إنها جبال كردستان التي اعتادت الحروب، وأدمنت رائحة البارود والدم المراق. حيثما تتَّجه، تراها تحيط بك، قممها فوق الغيوم، مسالكها صعبةٌ، وقطعُ بضع مئات من الأمتار منها، قد يستغرق ساعاتٍ. منحدراتها سحيقة، لا تلمح في قيعانها إلا قتامة الهلاك المُتلهِّف لرؤية تعثُّر قدميك. جبالٌ تُحدث في النَّفْسِ الرهبة والمهابة والخوف والدهشة والإعجاب في آن، اسمها جبال"قنديل"، وهي جزء من سلسلة جبال زاغروس التي أوقفت فتوح الاسكندر الكبير، إنْ لم نقل ردَّته على أعقابه. وعلى رغم غزارة تداخل الشجر بالحجر في هذا المكان، إلا أن قاطنيه من البشر، هم جزء تاريخي من هذه اللوحة الطبيعية البديعة. ومهما حاول السكَّان هنا، النأي بأنفسهم عن مسارح المدن التي تعجُّ بتعقيدات السياسة وأزماتها الداخلية والإقليمية، واتخاذ الجبال ملاذاً آمناً، يجدون أنفسهم دوماً في عين الأزمة، وأولُّ من يدفع ضريبة الحروب الأهلية والإقليمية، إنْ اندلعت، وأولُّ من يتمُّ نسيانه إن خمدت. أسماء قراهم النائية الهامشية البسيطة، ببيوتها الحجرية المنخفضة الأسقف، باتت عناوين مهمة، تتصدر كبريات الصُّحف العالمية، وتتخلل التقارير الإخبارية التي تعرضها شاشات الفضائيات، عن القصف المدفعي الإيراني - التركي لها، من دون أن يضع ذلك حدَّاً للمأساة المستمرَّة، نتيجة تواجدهم في المثلث الحدودي الملتهب. وذكر قرويون أكراد عراقيون قاطنون في قرى هذا المثلث على الحدود الايرانية - العراقية، في جبال قنديل، بأنه مضى أكثر من شهر، وهم عُرضة للقصف الإيراني، لمجرَّد أنهم أكراد، وأن أسباب القصف سياسية، منها، جرّ الأكراد الى دوَّامة اقتتال داخلي بين الأحزاب الكردية. ومضى أكثر من شهر، وقرى المنطقة تتعرَّض ايضاً لقصف مدفعي مشترك من الجيشين التركي والإيراني. وهذه القرى هي:"ماردو 25 منزلاًاً،"سورغُلا 20 منزلاًاً،"فوكا رش 5 منازل،"ركَّا العليا وركَّا السفلى 15 منزلاً،"زاوكيه 20 منزلاً، و"علي رشِّيه 5 منازل، إضافة إلى قرى"به سته"و"جم كه"و"شه نيه"و"لكلا سبي"، التابعة لمنطقة"قلعه دزَّه"، المحسوبة إداريَّاً على محافظة السُّليمانية. ومن بين هذه القرى، تمَّ إخلاء قرى"ماردو، وپ"ركَّا العليا"، وپ"ركَّا السفلى"من سكَّانها، والقرى الباقية، لا يوجد في كل منها سوى عائلتين. وأوضح بيلوت إبراهيم، 60 سنة، وهو من سكَّان قرية"سورغُلا"، بأن سبب القصف ليس حزب العمال الكردستاني PKK أو حزب الحياة الحرَّة الكردستاني PJAK. وخلال شهر واحد، تعرَّضت قريتهم أربع مرَّات للقصف، ما أدى الى إحراق الكروم، والحقول والبساتين المحيطة بالقرية، والى نفق مواشيهم. وأردف:" لم أجد نفسي إلا في هذه القرية. وإن لم تخنِّي الذاكرة، فأن صدَّاماً أحرق بيتنا عشر مرَّات. الأكراد هنا، في هذه الجبال، كانوا ومازالوا عرضة للضرب والقتل والتهجير. صدَّام قصف الكرد، وإيران تقصفهم... وفي