الثقافية - محمد هليل الرويلي / تصوير - نورة العمرو: ساخرون من الحياة وأهلها حين يميل أهل الحياة لمحور الشر، وينتشر الفقر ويتعاظم القهر بين الناس، ويوسوس الخناس بين الدم واللباس، ويتثاقل اليأس حين يكون السواد سيد الألوان، يصبغون الليل بالنور، وحين تمتلئ ماتحت الطاولات «بشيكات» الفساد ويضيع حق العباد فيشاء رب العباد أن تتفجر القنابل الموقوتة من «رؤوس» أقلامهم المسمومة على «كروش» المأزومين والأباطرة الساقطين، يراهم الفاجر كفارا، ويراهم المؤمن أطهارا، أولئك هم الساخرون حقًا. لغتهم الحرف الحر في زمان قل فيه الأحرار، لسانهم القلم به يخففون الألم ويمضون إلى طريق الحلم يجففون دموع الشوارع بالشموع، أولئك هم الساخرون في الحياة. «الثقافية» تتبعت خطى أقلام «رموز» السخرية في الصحافة السعودية كيف يسنون رماحهم وفي وجه من يقفون، في هذه المساحة التي اخترناها لكم اليوم نقف عليها بجوار نوافذهم وبين عصافيرهم وفراشاتهم علنا نشاهد لما هم ساخرون.. طباخ السم يتذوقه الكتابة الساخرة تظل نافذة للرمي والرجم والتنكيل بالفاسدين خصوصًا في وجه المسؤول الفاسد أوالذي لايفقه شيئًا ويتسيد بعض الكراسي يستخدمها الشعراء وكتاب الزوايا من أصحاب القلم الحر ويتلقفها الشارع وكأنها تشفي غليله! حول هذا الموضوع يعلق الكاتب الأكثر سخرية محمد السحيمي: بالنسبة لتجربتي المتواضعة الأمر مختلف تماماً، فلم أكتب يوماً للرمي والتنكيل وشفاءً لغليل الشارع وحسب، بل هدفت ومازلت إلى نشر العدوى بالسخرية إلى كل (مواااطٍ) ليشفي غليله بنفسه!! وأزعم أنني نجحت إلى حدٍّ بعيد بدليل كثرة التعليقات الساخرة من القرّاء على طرحي نفسه، فلا بد أن يذوق الطباخ السم الذي يدسه ولو بعد حين! «الدمع من زحمة الآلام يبتسمُ» وعن اشتهار الكتابة الساخرة في بعض البلدان العربية خصوصا في مصر والعراق وفلسطين وبلدان أخرى تفشت فيها المعاناة بسبب الفقر والتنكيل من بعض الأنظمة القمعية وشعر بسببها الشارع العربي أنه مسحوق فأطل من خلال نافذة الكتابة الساخرة. يقول السحيمي مالم أنجح فيه إلى اليوم هو إقناع المتلقي بنظريتي الشهيرة عندي فقط وهي: «أن السخرية هي أعلى مستويات الجدية! والجدية هي أدنى مستويات السخرية!» وبناءً عليها فإن دواعي ظهور القلم الساخر هي «شر البلية» كما في المثل العربي، و»الدمع من زحمة الآلام يبتسمُ» كما يقول بابا طاهر زمخشري، «ويا نفسُ جِدِّي إن دهرك هازلُ»، كما يقول (بابا) العلاء المعري.. وحول ضعف المنتج في صحافتنا السعودية بين كتابنا وشعرائنا ومثقفينا يأسف السحيمي ويستدرك لكن معظم من يمارس الكتابة الساخرة ينطلق من مفهوم خاطئ يختزلها في مجرد الإضحاك وتكلف «الإفِّيهات» والنكت التي هي في أحسن أحوالها تندرج تحت فن «التهريج»، وهو فن محترم له أربابه لكنه يختلف عن الكوميديا التي يفترض أن تندرج تحتها الكتابة الساخرة!! السحيمي لايرى أحدًا .. وعن أبرز الأقلام في وسطنا الصحافي والإعلامي بشكل عام والمواضيع التي تستثري دفق القلم بسخرية على صدر أوراق المواطن والشارع .. لايرى السحيمي أحدا ويزيد إذا اتفقت معي أن مجرد الإضحاك ليس من فن الكتابة الساخرة؛ فستردد معي: إني لأفتح عيني حين أفتحها على كثيرٍ ولكن لا أرى أحداً، ويتابع تأثير وسائل (التفاصل) و(التسافه) الاجتماعي على الكتابة عموماً وعلى الكتابة الساخرة تحديداً!! وهو في زعمي تأثير مدمر إذ يهتم بالكم على حساب النوعية؛ فقد مسخ الإعلام الحديث الكتابة عموماً في يوميات يلمِّع فيها الكاتب شخصه الكريم أو الكريه على حساب (المبدع) فيه! ولم يسلم من زبد هذا (التسونامي) حتى كبار الأسماء !! واختر اسماً واحداً تراه كبيراً وقارن بين طرحه قبل (تويتر) وطرحه بعدها؛ لتدرك هول الكارثة التي تنتظرنا وقد سلمنا القيادة لجمهور لا تفرق أغلبيته الكاسحة بين التاء المربوطة والمفتوحة، ولا بين الظاء والضاد! والويل لنا حين يكتشف هذا الجمهور يوماً أننا غدرنا به ولم نأخذ بيده نحو الصحيح، ولو أغضبناه! السخرية ليست خيارًا.. ولا يظن كاتب الصفحة الأخيرة في صحيفة عكاظ الأكثر عمقًا وتأثيرًا والأوسع جدلًا وصخبًا خلف الحربي أن السخرية خيار كتابي بقدر ما هي سلوك عفوي، بمعنى أن الكاتب لا يقرر مسبقا أن يكتب مادة ساخرة بل الحدث هو الذي يدفعه إلى ذلك دفعًا، قد يظن بعضهم أن الكتابة الساخرة هي الطريق الأسهل لما تحتويه أحيانًا من بساطة ظاهرة وهذا غير صحيح أبدًا فالواقع يقول: إنه من السهل جدًا أن تبكي الناس ولكن من الصعب أن تضحكهم، قيمة الكتابة الساخرة تكمن في انحيازها المضحك المبكي وقدرتها على الوصول إلى حالة السهل الممتنع وإلا فإنها ستتحول إلى لعبة هزلية غير مؤثرة ويؤكد الحربي لعل أهم ميزات الكتابة الساخرة سرعة وصولها إلى قلوب الناس وقدرتها على توجيه ضربات موجعة للموضوع محل الانتقاد أما أكبر عيوبها فيكمن في صعوبة شرح تقنياتها وتفكيك أسرارها كما يحدث لي الآن معكم في هذا التحقيق!. مواقف مشرفة مع المجتمع: ويصف الكاتب بصحيفة الوطن هايل الشمري المقال الساخر بأنه كغيره من فنون الأدب الساخر، كالقصيدة والكاريكاتير والقصة والمسرح وغيرها، له موقف مشرّف مع مجتمعاتها. فالشعوب التي عانت من التنكيل عمدت إلى هذا النوع من الكتابة لإيصال رسالتها، لذا كلما انخفض سقف الحرية ارتفعت معه قامة السخرية التي تعتمد على المبالغة في الوصف والرمزية في الغالب لتجنب الوقوع في فخ الرقيب. ويؤكد: جرت العادة أن تكون العلاقة غير جيدة بين الكاتب الساخر والمسؤول عن إجازة النصوص، نتيجة عدم تفهم الأخير للسخرية الهادفة، وخوفه من أن فيها تأليباً للرأي العام على السلطة، أو تجاوزاً على مكانة جهاز حكومي ما، أو استفزازاً لمسؤول ما والتقليل من شأنه، ولو كانت حروف المقال أبعد ما تكون عن تُهم الشخصنة والخروج عن الذوق العام. من ذلك تبدأ رحلة «قصقصة» أجنحة المقال حد التشويه، ليخرج نصاً مختلاً لا يروق لكاتبه قبل القارئ. ويرى الشمري أن اختلاف اللهجات أيضا قد يكون سبباً في انحسار مد المقال الساخر في الصحافة المحلية، فالكاتب الساخر كثيراً ما يلجأ لاستعارة مفردات مفردة شعبية كي يظهر المعنى عميقا. لكن في بلد كالسعودية المفردة التي يراها قارئ في منطقة ما ساخرة حد الإضحاك قد تكون في منطقة أخرى عادية أو ربما بذيئة وغير مقبولة اجتماعيا. وهذا الأمر ما جعل الكتابة الساخرة في مصر ذات انتشار واسع لكون اللهجة هناك واحدة تقريبا. ويتابع أعتقد أن المقال الساخر أكثر صعوبة من بقية أنواع المقالات الأخرى، إذ بإمكان أي كاتب استدرار عواطف القارئ في مقال عاطفي يجعله يسكب الدموع، لكن من الصعوبة بمكان كتابة مقال يجبر القارئ على الابتسامة. لذا يهرب كثير من الكتّاب عن هذا النوع خوفاً من تهمة «التهريج» مثلا. ليست عقابا هي بصقة صامتة ويؤكد صاحب القلم الساحر