما كانت الحال في التسعينات من القرن المنصرم. وعلى رغم تراجع أهمية إيران لدى موسكو في رسم سياستها الإقليمية في ضوء تغير صورة المشهد الإقليمي بعد أحداث 11 أيلول، إلا أن الجانب الثنائي في العلاقات الروسية - الإيرانية مازال مهماً للطرفين. فالمصالح الوطنية لكل من روسياوإيران تجد تطبيقاً عملياً على صعيد التعاون الثنائي في الجانب الاقتصادي والعسكري، فروسيا ما زالت راغبة في التعاون اقتصادياً مع إيران لأسباب مختلفة. وأول هذه الأسباب تثبيت أقدام موسكو في سوق النفط والغاز الإيراني، خصوصاً بعد الحظر الذي فرضه الكونغرس على الاستثمارات الأميركية في قطاع النفط الإيراني، وذلك لانعاش الاقتصاد الروسي الذي كان وما زال يعاني من أزمات مالية خانقة. وتمثل ثاني الأسباب في هدف الاحتفاظ بالسوق الإيرانية كمستورد أساس للسلاح الروسي، باعتباره أحد أهم الصادرات الروسية إلى الخارج. وثالث الأسباب يتخطى النفع المادي، ويتعداه إلى حد التأثير بالعقيدة العسكرية للقوات المسلحة الإيرانية، ناهيك عن ربط الاحتياجات الإيرانية لسنوات مقبلة بالتوريدات الروسية. أما إيران فحاولت الاستفادة من الخبرات الروسية في مجال تصنيع الأسلحة والارتقاء بمستوى قدراتها العسكرية، عبر شراء الأسلحة الروسية وبخاصة الصواريخ القادرة على الردع لمسافات بعيدة، وليس آخرا الانضمام إلى النادي النووي عبر تدشين المفاعل النووي الإيراني قرب مدينة بوشهر. وكان المفاعل قام أساساً بمعونة فنية ألمانية زمن الشاه المخلوع، وبعد انسحاب ألمانيا من المشروع عقب انتصار الثورة الإيرانية، حاولت إيران بشتى الطرق إيجاد مورد للمواد الازمة لتدشين المفاعل ورفده بالكادر العلمي اللازم، فلم تجد لمساعيها أذاناً صاغية إلا في موسكو. هبطت العلاقات الإيرانية - الروسية بفعل التغيرات الإقليمية بعد سبتمبر 2001 من مصاف التحالف الاستراتيجي إلى مستوى العلاقات المتميزة اقتصادياً، وبالتالي تتثبت حسابات الربح والخسارة الروسية الآن عند هذا السقف المنخفض نسبياً في تعاملها مع إيران، ولا تتخطاه إلى حسابات التحالف الاستراتيجي التي لا تتقيد بعامل واحد فقط عند صنع قرار السياسة الخارجية. وعلى خلفية تصريحات بوتين في إسرائيل في شأن الملف النووي الإيراني، يمكن استنباط أن موسكو تلوح بورقة هذا الملف كي تلعب دوراً في المنطقة من طريق البوابة الإسرائيلية، وهو الأمر الذي يدشن عملياً نهاية التحالف الروسي - الإيراني في المنطقة. ويتمثل مأزق النظام الإيراني في الفجوة القائمة بين طموحاته النووية وصورة التوازنات الحالية في المنطقة بحيث أن تغير أولويات السياسة الخارجية الروسية القائمة على أساس المصالح ? شأنها شأن غيرها- يجعل طهران مكشوفة أكثر من أي وقت مضى أمام ضربات عسكرية استباقية لمنشآتها النووية من طرف إسرائيل. كاتب مصري متخصص في الشؤون الايرانية والتركية.