الحروب الناشبة بين هذه الدول، المتضرِّر الأول هم الكرد". أمينة علي حسيني، فتاة كردية، 20 سنة، من أهالي قرية"ماردو"، لم تكمل دراستها قالت:"لفترة طويلة، والجنود الإيرانيون، يقصفون القرى الحدودية. هي المرَّة الرابعة أو الخامسة التي نخلي فيها قريتنا، نتيجة القصف، وفي الربيع الماضي أيضاً، مررنا بالحالة نفسها. ولأن القرويين لم يصطحبوا معهم أشياءهم أثناء نزوحهم عن قراهم، هم الآن في ظروف حياتية قاسية للغاية، في مكان تجمُّعهم". ناشدت أمينة حسيني الحكومة العراقية والأمم المتحدة"بأن لا تقفا على الحياد حيال مأساتنا، وأن تتخذا المواقف والإجراءات اللازمة لوقف هذا القصف بشكل عاجل، أضافة الى تعويض القرويين عن الأضرار اللاحقة بهم". وتضيف:"مشكلة الأكراد سياسية، ولا يمكن حلَّها بالوسائل العسكرية والقصف". وككل المناطق الحدودية في العالم، ونظراً لانعدام فرص العمل، يمتهن سكَّان هذه المنطقة التهريب، من وإلى إيران وتركيا, فيدخلون السجائر الأجنبية والكحول من العراق الى ايران، ويأتون بالأقمشة والتوابل والأدوات المنزلاًية منها. وبسبب وعورة المسالك والطرق الجبلية، لا يتم ذلك إلا على ظهر البغال. لكن، المهنة الأكثر انتشاراً هي زراعة الخضار، وتربية المواشي. وأوضح أحمد عبدالله، 37 سنة، وأب لثمانية أطفال، من سكَّان قرية"سورغُلا"، بأن نمط حياتهم ومعيشتهم قائم على الترحال وتربية الأغنام. ولفت الى ان القصف يعطل إمكان العمل"حال بدء القصف، كل فرد من عائلتي يهرب في اتجاه، من دون أن يعلم إلى أين! الأولاد من جهة، والأم والأب من جهة ثانية. وحتى عندما كان الحزب الديموقراطي الكردستاني هنا، كنّا أيضاً نتعرَّض للقصف والتهجير. وفي حقبة الاقتتال الكردي - الكردي كانت هذه حالنا، قصف وتهجير. ناهيك عن المرَّات العديدة التي تعرَّضنا فيها للتهجير أثناء حكم صدَّام. وها نحن، مجدداً، نتحدث عن القصف، وكيف نزحنا عن قرانا بسبب إيران". وأضاف:"نطالب حكومة الإقليم والحكومة العراقية بتقديم المساعدة لنا على كافة الصعد. ما تقوم به إيران، هو انتهاك لسيادة العراق والإقليم، وخرق للقانون الدولي. وفي أوقات كهذه، على حكومة إقليم كردستان العراق أن تلبِّي نداءنا بسرعة، وأن لا تتباطأ أو تتجاهل معاناتنا". ووجَّه عبدالله انتقادات لاذعة لمسؤولي حكومة إقليم كردستان قائلاً:"نلاحظ أن حكومة الإقليم، غير مكترثة، ولا مبالية بنا. ويبدو أنْه لا يوجد للكُردِ أصدقاء. نقول إن الأميركيين يدعمون الكرد. لكن، واقع الحال يشير إلى أن أميركا تلعب بنا. لم نعد نفهم!؟. مرَّة نجدها مع المخططات التركية - الإيرانية - السورية، ومرَّة مع الأكراد!؟. وينبغي أن تعي القيادات الكردية بأن هدف إيران من القصف، ليس بعض التنظيمات الكردية الإيرانية, الهدف الحقيقي هو كركوك. وقياداتنا في كردستان العراق، ترى أن كل من PKK وPJAK يواجهان إيران لأجل