الساخرفي صحيفة الشرق فهيد العديم أن الكتابة الساخرة ليس عقاباً للفاسد، هي أقرب لآهة ينفثها الكاتب احتجاجاً على الفساد، المعني (المريب) يعتبرها بصقة لكنه لا يخبر أحداً بذلك، قَدر الساخر إن الإجابات المُعدة سلفاً لا تقنعه، يريد إجابة توازي حرارة سؤاله، أي إجابة تتذاكى يعتبرها سخرية من عظمة تساؤله، الكاتب الساخر هو شخص «جاد أكثر مما ينبغي». اسألوا يوسف الثنيان وعن السؤال العصي لماذا نكتبها يجيب العديم: الكتابة الساخرة كغيرها من الفنون، بل إن سؤال الكتابة ذاتها «لماذا تكتب ؟» رغم كثرة من حاولوا الإجابة عنه ظل هو السؤال العصيّ، لستُ ممن يحاول أن يبحث عن إجابة لأسباب نشأة أو وجود الكتابة الساخرة، أن تسأل الكاتب لماذا يكتب بأسلوب ساخر كأن تسأل يوسف الثنيان عن سبب اختياره للعب بهذه الطريقة الفاتنة، ولستُ مع طريقة مقارنات بين الكتّاب الساخرين، لأسباب ليس أقلها إن الكاتب الساخر نادر» لكنه ليس عملة!» فالكاتب الساخر مصاب ببعد نظر، لا يرى السقف، أي أنه أعلى من الكاتب الجديّ الرزين، ولهذا تحاول الصحف أن تعالجه كي «ينزل» لدرجة الكتابة العادية! إذا استفز .. إذا تسلطن وعن قلة من يمارس هذا الدور النوعي في صحافتنا سوى في بعض نقد الخدمات البلدية والصحية وسقطات أخرى تدعو للسخرية يجزم العديم إن السبب يعود للصحافة ذاتها، ويضيف الساخر كاتب نزق ومشاكس ويترك الكثير من الجُمل مواربة تقول للقارئ: أنت وفهمك !، وهذا مايجعل الصحافة تتوجس من الساخر لأن جمله تزعج كثيراً مما يعتقدون أنها تعنيهم حتى لو لم يكونوا هم المعنيين! وعن أبرز الأقلام في وسطنا الصحافي والإعلامي يعلنها العديم بكل شفافية بالنسبة لي كقارئ فإنني أنتشي مع محمد السحيمي إذا أُستُفِز، وخلف الحربي إذا تسلطن. كل ماحولنا مدعاة للسخرية: إنها سلاح أكثر تأثيرًا وأقوى مفعولًا: ويتساءل ماجد رائف لماذا السخرية؟: و كل ما حولك مدعاة للسخرية، أرأيت الأثرياء من حولك كيف يطوفون العالم لجمع المزيد من المال ثم يطوفوا العالم ثانية للعلاج، كيف يصبح الطبيب الحاذق في قائمة المرضى ذات يوم، كيف يصبح باب النجار مخلعا و هو مشغول بتثبيت باب جاره ؟ تأثير السخرية: السخرية هي سلاح أشد «فتكا» من قرارات الإقالة، أكثر «تأثيرا» من اللجان المشكلة، وأقوى «مفعولا» من بيانات الشجب والاستنكار. السخرية هي الدخول مع النافذة حين تكون الأبواب موصدة، هي التحايل من بين شفرتي مقص الرقيب، وهي قول (لا) في صيغة (نعم) !. وعن ارتباط الكتابة الساخرة بالبيئة يقول رائف: ذاك طبيعي جدا، فكلما ضاقت الطرق و انحصرت الخيارات عاد الموجوع لقلمه، وانصاع القلم لوجعه، وكلاهما يواسي الآخر بطريقته، وحينها لا تسل عن أي قطعة أدبية ستخرج وسط تلك البيئة الخصبة. ويتابع قلة ممن يستخدمون الأسلوب الساخر في الصحافة السعودية: وفي اعتقادي أن ضعف استخدام السخرية في الصحافة السعودية هي حاجتها لنوع معين من الكتّاب الذي يملك الموهبة أولا، ثم يستطيع توظيفها مع معاناة الشارع ثانيا، وأن تكون لياقته عالية في مضمار الكتابة ولأن هذه الاشتراطات لا تتوافر في الكثيرين فسنظل نعاني من قلة الأعمدة الساخرة.. متى أراد أن يكتسح المشهد ويختم الكاتب الساخر في صحيفة الوطن ماجد رائف: لدينا أسماء مميزة في هذ الاتجاه فمن المتقدمين يبرز، غازي القصيبي، و محمد السحيمي، وأما المتأخرون فسعيد الوهابي متى أراد سيكتسح المشهد.