1 هاتفني صديقي المخلص - بعد نشر مقالتي الأسبوع الماضي - ليقول لي بكل حدب وحنان: يا رجل... تنقطع عن الكتابة كل هذه المدة، ثم تعود بمقالة عن سباق التسلح وتجار الحروب وإدمان العسكرتاريا!؟ ألم يكن من المستحسن من أجل لياقتك الكتابية وعدم إجهاد عضلات الأصابع والضمير أن يتم التسخين بمقالة خفيفة في شأن ثقافي أو أدبي أو اجتماعي، بدلاً من القفز من الشاطئ إلى الأعماق المظلمة الملغومة أحياناً! أتفهّم نصيحة صديقي الودود، بل أشعر بصدقية ما جاء فيها، خصوصاً في ما يتعلق بلياقة الكاتب التي أومن بها إيماناً أكيداً، بأن الكاتب مثل اللاعب، حين ينقطع عن الكتابة مدة طويلة تتراخى عضلات يديه مثلما تتراخى عضلات رجلي اللاعب، وينكمش ذهنه الكتابي مثلما تنكمش رئتا اللاعب عن الركض. كل ما قيل آنفاً صحيح، لكن... هذه هي تبعات مأزق الكتابة في صفحة"الرأي"، إذ تصبح ملزماً بأن تختار لمقالتك الأسبوعية موضوعاً"بغيضاً"كريهاً عويصاً، يليق بتقطيبة جبين صفحة الرأي! هذا الانطباع التصنيفي يسري على كل صفحة رأي في كل صحيفة، لكنه يتضاعف ويتفاقم في صفحة رأي"الحياة"، لأن صحيفة"الحياة"نفسها صحيفة جادة ورصينة ونخبوية، كما هو الانطباع السائد عنها، فكيف ستصبح صفحة"الرأي"الرصينة عرفاً... في صحيفة رصينة أصلاً؟! لا أدري إن كان الذي قلته آنفاً مدحاً أم ذماً بحق الصحيفة والصفحة وكتّاب الرأي؟ سيقرر ذلك الرقيب! 2 هل تخيلتم أحداً من كتّاب الرأي مبتسماً؟ هل قرأتم يوماً مقالة في صفحة الرأي دعتكم إلى الضحك أو مجرد الابتسام؟ هل توقعتم أن تقرأوا يوماً في صفحة الرأي مقالاً لدريد لحّام أو عادل إمام أو حسين عبد الرضا، أو حتى لكتّاب ساخرين كجهاد الخازن أو جعفر عباس أو عبدالعزيز السويّد، رغم مرارة وجديّة ما يكتبون، لكن طبيعة كتاباتهم الساخرة لا تؤهلها كما يبدو لصفحة الرأي! حسناً... أجدني أصبحت ملزماً الآن أن أدافع عن زملائي كتّاب صفحة الرأي، فهم ليسوا مقطبي الجبين كما قد يظن القرّاء، أو أنهم لا يجيدون لعبة السخرية، أو أنهم صائمون عن الابتسامة صيام داود... فهم يبتسمون يوماً ويقطّبون يوماً! أيها الناس: إني أعلن لكم اليوم سرّاً لطالما تم كتمانه عن القرّاء بحق وغير حق، حق سر المهنة... وغير حق الشفافية. أعلن لكم اليوم أن كتّاب الرأي هم بشر يأكلون كما نأكل ويضحكون كما نضحك ويتألمون كما نتألم ويمشون في الأسواق! لكن الله قدّر عليهم أن يكونوا من كتّاب الرأي، مجنّدين في سبيل الحديث عن مآسي البشر وفواجع الكون وأقذار السياسة وأتون المعارك. لا يكتبون عن هذه المواضيع أو المواضع بطوعهم وإرادتهم، بل لأن أرزاق الكتابة قد قُسّمت بين البشر، فكان من الناس من يكتب في صفحة الثقافة ومن يكتب في صفحة الرياضة، ومن يكتب في صفحة القرّاء من"البروليتاريا"المحدودي الدخل الكتابي، ومن يكتب في الصفحة الأخيرة من أرستقراطيي الكتّاب، أما الكتابة في الصفحة الأولى فتلك درجة لا يبلغها إلا ذو حظ عظيم... في الصحيفة! وحين قُسّمت أرزاق الكتابة تلك بين البشر كان حقاً على طائفة من بورجوازيي الكتّاب أن يسدّوا ثغرة"الرأي"، فهي مضغة الصحيفة.. إذا صلحت صلحت الصحيفة، وإذا فسدت فسد القرّاء! 3 وحيث قدّر الله عليّ أن أصبح"رسمياً"من كتّاب الرأي منذ الأسبوع الماضي إلى أجلٍ لا أظنه سيطول !، فإني أحمد الله أن جعلني من كتّاب الرأي ولم يجعلني من كتّاب"الرعي"! وإذا قُدّر لهذه المقالة الخنفشارية التي امام أعينكم الآن أن تنشر في صفحة الرأي هنا كما هو متفق عليه مسبقاً، فسيكون هذا أول مسمار يدقّ في نعش"هيبة"صفحة الرأي! * كاتب سعودي