حقوق الكرد في هذا البلد. لذا، نراهم يرددون ذريعة إيران نفسها!. الهدف من القصف التركي - الإيراني هو تأجيل الاستفتاء على كركوك، ويبدو أنهم حققوا هدفهم"في إشارة منه إلى تصريحات القيادات الكردية العراقية التي لمحت الى إمكان تأجيل الاستفتاء في مدينة كركوك المتنازع عليها، والذي كان من المفترض أن يتمَّ قبل نهاية العام الحالي. الطرق البدائية النادرة في هذه المناطق، قسم كبير منها، تمَّ شقُّه إبان حكم النظام العراقي السابق، وقسم آخر، شقَّه القرويون أنفسهم. وذكر القرويون أن مناطقهم مهمَّشة على كل الصعد، من قبل حكومة إقليم كردستان. مختار قرية"سورغُلا"بكر أحمد 61 سنة، أشار إلى أنه ومنذ العام 1991، وهم يتدبَّرون شؤونهم بأنفسهم...ليتعرضوا للقصف من دول الجوار التي تدِّعي بأنها صديقة للكرد! يتحجَّجون بPKK وPJAK، وأقول لهم : أين هم؟!. ربما تتواجد أحد مفارزهم في المنطقة، أو ربما يكونون عبروا الأحراش والغابات هنا. لا وجود ل PJAK في قرانا. مقاتلوه متواجدون في العمق الإيراني. نحن شعب أعزل مظلوم. ونناشد كل دول العالم والمنظمات الإنسانية والخيرية أن تستجيب لندائنا. الشعب الكردي، كغيره، يحق له أن يتمتَّع بالحياة، وإيران تود أن تسلب منَّا هذا الحق. ولأننا أكراد، إيران تعاملنا بهذا الشكل". وذكر أن صدَّام أيضاً كان يعاملهم هكذا,"والآن إيران تقصفنا". وفي وقتٍ، تنعدم في المنطقة المدارس أو المراكز الصحيَّة والمستوصفات الطبِّيَّة، لا شبكات لمياه الشرب، ولا للصرف الصحي، لا كهرباء منتظمة، ولا فرص عمل، ولا خدمات يتحدثون عن معونات أو مواد إغاثة!، إلى الآن، لم يصلنا شيء، ولم يتَّصل بنا أحد". وبصدد الهيئة التي زارت قريتهم، من قبل الحكومة العراقية، ذكر عبدالله انه"قبل أيام، زارتنا هيئة مؤلَّفة من عدَّة أشخاص، قالت أنها آتية من قبل الحكومة العراقية. جمعت كل القرويين، وسألتهم عن القصف، وما الذي أجبرهم على النزوح من قراهم: فقلنا: إيران تقصفنا من ناحية"قبرا حسين"، منطقة حدودية إيرانية، لمجرَّد أننا أكراد. إيران تقول: إنها دولة إسلامية، فمتى كان قتل المسلم للمسلم حلال؟!. هل ما تفعله إيران بنا له علاقة بالإسلام؟!. ولم نكن نعرف أنهم مسؤولون إيرانيون، سقطنا في فخِّهم، لأنهم لم يكونوا يتحدثون كثيراً، فقط يسألون. وأخذوا من كل قرية شخصين أو ثلاثة، بغية الاجتماع بهم". تبدو مأساة هؤلاء المواطنين في هذه المنطقة من كردستان أكبر وأعمق من تلك التي تصيب مواطنيهم في باقي مناطق الأقليم الكردي العراقي. وما زالت هذه المأساة مفتوحة على احتمالات أفظع، وسط تشابك المعادلات الإقليمية والدولية، فضلاً عن أن الشتاء في هذه المناطق بدأ باكراً وله حصَّته في زيادة الوضع سوءاً, فالأمطار الغزيرة، والسيول الجارفة، والثلوج الكثيفة التي يزيد ارتفاعها عن المترين، تضاعف جميعها من قتامة الحياة في هذه المناطق.